افتتحت قناة السويس -الواصلة بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط- رسميا عام 1869، وكان الخديوي إسماعيل (1830-1895) الذي انتهت في عهده أعمال حفر القناة قد باع الأسهم المصرية فيها لبريطانيا من أجل تسديد الديون الخارجية المتراكمة آنذاك.

وبعد ذلك بقرابة 9 عقود، أصدر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قرارا بتأميم قناة السويس في يوليو/تموز 1956، لكن ذلك المشهد لم يمح قصة مأساوية عنوانها ضحايا نظام “السخرة والإجبار” إذ بدأ حفر القناة يدويا وتم إجبار مئات الآلاف على العمل الشاق وتوفي منهم ما قد يصل إلى 120 ألفا حسب تقديرات متفاوتة.

امتياز حفر القناة

منذ أن ظفر السياسي الفرنسي فرديناند ديليسبس في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1854 من صديقه محمد سعيد باشا والي مصر بامتياز حفر قناة السويس وشروطه التي اعتبرت مجحفة، ارتبط اسمه بالقناة لتغرق البلاد في الديون التي أفقدتها استقلالها وتفيق على احتلال 70 عاما، فضلا عن وفاة عشرات الآلاف في سخرة حفر قناة السويس.

وأثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أسقطت المقاومة الشعبية تمثال ديليسبس عن قاعدته ليدخل متحف قناة السويس في الإسماعيلية.

عام 1978 تكونت في باريس جمعية أصدقاء ديليسبس وقناة السويس، ورئيس الجمعية الحالي الخبير الدولي أرنو راميير دي فورتانييه، المفتش العام الأسبق للأرشيف القومي الفرنسي، والجمعية لا تمل من المطالبة بإعادة التمثال لقاعدته.

وفي السنوات الأخيرة ناشد عدد كبير من الكتاب والمثقفين منع نصب التمثال باعتباره رمزا استعماريا وهو ما يسيء للتاريخ الوطني المصري، ويهدر تضحيات المصريين في شق القناة وتطويرها وإدارتها والدفاع عنها.

وما إن كتب الدكتور أسامة الغزالي حرب في مقاله بجريدة الأهرام المصرية الأسبوع الماضي، يؤيد ويدعو لعودة تمثال ديليسبس إلى مكانه في قناة السويس أمام مدينة بورسعيد، حتى تبارت الردود، ما بين مؤيد ومستنكر، ومن قائل: هل تطلب من الضحية أن تكرم جلادها؟ وكيف نكرم من جر على مصر الاحتلال والخراب والحروب وقتل منهم الآلاف، وأن نرفعه لمصاف لأبطال؟

جاء ديليسبس إلى مصر ليعقد ” صفقة القرن الـ 19″ مع الوالي سعيد، وكان من أخطر الامتيازات التي ظفرت بها الشركة أن منحها هذا الباشا بدون مقابل مساحات شاسعة من الأراضي بمنطقة القناة تعادل مساحة دولة صغيرة، بحجة تنفيذ المشروع.

وقرر سعيد أنه إذا رأت الشركة لمصلحة المشروع حفر ترعة للماء العذب تصل بين النيل وقناة السويس فإن الحكومة تتنازل لها عن الأراضي الأميرية الواقعة على طول جانبي الترعة، وللشركة الحق في أن تبيع مياه النيل للفلاحين، وهكذا دل امتياز الأراضي على أن ديليسبس لم يكن يرمي إلى إنشاء قناة السويس فحسب، بل كان يستهدف أغراضاً سياسية استعمارية، بحسب كتاب “السخرة في حفر قناة السويس” لمؤلفه المؤرخ والأكاديمي المصري عبد العزيز الشناوي.

ديليسبس للعمال: بحفر القناة تجلبون الخير لعائلاتكم

ويأمر سعيد باشا بحشد 10 آلاف عامل شقوا خلال بضعة أيام ترعة تخرج من النيل شمال دمياط وتصل إلى بحيرة المنزلة، وفي النقطة التي اختيرت بداية لحفر القناة من ناحية البحر المتوسط في 25 أبريل/نيسان 1859 أقيم حفل متواضع إيذانا بالبدء في عمليات الحفر، ووقف ديليسبس يخطب واعدا المصريين والعمال بالرخاء لعائلاتهم وبلادهم، بحسب كتاب الشناوي.

استجاب سعيد لحيل ودهاء ديليسبس وأصدر من الإسكندرية في 20 من يوليو/تموز 1856 لائحة عرفت باسم ” لائحة استخدام العمال الوطنيين في أشغال قناة السويس ” وضمنت الشركة بهذه اللائحة موردا بشريا هائلا تمثل في الشعب المصري الذي سخره سعيد باشا في حفر قناة السويس.

واستجابة لأوامر ديليسبس شهدت سنوات الحفر الأولى للقناة أكبر عملية حشد للعمال الذين يساقون إلى ساحات الحفر، قادمين من الوجهين القبلي والبحري (جنوب وشمال مصر)

وبلغ من استغلال الشركة لهذه المسألة أن قرر كبير مهندسي الشركة أن يحصل على العمال المصريين بمجرد طلب بسيط يبعثه إلى مدير المديرية.

وهكذا أخضع سعيد باشا مديري المديريات و”نظارة ” الداخلية لسلطة مستخدم فرنسي في شركة قناة السويس.

وأهم ما يميز وجود السخرة هو عنصر الإكراه في جمع العمال، والإكراه في ترحيلهم إلى ساحات الحفر، ورغم التعهد بتقديم ماء الشرب والاحتياجات الخاصة لم تلتزم الشركة ومات العمال عطشا في ساحات الحفر.

ضحايا حفر القناة

ونصت لائحة استخدام العمال المصريين في أشغال قناة السويس على أن يكون عدد العمال المصريين في الشركة 4 أخماس مجموع العمال، وهي اللائحة التي تسببت في إكراه حوالي ربع مليون مصري كأكبر حشد آدمي في تاريخ الشركة على العمل في حفر القناة، حين كان تعداد سكان مصر وقتها 4.8 ملايين نسمة عام 1862.

وهكذا أجبر الخديوى سعيد حوالي مليون فلاح -خلال مدة الحفر- على ترك بيوتهم وعائلاتهم وحقولهم ليعملوا سخرة في حفر القناة بوسائل يدوية بدائية بدون ماكينات حفر.

ويوضح كتاب “السخرة في حفر قناة السويس” أن متوسط أجر الفلاح يصل 57.5 قرشا إذا عمل شهرا كاملا في ترعة المياه العذبة، وأما حفر القناة طوال شهر فكان يصل إلى 50 قرشا، بينما اللائحة حددت 4 قروش الأجر اليومي للعامل.

وعصفت الأوبئة والأمراض بآلاف الفلاحين المُسخرين، ثم انتشر وباء الكوليرا صيف 1865 فقتل الآلاف منهم، وتعرض العمال خلال الحفر لمادة طينية سائلة وحارقة أصابت الكثير منهم أيضا وتسببت بوفيات عديدة.

الوثائق والمستندات تتحدث

في حديثه للجزيرة نت، يقول محمد الشافعي رئيس تحرير مجلة الهلال الأسبق “لي كتاب بعنوان: ديليسبس الأسطورة الكاذبة، أهديه لكل من يدعو لعودة تمثال ديليسبس إلى مكانه في قناة السويس” ويتساءل “متى كانت الضحية تكرم جلادها؟”.

ويتابع الشافعي “في الكتاب أقدم الوثائق والمستندات التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الديليسبس لص وخائن وليس إلا مجرما يستحق المحاكمة على عشرات الجرائم التي ارتكبها في حق مصر والمصريين، بل استطاع هذا الأفّاق أن يفعل ما فشلت فيه الجيوش والحملات العسكرية حيث حاول الفرنسيون احتلال مصر أثناء حملتهم خلال حملتي نابليون الفرنسي 1798، وفريزر سنة 1807”.

وأضاف “وديليسبس لم تكن له أية علاقة بمشروع القناة لا فكرة ولا تصميماً ولكنه استطاع عند اكتمال المشروع أن يسطو عليه وأن يستغل علاقته القديمة بالوالي سعيد لكي يحصل منه على امتياز حفر القناة محتمياً بكيانين كبيرين عملا لسنوات طويلة على إنجاز مشروع القناة وهما سان سيمونيون بقيادة القس الفرنسي أنفان ثان وجمعية دراسات القناة بقيادة المهندس النمساوي دي نيجيريللي، وبعد السطو على المشروع مارس ديليسبس كل أنواع التزوير، حيث عمل طوال الوقت على نهب ثرواتها وتقييدها بأغلال من التبعية والمهانة مستغلا ضعف الوالي سعيد والخديوي إسماعيل”.

وكانت أكثر جرائمه قسوة إصراره على استعباد المصريين بالسخرة فضلا عن الخيانة والتواطؤ مع الإنجليز لاحتلال مصر عام 1882، ليوطد أقدام الاستعمار الغربي وفرنسا وإنجلترا في القناة وكل مصر.

ويضيف الشافعي “والذين يشيدون بكفاءة وقدرة الأفّاق ديليسبس عليهم أن يراجعوا سلسلة فشله في العديد من المشروعات الأخرى والتي انتهت بمحاكمته في قضية قناة بنما بتهم تمس الشرف والحكم عليه هو وابنه شارل بالسجن لمدة 5 سنوات ولم ينفذ الحكم عليه نظراً لكبر سنه وإصابته بالشلل”.

وتابع “وبعد هذا الحكم أصدرت فرنسا -التي قدم لها خدمات لا تحصى ولا تعد في مسألة القناة- قراراً بعدم تكريمه بأي نوع من التكريم لأنه مجرم قد ارتكب جرائم مخلة بالشرف، فكيف بنا أن نكرمه ونجعل منه بطلاً؟ والعالم كله جرَمه، ومجلس العموم البريطاني، ندد بأفعاله واتهمه بالتحايل والكذب والعمل لدى الوالي سعيد على إجبار المصريين للعمل مثل العبيد في السخرة”.

وختم بالقول “رد ديليسبس على الحكومة الإنجليزية في خطاب مطول مدعيا أن نظام السخرة يعمل على رفع المستوى المعيشي بين أفراد الشعب المصري، وكان مما قاله في هذا الصدد أيضاً إن الفلاحين يختلطون رويداً رويداً بحضارتنا. خشيتم أن نحمل إليهم البؤس، ولكن نحن نحمل إليهم ملايين الفرنكات ندفعها لهم كأجور. وهذه الملايين تنشر في الريف، وستخفف فترة من الزمن ويلات الربا الذي هو آفة مصر. نحن نسمو بالفلاح إلى مرتبة العامل الحر. نحن نساعد محمد سعيد على تحقيق برنامجه في الحضارة”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.