تمثل وفاة أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، الذي قُتل في غارة أميركية بطائرة مسيّرة في أفغانستان، تحولًا مهمًّا في مسيرة الحركات الجهادية العالمية. فالظواهري لا يعدّ آخر القيادات التاريخية لتنظيم القاعدة الذي كان تدشينه قبل نحو 3 عقود، ولكنه أيضا الرجل المسؤول عن التحولات الأخطر في مسيرة التنظيم وانتقاله من “الجهاد المحلي” إلى “الجهاد العالمي”؛ التي أسهمت في تحويل تنظيم القاعدة إلى منظمة عالمية تستقطب الجهاديين من كل أرجاء العالم.

الظواهري جرّاح العيون الذي يعود بنسبه إلى عائلة عريقة إذ كان جده، محمد الأحمدي الظواهري، الإمام الأكبر للجامع الأزهر في الربع الأول من القرن الـ20، وكان أحد أخواله أول أمين عام لجامعة الدول العربية؛ هو عبد الرحمن عزام، كما أن جده لوالدته هو عبد الوهاب عزام أستاذ الآداب الشرقية وعميد كلية الآداب بجامعة القاهرة في الثلاثينيات من القرن الماضي، أما والده فكان طبيبا شهيرا وأستاذا في الطب بجامعة عين شمس، في حين كان خاله محفوظ عزام نائبا لرئيس حزب العمل الإسلامي.

بعدما تخرج الظواهري في كلية الطب في منتصف السبعينيات، كانت مصر تشهد ما يسمى بالصحوة الإسلامية وظهور التيارات الإسلامية مرة أخرى بعد سنوات القمع في عهد عبد الناصر، ولعل ذلك ما شجع الظواهري على الانخراط في النشاط التنظيمي.

وُلد الظواهري  في القاهرة في 19 يونيو/حزيران 1951، وترعرع في أحضان تلك العائلة العامرة برجال الدين والسياسة المرموقين، وكانت نشأته في حي المعادي الراقي، وهو ما يثير التساؤل عن التحولات التي دفعته كي يكون على رأس أكبر تنظيم جهادي عنيف في القرن الـ20، وعن علاقة هذه التحولات بطبيعة الأوضاع السياسية والأمنية التي كانت تمر بها البلاد في الخمسينيات والستينيات.

يقول الظواهري في كتابه “فرسان تحت راية النبي” إن الحركة الجهادية في مصر “بدأت مسيرتها الحالية بعد منتصف الستينيات حين قام الحكم الناصري بحملته الشهيرة في سنة 1965 ضد الإخوان المسلمين، وأودع في السجون 17 ألفًا، وأعدم سيد قطب واثنين من رفاقه رحمهم الله، وظنّت السلطات أنها بذلك قضت على الحركة الإسلامية في مصر بلا رجعة، لكن شاء الله أن تكون هذه الأحداث شرارة البداية للحركة الجهادية في مصر ضد الحكومة”.

ولذلك احتفى الظواهري وغيره من الشباب الإسلاميين بسقوط نظام عبد الناصر بعد حرب 1967، ورأى أن ذلك كان سببًا مهما في انتشار الحركة الجهادية، حسب تعبيره. ومن الواضح أن الظواهري قد تأثر بوجه كبير بأفكار سيد قطب عن الشريعة والحاكمية، كما تأثر بما حدث له من تعذيب وإعدام بعد ذلك عام 1965، بل يراه مثالاً أعلى للتضحية من أجل أفكاره ومبادئه.

لذلك، لا يمكن التغافل عن دور الاستبداد والقمع داخل السجون المصرية خلال الستينيات في تحوّل كثير من شباب الإسلاميين باتجاه الأفكار الجهادية المتطرفة، وهو ما نراه يتكرر بدرجات متفاوتة مع حكم مبارك وحاليا تحت النظام الحالي الذي يمارس قمعًا غير محدود مع الإسلاميين؛ دفع ببعضهم إلى الانضمام للتيارات العنيفة والدخول في مواجهة مع الدولة وأجهزة الأمن المصرية.

عندما التحق الظواهري بكلية الطب في مصر أواخر الستينيات، كانت مصر تعيش أوضاعًا صعبة بعد الهزيمة الفادحة أمام إسرائيل في حرب 1967 التي أثرت كثيرًا على مشاعر الشباب المصري في ذلك الوقت، إذ حمّلوا الرئيس السابق جمال عبد الناصر الهزيمة وعدّوها دليلًا على فشل أيديولوجية القومية العربية التي كان يتبعها ويبشر بها، ولذلك شرعوا في البحث عن أيديولوجيات وأفكار أخرى. فعلى سبيل المثال، يقول الظواهري في كتابه المعروف “فرسان تحت راية النبي”: “​​أما بالنسبة للحركة الجهادية في مصر فقد أضافت هزيمة عام ١٩٦٧ عاملًا خطيرًا، أثّر في مسارها المتنامي، فقد سقط رمز البطش والجبروت جمال عبد الناصر الذي حاول أتباعه أن يصوّروه للشعب على أنه الزعيم الخالد الذي لا يقهر”.

بعدما تخرج الظواهري في كلية الطب في منتصف السبعينيات، كانت مصر تشهد ما يسمى بالصحوة الإسلامية وظهور التيارات الإسلامية مرة أخرى بعد سنوات القمع في عهد عبد الناصر، ولعل ذلك ما شجع الظواهري على الانخراط في النشاط التنظيمي من خلال انضمامه إلى “تنظيم الجهاد” أواخر السبعينيات، وهو التنظيم الذي تورط في اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات عام 1981، ولذلك فقد اعتُقل الظواهري وسجن وحوكم ضمن مئات قُدّموا للمحاكمة لصلتهم باغتيال الرئيس أنور السادات، وأمضى 3 سنوات في السجن لحيازة أسلحة بطريقة غير مشروعة، لكن القضاء برّأ ساحته في الاتهامات الكبرى.

وكان سفر الظواهري إلى السعودية ومنها إلى باكستان وأفغانستان في منتصف الثمانينيات نقطة تحول في مسيرته الجهادية، فقد تعرف وقتئذ على زعيم التنظيم السابق وصديقه أسامة بن لادن، وقررا معًا الذهاب إلى السودان وتأسيس تنظيم القاعدة هناك أوائل التسعينيات، ثم إعلان بداية مرحلة جديدة من الجهاد العالمي، وأطلقوا حملتهم المعروفة “الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين” عام 1998، ولم تمر سوى شهور قليلة حتى بدأ تنظيم القاعدة بقيادة بن لادن والظواهري استهداف المصالح الأميركية في أفريقيا وبعد ذلك في شبه الجزيرة العربية. أما العملية الكبرى للتنظيم فقد تمثلت في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي أدت إلى مقتل أكثر من 3 آلاف شخص مدني في الولايات المتحدة، وعلى إثرها شنّت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش حربيه على أفغانستان والعراق.

في كل هذه الأحداث، تحول بن لادن والظواهري إلى شخصيات ورموز مؤثرة داخل الجهادية العالمية، وكانت “شرائط” الفيديو التي يصدرها الشخصان بشأن عمليات التنظيم تمثل مصدر إلهام لكثير من الجهاديين، ولذلك فقد انتشرت فروع التنظيم في أكثر من منطقة في العالم، من آسيا شرقًا إلى المغرب غربًا، مرورًا بالجزيرة العربية والعراق والشام واليمن وشرق أفريقيا. كان الظواهري بمنزلة الذراع اليمنى لبن لادن، وأحد المنظرّين الأساسيين لتنظيم القاعدة، وله كتابات عديدة، أبرزها “فرسان تحت راية النبي” الذي يسرد فيه أجزاء من تاريخه وتحولاته التي مرّ بها منذ أن كان شابًّا يافعًا في مصر حتى قيادته للتنظيم وعملياته التي قام بها، وكذلك موقفه من الجماعات الأخرى بخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي ينتقدها بشدة نتيجة لطبيعتها السلمية وما يراه مهادنة للنظام في مصر.

كذلك يربط الظواهري ربطًا واضحًا بين ما يحدث للتيار الإسلامي من قمع واستهداف وبين الدعم الذي تتلقاه الحكومات العربية من أميركا، وكذلك دعمها لإسرائيل من جهة أخرى. وحسب الظواهري، فإن اغتيال الرئيس السادات كان بسبب تحالفه مع أميركا وإسرائيل، يقول في الكتاب نفسه “لقد كان قتل السادات ضربة قوية للمخطط الأميركي الإسرائيلي في المنطقة”، ولذلك فقد دافع الظواهري عن ضرورة الانتقال من محاربة العدو القريب: أي الأنظمة العربية السلطوية، إلى مهاجمة العدو البعيد: أي الحكومات الغربية، بخاصة الولايات المتحدة. أما اللافت في الأمر فهو انتقاد الظواهري لجماعة الإخوان المسلمين بسبب معارضتها السلمية للنظام في مصر، وقد ألّف كتابًا عن الموضوع باسم “الحصاد المر.. الإخوان المسلمون في ستين عامًا” يهاجم فيه بقوة جماعة الإخوان المسلمين وقبولها بالعملية الديمقراطية والانتخابات.

من المؤكد أن مقتل الظواهري يعدّ ضربة كبيرة للقاعدة في أفغانستان والعالم. ومع ذلك، فهو يمثل تطورًا رمزيًا أكثر منه تطورًا عملياتيا، فقد تلاشى تأثير القاعدة بوصفها حركة جهادية على مدى العقد الماضي بسبب تراجع قدراتها القتالية والتنظيمية من جهة، وظهور مجموعات أخرى من المتطرفين الجهاديين من جهة أخرى، لا سيما تنظيم “داعش” (الدولة الإسلامية) الذي يهيمن حاليا على المشهد الجهادي في العالم.

ومع وفاة الظواهري، تنتهي مرحلة مهمة من تطور الأفكار الجهادية التي تحول فيها الكفاح ضد الأنظمة العربية والحكومات الغربية إلى أيديولوجيا قائمة بحد ذاتها تحت شعار الجهاد العالمي، وهي المرحلة التي اضطلع فيها الظواهري بدور جوهري سواء من خلال دوره المؤثر في تنظيم القاعدة أو من خلال كتاباته وفيديوهاته ورسائله المصوّرة، ولكنه في الوقت نفسه يفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات ظهور تنظيمات جهادية أكثر تشددًا من تنظيم “القاعدة” في المستقبل المنظور.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.