الثقافة من أهم مصادر قوة الدولة؛ لذلك يجب أن تستخدم الدولة ثقافتها في بناء وعي شعبها وتحفيزه للكفاح لتحقيق أهداف عظيمة، من أهمها التحرير وتحقيق الاستقلال وبناء المستقبل.

لكن هل تؤدي سيطرة السلطة على الثقافة إلى زيادة قوة الدولة واستخدامها في الدفاع عن هويتها، والتعبير عن تجاربها التاريخية؟ لتقديم إجابة متعمقة لهذا السؤال تحتاج الدولة إلى تقييم إنتاجها الثقافي، ودراسة البيئة السياسية التي تم فيها هذا الإنتاج؛ فهذا التقييم يشكل بداية لانطلاق المجتمع للتعبير ثقافيا عن نفسه، وتوفير الأسس التي تقوم عليها القوة الثقافية.

علاقة الثقافة بالسلطة من أهم العوامل التي يمكن أن تقيد عملية الإنتاج الثقافي، فكلما اقترب المثقف من السلطة قلت قدرته على التفكير والتعبير، وابتعد عن الجماهير. ويمكن أن نقدم كثيرا من الأدلة على صحة هذه القاعدة من خلال دراسة تجارب كثير من الدول، لكننا سنكتفي هنا بعرض بعض جوانب التجربة المصرية.

الدكتاتورية العلمانية

ارتبطت سيطرة السلطة على الثقافة بعد عام 1952 بعملية احتكار تم استخدامها لفرض التغريب والتبعية والخضوع للاستبداد، ففي ظل هذا الاحتكار سيطرت الرموز الثقافية العلمانية المتغربة على وزارة الثقافة، وتزايد دور هذه الوزارة في إخضاع المثقفين واستخدامهم لتحقيق أهداف السلطة في تزييف وعي الجماهير بعد تولي ثروت عكاشة هذه الوزارة عام 1958.

الأجهزة الأمنية والمخابرات كان لها دور حاسم في هذا الاختيار الذي اعتمد بالدرجة الأولى على الولاء للزعيم، والقدرة على تمجيده وتبرير أعماله وقراراته، وإلهاء الشعب عن قضاياه الأساسية والعمل على إخضاعه فكريا

أسباب ودوافع التمجيد

لاحظت خلال دراستي بكلية الإعلام جامعة القاهرة أن الطلاب الذين ينتمون لليسار يمجدون ثروت عكاشة بشكل مبالغ فيه، فكادوا يرفعونه فوق البشر، وينسبون له من الصفات ما لا يتمتع بها أبطال التاريخ وصانعيه، ويرون أنه حقق لمصر مجدا ثقافيا كبيرا، وأن الأدباء في عصره تمتعوا بكل ما يسهم في زيادة قدرتهم على الإبداع.

عندما صدرت مذكرات ثروت عكاشة، طالب الكاتب اليساري صلاح حافظ بتدريسها في المدارس؛ لكي يعرف التلاميذ أن في هذا العالم شيئا اسمه قضايا الثقافة، ووصف هذه المذكرات بأنها ملحمة؛ فمن ثروت عكاشة الذي تولي صياغة الحياة الثقافية في مصر وكان له هذا التأثير الكبير؟

كان ثروت عكاشة أحد الضباط الأحرار الذين قاموا “بحركة 23 يوليو/تموز 1952″، ويعد نفسه من صنّاعها، لكنه يرى أن هذه الثورة انتهت عام 1956 بعد الاستفتاء على الدستور، وتولي جمال عبد الناصر رئاسة الجمهورية؛ فقد انبثق بهذا الدستور نظام سياسي جديد ذو ملامح محددة؛ هي مركزية السلطة، وهو نظام يجمع السلطة كلها في يد رئيس الجمهورية دون غيره، ودون مساءلة دستورية حقيقية أمام الشعب.

الثقافة في نظام سلطوي

يدافع ثروت عكاشة عن هذا النظام فيقول “إن هذا النظام السلطوي لم يكن بدعة ابتكرها عبد الناصر، بل كان أحد أنظمة الحكم المتداولة، كما أن عبد الناصر لم يزعم يوما أن أسلوب حكمه ديمقراطي بالمفهوم الليبرالي”.

هذا هو توصيف ثروت عكاشة للنظام الذي تولى فيه عملية إدارة وزارة الثقافة ومؤسساتها، وهو نظام لا مكان فيه لحوار أو مشاركة، أو رؤى متعددة، ولا يسمح بالمعارضة.

قدم ثروت عكاشة وصفا لجمال عبد الناصر يرفعه فوق البشرية؛ وربما كان هذا هو الدور الذي كان مقررا لثروت عكاشة أن يلعبه في تلك الفترة من تاريخ مصر؛ هذا الدور -باختصار- هو إخضاع الشعب لسيطرة الزعيم، وبناء صورته في أذهان الجماهير، من خلال الخطابات والممارسات الثقافية المختلفة.

هاجم عكاشة بعض الكتّاب الذين تنكروا لعبد الناصر وانتقدوه بعد وفاته، فوصفهم بأنهم كانوا يؤيدون عبد الناصر في حياته من كل قلوبهم، ويمجدونه حد “التأليه”، حسب تعبيره.

فتح ثروت عكاشة لهؤلاء الكتاب الذين ألّهوا عبد الناصر المجال للسيطرة على وزارة الثقافة، ثم أصبح بعد ذلك ساخطا عليهم في عهد السادات، حين بدؤوا التنكر لعبد الناصر وسياساته، فوصفهم بأنهم ليست لديهم مبادئ، وأنهم على استعداد دائم “لتأليه” كل حاكم حفاظا على مصالحهم.

دكتاتورية وزارة الثقافة

تولى ثروت عكاشة وزارة الثقافة مرتين من 1958 حتى 1962، ومن 1966 حتى 1970، وبذلك بلغت مدة وزارته 8 سنوات.

وفي مذكراته يصف نفسه وهو يدير هذه الوزارة فيقول “لقد أدركت أن من أولى مهامي أن أجمع من حولي مجموعة من المثقفين لهم كفاياتهم الممتازة للاضطلاع بما أسندته إليهم من مهام، ولم يكن هذا بالأمر اليسير؛ إذ كان لا بد من تؤدة وتأن وصبر عظيم، ولست أزعم أنني قد وفقت في كل من اخترت واصطفيت، فبعضهم خيب ظني، ولكن حسبي أنني قد قفزت بكوكبة من الكفايات المناسبة في الوقت المناسب؛ مهدت لهم السبيل ليعملوا معا كفريق في توافق وانسجام”.

صياغة الوعي الثقافي

عمل عكاشة على اختيار هذه النخبة من المثقفين بعناية بالغة طبقا لمعايير واضحة كي يكونوا قادرين على السيطرة على وجهة الوزارة في الحقبة الجديدة.

وكان للأجهزة الأمنية والمخابرات دور حاسم في هذا الاختيار الذي اعتمد بالدرجة الأولى على الولاء للزعيم، والقدرة على تمجيده وتبرير أعماله وقراراته، وإلهاء الشعب عن قضاياه الأساسية والعمل على إخضاعه فكريا.

هذه الكوكبة التي رفعها ثروت عكاشة هي التي تولت صياغة الوعي الثقافي المصري، ووضعت شروط النشر، والحصول على جوائز الدولة التي كانت مجرد مكافآت على الولاء للزعيم وتمجيده، ولم تكن لها قيمة حقيقية لأنها لم تعتمد يومًا على تقييم علمي ونقد أدبي حقيقي.

كان مجد ثروت عكاشة في نظر اليسار والليبراليين العلمانيين أنه قام بتمليكهم وزارة الثقافة، فأصبحوا هم الحكم في تحديد لقب “المثقف”، وعلى من يتم إطلاقه، فأصبح هذا اللقب البراق حكرا عليهم؛ فلا يمنح إلا لمن ارتضوه واتبع بشكل ما مواقفهم وفكرهم؛ حتى لو قدم نفايات مقتبسة من الأدب الغربي.

وزارة التبعية للغرب

في ضوء هذه السياسة، حدثت كثير من الممارسات التي أفسدت الحياة الثقافية في مصر:

  • تم استبعاد كثير من علماء مصر الذين قدموا إنتاجا علميا وأدبيا تفخر به الأمة كلها لأنهم يفتقدون شروط المثقف التي وضعها ثروت عكاشة وكوكبته، ومن أهمها العداء للإسلام، ولم يجد كثير من أدباء مصر وشعرائها فرصا لنشر أعمالهم، فماتوا كمدا.
  • منح الجوائز للمنافقين الذين يزيّفون وعي الناس ويمجدون الطغاة إلى حد “التأليه”، بينما اضطر كثير من علماء مصر وكتابها الحقيقيين للهجرة أو الصمت التام.

هذا يعني أنها لم تكن وزارة ثقافة مصر، ولكنها وزارة التبعية والتقليد للغرب

وهناك من المثقفين من تشجع وهاجم النظام ونقده في عدة جوانب، لكن وزير الثقافة كان يتخذ معهم أسلوبا من التجاهل أحيانا وتحجيم الأدوار حتى يعود تماما ويعدل عن المعارضة، فما تقدمه الوزارة من أسباب الثراء والشهرة كثير جدًّا، مما يجعل الجميع يلهث وراءها غير عابئ بالضريبة التي يجب عليه دفعها لأجل ذلك، مع الأدراك التام أنهم سيكونون غير قادرين على تحقيق ذلك دون دعم عكاشة ورضاه.

إهانة المثقفين

هذا لا يعني أن الكوكبة التي مكن لها ثروت عكاشة في وزارة الثقافة تمتعت فقط بالمزايا والمنح والهبات والجوائز والشهرة، لكن منهم من تعرض للإهانة والإذلال، فقد كان ثروت عكاشة حادا، ويعرف كيف يرغم من يرفع رأسه على الصمت والخضوع.

اعترف عدة مرات في كتاباته ولقاءاته بحدته وعصبيته وحبه العزلة؛ ربما بسبب استعلائه على كوكبته التي يعرف نفاقها وخضوعها، وأنه لا يوجد أحد قادر على مواجهته، فقد كان ثروت يتبع أسلوب الجيش نفسه الذي تربى عليه وتعلمه في إدارة وزارة الثقافة وإخضاع المثقفين.

إذا كان ثروت عكاشة قد قبل المنصب خوفا من الراحة الأبدية، فماذا عن الكوكبة التي جمعها، ومكّنها من السيطرة على الوزارة وأجهزتها ومؤسساتها؟

حقيقة حرية الإبداع

هذه هي حرية الإبداع التي يدافع عنها أولئك الذين سيطروا على وزارة الثقافة، فظنوا أنهم مبدعون عندما يقتبسون من الأدب الغربي، وأنهم يقدمون إنتاجا ثقافيا يستحق النقد أو التقييم، بينما كان معظمه مجرد إعادة إنتاج ركيك لأفكار الكتاب الغربيين والمستشرقين، لا يعبر بأي شكل من الأشكال عن الناس ولا عن أفكار وثقافة المنطقة.

ولأن ثروت عكاشة أخضعهم وأذلهم، فإنهم يعوضون ذلك بالاستعلاء على الشعب، واتهامه بالجهل، وعدم القدرة على فهم إبداعهم.

يروي ثروت عكاشة في مذكراته أنه عندما عرض عليه جمال عبد الناصر منصب وزير الثقافة لم يكن مستريحا، لكن عبد الناصر قال له: هيا إلى مكتبك على بركة الله، ولا تهتم براحة النفس، فأنا كفيل بتحقيقها لك! وعندما سأل ثروت صديقه يوسف السباعي عن معني كلام عبد الناصر قال له “أسرع يا ثروت، فأنت لا تدرك مفهوم كلمة “الراحة” في لغة أهل الصعيد، لأنها تعني “الراحة الأبدية”، وما أظنك ترحب بها الآن! ومن الواضح أن يوسف السباعي كان خبيرا “بهزار” عبد الناصر ودلالات ألفاظه.

عندما تحدث ثروت إلى عبد الناصر من مكتبه تلفونيا قال عبد الناصر: إني واثق أنك تستطيع أن تشكل رباطا وثيقا بين حركة المثقفين وحركة الثورة لتخلق منها وحدة فعالة، فهل نجح ثروت عكاشة في تحقيق تلك الوحدة كما أرادها عبد الناصر وتصورها؟

الجميع خائفون

السؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا كان ثروت عكاشة خائفا من تولي منصب وزير الثقافة؟ أظن ببساطة أنه كان يدرك أن الأجهزة الأمنية والمخابرات هي الأقوى في النظام السلطوي كما وصفه، وأنها هي التي تتحكم في الثقافة، وترصد كل حركة، وتفسر كل كلمة، وأنها تنظر دائما للثقافة بشك وريبة، لذلك عرف أنه سيكون تحت المراقبة جيدا، وأنه سيكون منوطا به مهمة لا مجال للخطأ فيها.

وإذا كان ثروت عكاشة قبل المنصب خوفا من “الراحة الأبدية”، فماذا عن الكوكبة التي جمعها، ومكّنها من السيطرة على الوزارة وأجهزتها ومؤسساتها؟

من المؤكد أن فرائصهم كانت ترتعد رعبا وخوفا من أن يتم تفسير كلمة يكتبونها بما لا يتفق مع هوى النظام السلطوي، وهذا يعني أن كل ما تم إنتاجه، ووفرت له وزارة الثقافة فرص النشر والإذاعة يعبر عن النظام ويحقق أهدافه في إخضاع الشعب وإلهائه وتزييف وعيه.

بعض هؤلاء المثقفين ادعوا البطولات الزائفة لاحقا بعد انتهاء حقبة عبد الناصر مدعين أنهم استخدموا في كثير من الأحيان الرموز والتلميحات للإشارة منتقدين عبد الناصر والفساد في أجهزة حكمه.

وهذا الادعاء شديد الضعف واضح الكذب؛ إذ إن الأجهزة لم تكن تسمح بمجرد إشارة قد تُفسر بأي شكل من الأشكال بأنها إساءة للزعيم، لم يكن الوزير ثروت عكاشة -رغم هالات المجد التي أحاطه اليساريون بها- سوى مجرد موظف خائف من “الراحة الأبدية”؛ إن لم يقم بالدور الذي أراده الزعيم الذي لم يكن يهتم بعلم أو ثقافة، بل كان كل ما يهمه هو بناء صورته، والترويج لخطابه، وإخضاع الجماهير له.

لقد احتكرت الدولة الثقافة، واحتكر اليسار العلماني بحسم وزارة الثقافة التي رسم الزعيم سياستها، وتولى الوزير ضبط الحركة، والتحكم في الإنتاج الثقافي.

ثقافة الخوف وطريق التحرر

هكذا تشكلت ثقافة الخوف التي قامت على تمجيد الضعف الإنساني، والعجز والخضوع للحاكم، فالوزير خائف من “راحة أبدية” لم يستعد لها، والكوكبة التي شكلها لتسيطر على الوزارة خائفة من الأجهزة الأمنية، فلا تنتج سوى التسلية الرديئة التي تستهدف إلهاء الشعب، ودفعه لتقبل فكرة العجز والضعف وعدم جدوى المقاومة؛ وأن عليه أن يتعايش مع الفقر والظلم والقهر.

إذا شعرت تلك الكوكبة بأن هناك من يستطيع أن يقدم أدبا يشجع على المقاومة والكفاح، ويمجد البطولة؛ يتم اتهامه مباشرة بالإرهاب، وأنه يريد أن يقيد حرية إبداعهم التي وضع أسسها ثروت عكاشة.

والمثقف -طبقا لشروطهم- هو الذي ينتج التسلية، والذي يتمرد على قيم المجتمع فيبدع في استخدام الإيحاءات الجنسية، وعليه أن يمجد الزعيم ويدافع عنه حتى وهو يتعرض للهزيمة التي كانت سببا في خراب الديار، وإبادة الآلاف من الرجال، واحتلال القدس وسيناء.

ولكي تتحرر الأمة يجب أن تثور على ثقافة الخوف والعجز والضعف والتبعية لتفتح المجال لمثقفين حقيقيين يعبرون عن هويتها الحقيقية وفكرها وروح أبنائها وتميزها الحضاري وحقها في الحياة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.