صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية، تصدر كل أربعاء، تعتمد أسلوب الصحافة الساخرة منذ تأسيسها سنة 1970، وتتميز بمعالجتها للقضايا السياسية اعتمادا على الرسوم الكاريكاتيرية، كما تنشر مقالات رأي وتحقيقات استقصائية تهتم فيها وفق منظورها بقضايا “الأقليات والطوائف والأديان والتيارات السياسية المتطرفة والإسلام السياسي والسياسة والثقافة” ولا تخفي عداءها للأديان وخصوصا الإسلام.

الخط التحريري

تعرّف هذه الصحيفة الفرنسية خطها التحريري على أنه “يلقي نظرة ثاقبة وفاحصة على أخبار المجتمع والبيئة والسياسة، ويعتمد على الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة والهزلية في معالجته للملفات والأخبار اليومية”.

وقد تناولت “شارلي إيبدو” في عدة مناسبات الأديان والتيارات الدينية، وأثارت الجدل في أكثر من مناسبة بإساءتها لرموز الأديان، وخاصة الإسلام.

مقرّها

يقع مقر صحيفة “شارلي إيبدو” في العاصمة الفرنسية باريس في 37 شارع الشهداء الدائرة التاسعة، وهو المقر الذي انتقلت إليه بعد الهجوم المسلّح الذي تعرضت له في 7 يناير/كانون الثاني 2015 في مقرها السابق الكائن في 10 شارع نيكولا أبار المتفرّع من شارع شارل نوار الدائرة 11 في باريس.

تاريخها

عرف عالم الرسوم في مجال الصحافة والإعلام الفرنسي تغيرا جذريا، حيث كان يطغى عليه الطابع العائلي والعقلية المحافظة التي كان على الرسّامين احترامها واتباع تقاليدها، وعقب أحداث مايو/أيار 1968 تمت إزاحة هذا النمط ليتاح المجال أمام أسلوب السخرية السياسية بطريقة أكثر جرأة نسفت الثوابت الأخلاقية السائدة آنذاك.

ومثلت “شارلي إيبدو” نتيجة مسار عرفته عدّة مجلات ساخرة قبلها، فهي وليدة عملية انفصال حدثت سنة 1969 لـ 3 رسامين وصحفيين كانوا يشتغلون في جريدة ساخرة أخرى هي “هارا كيري” وهم فرانسوا كافانا وبروفيسور شورون ودالفايل دون تون.

وأطلق الثلاثة على الجريدة الجديدة اسم “إيبدو” مقدمين أنفسهم على أنهم جريدة يسارية انسجاما مع المناخ الثوري السائد بين الشباب الطلابي الفرنسي بعد أحداث مايو/أيار 1968 المناهضة للرأسمالية والنزعة الاستهلاكية الأميركية، وأيضا لسياسة رئيس البلاد آنذاك شارل ديغول.

وتعود جذور صحيفة “شارلي إيبدو” إلى سنة 1960 عندما أسس كلّ من فرانسوا كافانا وجورج بيرنيي صحيفة “هارا كيري الشهرية” المصوّرة للحركة التحرّرية، والتي أصبحت في فبراير/شباط 1969 “كارا هيري” الأسبوعية.

وهاجمت صحيفة “هارا كيري” وبطريقة ساخرة الرئيس ديغول وحكومته، ومختلف السلطات من شرطة وقضاء وكذا الأثرياء والمعتقدات الدينية.

وسنة 1969 أطلق مؤسسو “هارا كيري إيبدو” صحيفة مصورة أخرى أطلق عليها اسم “شارلي” الشهرية التي اعتمدت على الشخصية الكرتونية الشهيرة تلك الفترة “شارلي براون” في محاولة لاستفزاز الرئيس ديغول عن طريق الإصرار على اختيار اسم “شارلي” الذي هو بمثابة صيغة تصغير لاسم شارل.

وفي 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970 قرّرت وزارة الداخلية منع “هارا كيري” من الصدور بعد نشرها رسوما إباحية، ولكن السبب الرئيسي وراء هذا القرار كان أساسا مقالا استهزأت فيه الصحيفة بموت ديغول في 09 نوفمبر/تشرين الثاني 1970.

وأواخر الشهر ذاته أعيد افتتاح الصحيفة ولكن تم تغيير اسمها من “هارا كيري إيبدو” إلى “شارلي إيبدو” وكعادتها في التعاطي مع السياسيين والشأن السياسي، لم يسلم منها الرؤساء الذين تعاقبوا على قيادة فرنسا بعد ديغول، وأصبحوا بدورهم هدفا لمقالاتها ورسومها الساخرة.

ومن 1970 إلى 1980 مثلت “شارلي إيبدو” صوت الشعب الفرنسي المحتج الرافض لسياسات الحكومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حيث كانت قنوات اتصالها مفتوحة مع عامة الشعب الذي لعب دورا هاما في إشعاعها محليا من خلال اقتراح مواضيع تغطيات حصرية وملفات ساخنة تهم فرنسا.

وهذه السياسة التحريرية التي اعتبرها الفرنسيون “ثورية” جعلت مبيعات الصحيفة تقفز بصفة خيالية، حيث كانت أعدادها تنفد بسرعة من الأكشاك رغم أن سحبها الأسبوعي بلغ 120 ألف نسخة، وبذلك ثبتت مكانتها بصفتها وسيلة إعلامية جامعة لكل أطياف المعارضة في المشهد السياسي الفرنسي.

ومع وصول اليسار إلى الحكم سنة 1981 ونجاح فرانسوا ميتران في اعتلاء كرسي الرئاسة وفشل اليمين في تصدّر المشهد السياسي في فرنسا، والذي كان العدو الذي بنت عليه “شارلي إيبدو” نجاحاتها الجماهيرية، بدأت المبيعات في التراجع، حيث إن جمهورها لم يعد يرى من المجدي في تلك المرحلة الركون إلى الصحافة الساخرة لغياب الأسباب الموضوعية التي انتفت بغياب التيارات اليمينية.

وواصلت “شارلي إيبدو” الظهور في الأكشاك حتى أواخر سنة 1981 ثم توقفت لأسباب مالية.

وسنة 1992 أعاد رسّام الكاريكاتير الفرنسي جون موريس جيل كابي والصحفي فيليب فال صحيفة “شارلي إيبدو” إلى الحياة بعد 11 سنة من التوقّف.

الفضائح والتجاوزات

مع عودتها للمشهد الإعلامي من جديد لم يجد المشرفون على “شارلي إيبدو” نفس أرقام المبيعات المغرية التي كانت تعرفها في السابق، والتي استقرّت في حدود 50 ألف نسخة أسبوعيا، فكان ضروريا البحث عن الضجّة الإعلامية بأي ثمن للنفخ في رقم مبيعاتها، خاصة أنها تصرّ على مبادئها اليسارية في عدم البحث عن الدعم من رؤوس الأموال.

وواصلت “شارلي إيبدو” نفس المنهج منذ عودتها للصدور أوائل التسعينيات من القرن الماضي، حيث جعلت من مقدسات جميع شعوب وديانات العالم مادة إعلامية للتندر والسخرية.

وفي بدايات القرن الـ 21 جعلت “شارلي إيبدو” من السخرية من دين الإسلام موضوعها المفضل، ففي سنة 2007 بدأت تتجرأ على المقدسات الإسلامية، حيث نشرت رسوما كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهو ما أثار موجة من الاحتجاجات في العديد من الدول العربية ووسط الجاليات المسلمة في مختلف أنحاء العالم.

وعام 2011، انسحب أحد أهم المساهمين في رأس مال الجريدة الصحفي فيليب فال، لتعرف “شارلي إيبدو” أكبر أزمة مالية على الإطلاق، اضطرتها إلى التخلي عن مقرها والانتقال إلى مقر متواضع.

وأواخر السنة ذاتها، شبّ حريق في المقر الجديد اعتبر مفتعلاً، فانتقلت “شارلي إيبدو” بصفة مؤقتة إلى أحد مقرّات كبرى الجرائد اليسارية الفرنسية “ليبراسيون”.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2011 وردّا على تجاوزات “شارلي إيبدو” على المقدسات الإسلامية إضافة إلى تهكّمها من وصول الإسلاميين إلى الحكم في تونس، تمكّنت مجموعة من قراصنة الإنترنت من اختراق موقع “شارلي إيبدو” ووضع صورة الكعبة المشرّفة مكان شعار الصحيفة، وكتب تحتها عبارة التوحيد “لا إله إلا الله”.

وحمل غلاف العدد الصادر في 7 ديسمبر/كانون الأول 2011 رسما كاريكاتيريا عن قصة “العشاء الأخير” للمسيح، المذكورة في الإنجيل.

وفي 23 سبتمبر/أيلول 2012 وتزامنا مع احتجاجات المسلمين بسبب فيلم أميركي مسيء للرسول الكريم قامت “شارلي إيبدو” بركوب الموجة من أجل العودة إلى الأضواء عن طريق نشرها صورا مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلّم، معبرة عن “دعمها لحرية الإنتاج السينمائي”، الأمر الذي أشعل فتيل الاحتجاجات ضدها واضطرت السلطات الفرنسية إلى تأمين بعثاتها الدبلوماسية وإغلاق المدارس الفرنسية في العديد من الدول العربية.

وعام 2014، أصدرت الصحيفة عددا خاصا، عن قصة ولادة المسيح، وهو ما تسبب لها في انتقادات واسعة من قبل المتدينين في مختلف أنحاء العالم.

وعام 2015، نشرت “شارلي إيبدو” من جديد رسوما مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأثارت موجة غضب كبيرة في العالم الإسلامي، شارك فيها المواطنون من خلال المظاهرات الحاشدة، والحكومات من خلال الاحتجاجات الرسمية لدى الحكومة الفرنسية.

وفي 25 يناير/كانون الثاني 2015، تعرضت الصحيفة لهجوم مسلح أدى إلى مقتل 12 شخصا بينهم عدد من أهم الرسامين، وهو هجوم أعلن تنظيم القاعدة المسؤولية عن تنفيذه.

ومما أثار السخط أيضا ضد “شارلي إيبدو” الرسم الساخر من خسائر الزلزال الذي ضرب تركيا في 06 فبراير/شباط 2023 وأودى بحياة عشرات الآلاف، مما أسال حبرا كثيرا وانتقادات من جميع الشعوب على اختلاف معتقداتها الدينية والعقائدية حول طريقة تعاطي هذه الصحيفة مع الثوابت الإنسانية.

دعاوى قضائية

في 8 فبراير/شباط 2007 نظرت المحكمة الفرنسية في الدعوى التي أقامها مسجد باريس الكبير واتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا ضد صحيفة “شارلي إيبدو” بسبب نشرها الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، والتي كانت قد نشرتها سابقا صحيفة دانماركية.

وفي 15 سبتمبر/أيلول 2013 نظر القضاء الفرنسي في دعوى تقدمت بها بعض الجمعيات العربية الإسلامية في فرنسا ضد الصحيفة بتهمة التحريض على مشاعر الحقد والكراهية بين أطياف الشعب، مطالبة بمعاقبتها وتغريمها بتعويض قيمته 780 ألف يورو.

وفي 22 مايو/أيار 2022 قررت محكمة باريس رفض النظر في القضية المرفوعة من المحامي السعودي عثمان العتيبي ضد “شارلي إيبدو” وقررت تأجيلها لموعد لاحق بحجة أن العتيبي لم يكن مستهدفا شخصيّا بالسب العلني والإهانة على أساس الدين.

وأشارت المحكمة إلى أنه يمكن للمدعي العام فقط أو المنظمة أو الجمعية المفوضة وفقا للقانون رفع دعوى عامة بشأن جريمة التحريض على التمييز أو الكراهية أو العنف، وهو ما اعتبرت أنه لم يتحقق، إذ تم رفع الدعوى بواسطة المحامي باسمه الشخصي.

كما رفض القضاء الفرنسي دعاوى أخرى تقدم بها المجلس الإسلامي الفرنسي، وإدارة مسجد باريس، ضد “شارلي إيبدو” بتهمة إساءتها للرسول صلى الله عليه وسلم.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.