عندما تشاهد أحد الأثرياء في فيلم أو مسلسل، وتتخيل نفسك مكانه للحظة، ما الذي تتخيله بالضبط؟ الكثير من الكُتَّاب والفلاسفة اعتقدوا أن ما نتخيله فعليا هو تجليات الحرية. هذا هو ما يُشعل مستقبلاتنا العصبية ويمنحنا ذلك الشعور المؤقت بالمتعة. عمليا، الثراء ليس إلا طريقا للحرية بمعانيها المختلفة.

لذا نتخيل أنفسنا نقود سيارات الأثرياء، ونعيش في بيوتهم، حيث يخدمنا الآخرون، ولا نضطر للتفكير أو التخطيط أو القلق من المستقبل. السبب هنا هو رغبة أجسادنا الدائمة في الوصول إلى وضع الشبع والاستقرار والقصور الذاتي، الوضع الذي تكفي فيه أقل طاقة عضلية وذهنية للحصول على الاحتياجات الضرورية، وحتى غير الضرورية.

السؤال إذن: لماذا قد يشعر ألفونسو ديفيز، أحد أفضل أظهرة العالم، والنجم الأول لمنتخب بلاده، الذي يتقاضى 30 ألف يورو في اليوم الواحد، ويضمن لقبا واحدا على الأقل كل موسم، ويعيش في أثرى وأرقى مقاطعة في ألمانيا، بالوحدة، لدرجة اعتبار نفسه مجرد “فاشل مشهور”؟ (1) (2)

فلنتخيل السيناريو

الآن تخيل أنك ذلك الثري فعلا، وبمجرد استيقاظك، دلفت إلى حمّامك الفخم الملحق بغرفة نومك الواسعة التي تعادل مساحة الشقة التي تسكنها الآن، وبعد أن اغتسلت، خرجت إلى شرفتك لتناول الفطور أمام مشهد ساحر غير متاح لـ99.99% من سكان العالم، ثم انتقيت ملابسك بعد ساعة من الحيرة أمام خزانة تحوي كل ما تمنيته في حياتك، ثم نزلت عبر الدرج.. لا، بل ركبت المصعد.. لا، بل أتى الخدم وحملوك حملا لمرأب السيارات حيث يرقد أسطول من سيارات أحلامك.

انتقيت السيارة المناسبة بعد تفكير عميق فيما ستفعله هذا اليوم تحديدا، ثم أدرت المحرك وانطلقت عبر بوابة حديقتك الآلية التي تعرفت على بصمة صوتك.. دعنا نقف هنا مع سؤال آخر مهم: ما الذي فكرت فيه أثناء اختيار السيارة؟ ما الذي ستفعله في هذا اليوم تحديدا لو كنت حرا بلا مواعيد أو التزامات أو أعباء أو مسؤوليات؟ ما الذي ذهب إليه قلبك بعد أن اطمأننت لامتلاك كل ما تحتاج إليه؟ هل ستقود سيارتك بلا هدف سوى إثارة إعجاب الغرباء؟

أثناء التفكير ستصل إلى جزء من إجابة سؤال ديفيز كذلك، وستكتشف المشكلة الأولى هنا؛ نحن لا نتخيل الخطوة التالية أبدا لأن تفكيرنا محكوم بعقلية الأزمة، والأزمة هنا هي الاحتياج. التفكير في “ماذا بعد؟” هو رفاهية يصعب تصورها ما دمنا مأزومين.

الثراء نفسه ليس إلا وسيلة للغنى بمعناه الحرفي، أي الاستغناء وعدم الاحتياج، وما قاله ديفيز ضمنيا في بثه الحي الأخير عبر “تويتش” (Twitch) هو إنه لم يتوقع أن هذا الاستغناء سيشمل أوقاتا طويلة بدون عائلته وأصدقائه وحبيبته، بلا أحد يشاركه سعادته بما أنجزه.

ديفيز وقع في الفخ ذاته على الأرجح؛ حينما كان مهاجرا مأزوما يحلم بالثراء والنجاح والشهرة، لم يكن قادرا على تخيل ما يتجاوز أزمته، وظن أن كل مشكلاته ستُحل تلقائيا بمجرد تحقيق ما أراده، بالتالي ما أراد التعبير عنه فعليا كان الإحباط. الواقع -مفاجأة- لم يكن بروعة الخيال. (3)

مشكلات العالم الأول

طبعا أنت تقول لنفسك الآن إن هذا هو أعظم إحباط في التاريخ، وتتمنى أن تكون أحد هؤلاء المساكين، حيث أقصى مشكلات الحياة هي ابتعاد الأهل وقلة الأصدقاء والغربة. لا بد أن الشعور بكل ذلك في مغطس الجاكوزي، أو أثناء قيادة المرسيدس، أو على ضفاف حمام السباحة، سيكون مؤلما جدا.

دعنا ننبهك أن تلك هي طريقة التفكير ذاتها التي أوقعت ديفيز في أزمته الحالية؛ حاول أن تتخيل أن درجة الوحدة والاكتئاب التي يعاني منها الرجل قد دفعته إلى مشاركة تلك الآلام والهموم مع آلاف الغرباء على الإنترنت، معرضا نفسه لخطر السخرية والتسفيه وتنفيس الأحقاد، وبالتالي المزيد من العزلة والغربة. هذا هو مدى شجاعة الرجل، أو مدى يأسه، لا نعلم بالضبط

أحد لاعبي البريميرليغ يحكي عن معاناة من نوع مختلف تعيشها زوجته وأولاده، فبعد انتقاله عدة مرات بين نادٍ وآخر، واضطرارهم لتوديع أصدقائهم وجيرانهم في كل مرة، قرروا التوقف عن التعرف على الجيران أو إقامة أية علاقات طويلة المدى بمحيطهم، واستسلموا للوحدة والعزلة، ولحقيقة أن كل ذلك تمت التضحية به لصالح الأمان المادي والرفاهيات الإضافية. (4)

كان هذا جزءا من دراسة أجرتها الجمعية البريطانية لعلم الاجتماع منذ بضع سنوات، اتضح فيها أن الغالبية العظمى من الـ34 لاعبا الذين خضعوا لها، الذين ينشطون في درجات إنجلترا الأربعة المحترفة، قد عانوا من الوحدة والعزلة والاكتئاب، وفي أكثر الحالات، أثَّرت حالة عائلاتهم النفسية على أدائهم في الملعب، ومن هنا، انتقلوا إلى أندية أقل في المستوى، وانزوت مسيراتهم شيئا فشيئا، وبعضهم خسر كل شيء لأن أطفاله وزوجته بدأوا يلومونه على معاناتهم، وبعضهم اضطر للتنقل وحيدا دونهم. (4)

هذه هي اللحظة التي يكتشف فيها الأثرياء المشهورون الناجحون أنهم بشر طبيعيون، غير محصنين من المعاناة والألم. هذا الاكتشاف غالبا ما يكون شديد الوطأة على نفوسهم، وكثيرا ما يمنعهم الكبرياء من الاعتراف به، فالمفارقة هنا أن أكثرهم -وبالذات في مجال ككرة القدم يأتي أغلب نجومه من خلفيات اجتماعية ومادية بسيطة مثل ديفيز- سيشارك المجتمع في جلده لذاته؛ فليس الناس وحدهم مَن سيعتبرونه وقحا، بل هو أيضا سيعتبر نفسه كذلك، لأنه كان في مكانهم يوما ما، وكان ينظر إلى الأثرياء الناجحين المشهورين بالطريقة ذاتها.

مع الوقت، تتحول ممتلكاته التي يحسده الناس عليها إلى تجسيد يومي لهذه الوحدة؛ هذه السيارة هي السبب في كونه لا يستطيع مشاركة همومه، وهذا المنزل الضخم هو ما يمنع الناس من تفهم موقفه، وهذا الراتب في ذاك النادي هو ما يُظهره وقحا كلما حاول ممارسة إنسانيته، وكأنه قايض كل ذلك مقابل الوحدة والعزلة.

وحيد في الكوفيد

العبارة الأخيرة قد تنطبق على أي ثري يقرر الناس نزع إنسانيته، ولكنها انطبقت على أكثرنا أثناء الجائحة. في الواقع، هذا الوقت يُعَدُّ مثالا ممتازا على ما أراد ديفيز التعبير عنه.

يحكي مسؤولو رعاية اللاعبين بالأندية الكثير من القصص المروعة عن معاناة اللاعبين أثناء جائحة كورونا؛ عن أسابيع الحجز المتتالية بالحجر الصحي، والآباء والأمهات الذين توفوا دون أن يحصلوا على فرصة لتوديعهم. (غيتي)

لو كنت قد عانيت من آثار الجائحة، فلا بد أنك تتذكر الملل الذي أصابك بعد أن اضطررت للبقاء في المنزل لفترات طويلة، والخوف الشديد من العدوى كلما خرجت، والشعور العام بالكآبة والعزلة الذي فرضته الوجوه المغطاة بالكمامات طوال الوقت، وعند لحظة ما، لا بد أنك قلت لنفسك إنك مستعد لفعل أي شيء لتنتهي تلك الأجواء، ولا بد أن الحياة الطبيعية بدت أجمل بكثير وبلا مشكلات حينها، ولا بد أيضا أنك نسيت كل ذلك عندما عادت الحياة لطبيعتها فعلا.

يحكي مسؤولو رعاية اللاعبين بالأندية أو “Players’ Care Officers” الكثير من القصص المروعة عن معاناة اللاعبين في تلك الأيام؛ عن أسابيع الحجز المتتالية بالحجر الصحي، والآباء والأمهات الذين توفوا دون أن يحصلوا على فرصة لتوديعهم، والأطفال الذين وُلدوا دون أن يتسنى لآبائهم المحترفين أن يروهم ويحملوهم. (5)

تلك الأيام العصيبة مرت بشكل مختلف على لاعبي كرة القدم المغتربين، فبينما كان أغلبنا يصارع ذويه للحصول على قدر من الخصوصية والحرية أثناء العمل في المنزل، كان اللاعبون الأثرياء الناجحون المشهورون يدركون قيمة العائلة والأصدقاء والصحبة، وحقيقة أن الهدف الأصلي من الثراء كان حصولهم على حياة أفضل رفقتهم، لا أن يضطروا للاختيار بين هذا وذاك. (6)

توم يانغ، محلل الأداء النفسي للأندية الرياضية، يؤكد أن أفضل مستويات للفريق تأتي بعد توقفات الفيفا الدولية، لسبب إنساني بسيط وبديهي لا يحتاج إلى محلل أداء نفسي لندركه، وهو أن أغلب اللاعبين الذين يأتون من بلاد بعيدة يحظون بفرصة لزيارة ذويهم، ومنحهم الهدايا، واسترجاع أحاسيس الطفولة في أجواء مألوفة، أي باختصار؛ كل منح الحياة المجانية التي لا نشعر بقيمتها إلا عندما نفقدها. (5)

تلك اللحظات البسيطة التي يعيشها هؤلاء اللاعبون أربع مرات في الموسم مع التوقفات الدولية هي ما يُشعرهم بقيمة تضحياتهم؛ عندما يُحدثون أثرا ملحوظا في حياة مَن يحبونهم، وعندما يرون ذلك الأثر ويشعرون به، فينعكس عليهم ويشحن عزيمتهم للاستمرار.

الأشياء وأنا

صدِّق أو لا تُصدِّق؛ إحدى الدراسات التي نشرتها دورية “هارفارد بيزنس سكول” (Harvard Business School) بالتعاون مع جامعة بافالو الأميركية تؤكد أن تفضيل المكاسب المهنية والمادية على العائلة والأصدقاء طوال الوقت في نمط حياتي متكرر يقودك إلى التعاسة. صدِّق أو لا تُصدِّق؛ هذه الدراسة منطقية للغاية. (7)

تحدث الخاضعون للدراسة عن آخر شعور يمكنك أن تتخيل أن يشعر به شخص متحقق مهنيا وماديا، سواء كان لاعبا لكرة القدم مثل ديفيز أو في أي مجال آخر؛ التبعية والاحتياج.

التبعية لأي شيء بالضبط؟ لإنجازاتهم وممتلكاتهم وثرواتهم، والاحتياج إلى المزيد منها، ببساطة لأنه في غياب الصلات الحميمة مع العائلة والأصدقاء، وهؤلاء الذين يحبونك بغض النظر عن ظروفك المادية ونجاحك المهني، فأنت تحيط نفسك بالغرباء الذين لا يلاحظون إلا ما تُظهره حياتك الحالية، ولا يقدرون سوى إنجازاتك وممتلكاتك، وهذا يقودك إلى مراكمة المزيد منها بحثا عن مزيد من القيمة الإنسانية في عيون الآخرين.

الأمر لا يحتاج إلى كثير من الشرح في الواقع، أي شخص اضطر للسفر أو الهجرة بحثا عن عمل أو دخل أعلى أو حياة أفضل له أو لذويه سيشعر بالشعور ذاته، وسيدرك بسهولة أن الراتب الأضخم لم ولن يغنيه أبدا عن إنسانيته ومشاعره تجاه مَن يحبهم، أو إحساسه بالاحتياج إلى الأصدقاء والرفاق. (8) (9)

الحقيقة أن كل اللاعبين ييأسون ويحبطون ويكتئبون ويفتقدون أحبابهم، ويحق لهم الشعور بالوحدة حتى لو كانوا أثرياء.(رويترز)

بالمثل، يشعر اللاعبون بمسؤولية ضخمة تجاه ذويهم، خاصة مع عشوائية اللعبة وإصاباتها التي قد تُنهي مسيرة أيٍّ منهم بأي لحظة، ومع قِصَر أعمارهم في الملاعب، كثيرا ما يكون أيٌّ منهم فرصة أهله الوحيدة للنجاة من الفقر إلى الأبد، وهذا يدفعهم إلى تعظيم مكاسب السنوات التي يقضونها في قمة مستواهم، ولذلك هم يضحّون بالكثير لأجل هذا الهدف. (10)

طبعا الكثير منهم يحظى بكل ما أراد، وتتحقق له الحياة التي طلبها دون مفارقة أحبابه، وبعضهم، مثل ديفيز، يفكر كثيرا قبل أن يدير محرك سيارته الفخمة، ولكن كلهم ييأسون ويحبطون ويكتئبون ويفتقدون أحبابهم، وكلهم يحق لهم الشعور بالوحدة حتى لو كانوا أثرياء. إدراك ذلك، والاعتراف بحقهم في الشكوى وأصالة معاناتهم، ليس فقط دليلا على النضج والإنسانية، وليس فقط وسيلة لتقدير ما نملكه فعلا، ولكن الأهم على الإطلاق أنه يحمي أرواحنا من تصوراتنا غير الواقعية عن الحياة، تلك التي تدفعنا للتضحية بكل شيء للوصول إلى التشبع المادي، متوهمين أنه سيُغنينا عما عداه.

المعادلة ليست صفرية طوال الوقت طبعا، والاختيارات ليست بهذا التطرف دائما، ولكن المنطق يقول إن هناك ثمنا ما لكل ما نحققه ونحصل عليه. هذه هي المساحة الرمادية التي يمكننا التحكم بها ومراقبتها، لنتأكد أننا، أثناء سعينا، لا نستبدل مَن نحبهم مقابل ما نحتاج إليه، لأن الوحدة على ضفاف حمام السباحة أو في مقصورة المرسيدس الفخمة لا تزال وحدة رغم كل شئ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

  1. “حياة لاعب كرة القدم رائعة ولكن بعد التدريب أنا وحيد.. أنا فاشل!” – Be Soccer
  2. قائمة مرتبات لاعبي بايرن ميونيخ – Capology
  3. “كيف أصبحت!”.. ألفونسو ديفيز – DW Kick Off
  4.  دراسة | تنقلات لاعبي كرة القدم المتكررة تتسبب في إحساس زوجاتهم وأطفالهم بالوحدة – Phys
  5. حتى نجوم كرة القدم الكبار عانوا من الوحدة والعزلة طوال عام الجائحة أثناء بعدهم عن ذويهم – ESPN
  6. “وجدت نفسي غارقا في الوحدة”.. كيف عانى اللاعبون المغتربون أثناء الجائحة – The Athletic
  7. دراسة | تفضيل المال والنجاحات المهنية على الأهل والأصدقاء يقود للتعاسة – New York Post
  8. دراسة | المال لا يستطيع جلب الحب أو الصداقة – University of Buffalo
  9. “لا أحتاج إلى الأصدقاء”.. لماذا قد تشعر بهذا الشعور؟ – Very Well Mind
  10. كيف يمكن للمستوى الرياضي الأعلى أن يصيبك بالعزلة والوحدة والضعف؟ – BBC


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.