(1)

حفل ملكي، تشارك فيه حرم الرئيس وابنته، عشرات التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، تعليقًا وتهكمًا على ملابسهما وتصرفاتهما، نالت الابنة النصيب الأكبر من السخرية، التي تنوعت بين التهكم على المظهر والسلوك، والاعتراض على الحلي التي ترتديها، فلما كتبتُ محتجًّا، واجهت معارضة شديدة، بل شديدة جدًّا.

(2)

وجهات نظر الساخرين منها المعترضين على ما قلت إن هذه هي أموال الشعب المغتصبة، والتباهي بها في ظروف اقتصادية صعبة هو نوع من الاستفزاز غير المقبول، وإن سلوك السيدة وابنتها المعيب في نظرهم إنما هو محسوب أمام العالم على مصر، فضلًا عن أننا يجب ألا ننسى أن أنصار الرجل هاجموا من قبل زوجة مرسي رحمه الله، فلماذا لا نهاجم ونسخر من عائلته كما سخروا من عائلة أول رئيس مدني منتخب؟!

ومع قناعتي بالشق الذي يخص الأموال العامة، فإن رأيي كان ألا نزج بالسيدتين في الحديث، وأن الخلاف مع الرجل هو خلاف إنساني وسياسي، ويجب الحفاظ على صورة الاختلاف واضحة.

يقول الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو: إن ما يتحتم علينا أن نفعله هو أن نحتمل لا أن نتنازل، وهو بهذا القول اختصر كل ما أريد قوله

(3)

هل تعرفون ما أصعب ما يواجه المرء في معاركه؟

إنها مبادئه، مبادئه هو وليس مبادئ الآخرين، وليس مبادئ أعدائه.

الباطل لا حدود لديه ليحترمها، إنه يجيز لنفسه استخدام كل الأسلحة حتى يجهز على عدوه، لا محظورات ولا خطوط حمراء، وفي سبيل ذلك لا بأس بالسجون والتعذيب وليِّ القوانين، ولا مانع من تشويه سمعة المخالفين، ورميهم بالفساد وبفضائح جنسية مزعومة وبالأخبار الملفقة والصور المغشوشة، كل شيء متاح، لا حرام، ولا حلال، ولا حق ولا باطل، ولا تقاليد، ولا أخلاق.

أما صاحب الحق فإنه مقيد بمبادئه، متشبث بها، إن تنازل عنها، تساوى مع عدوه، ولم يعد هناك سبب للحرب، فالكل متورط، يقول فريدريش نيتشه: عندما تُحَارِب بنفس أسلحة عدوك سوف تصبح مثله.

علي عزت بيغوفيتش كان يُذكِّر جنوده بمواثيق الإسلام في الحرب: “لا تقطعوا شجرة، ولا تحرقوا بيتًا، لا تقتلوا امرأة، ولا صبيًّا، ولا وليدًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا مريضًا، لا تمثلوا بالجثث..”.

كان الجنود يُنصتون وهم يقاومون غضبهم، فهو يوصيهم خيرًا بالذين يحرقون بيوتهم ومزارعهم، ويقتلون أبناءهم، ويغتصبون نساءهم، أي طاقة يجب أن يتمتعوا بها ليحفظوا مبادئهم.

وإن تمسك المحارب بمبادئه وبأخلاق الفرسان ومبادئ الحرب النظيفة فإنه يعرض نفسه للهزيمة.

إنها معادلة صعبة للغاية.

(4)

الدور التقليدي للشيطان بالنسبة لنا يختص بالمال والجنس، فيما هو يمتد إلى أبعد من ذلك، يمتد حتى إلى تفاصيل صغيرة، قد تكون تافهة، لكنها تمهد الطريق لما هو أهم، والتنازل عن أمر صغير هو مقدمة للتنازل عن أمر كبير، ودائمًا الأعذار في متناول الجميع.

حركات وطنية وإسلامية تقع في ذلك أيضًا، تستبيح أن تتنازل عن بعض مبادئها بدعوى أنها مهددة بالفناء، تعترف بالكيان، أو تصالح قاتلَ شعبه، وإلا فإنها -من وجهة نظرها- ستفنى في هذه الحرب الشرسة.

صحيح يمكن للمحارب تقديم بعض التنازلات، لكنها تنازلات محسوبة بدقة، ولا تمس جوهر مبادئه، وإلا فأين الخلاف إذن بين الصالح والطالح؟

(5)

النصر ليس هو الغلبة، النصر أن تتمسك بمبادئك وبقيمك التي تدعي أنك تدافع عنها، وبأخلاقك، وإلا -مرة أخرى- فقد تساويت مع عدوك، هذه ليست مثالية، هذه واقعية شديدة، فالخلاف مع العدو ليس شخصيًّا، حول فلان الفلاني، بل هو بالأساس حول مبادئ العدل والحرية والنزاهة.

نحن نردد، بإعجاب شديد، حكايات البطل الذي رفض أن يوقع على ورقة هزيلة يسترحم فيها الحاكم ويطلب عفوه، وفضَّل حبل المشنقة، يعني الموت، لتكون لحظة إزهاق روحه هي اللحظة التي انطلقت فيها مبادئه لتنتشر ويعتنقها الناس الذين ما كانوا ليفعلوا لو أنه قرر التنازل وتوقيع هذه الورقة الصغيرة، فحينها ستكون مبادئه هي التي يلتف حولها حبل المشنقة وينهيها.

نعيب على قوات الأمن انتهاكها لحرمات البيوت، ثم نتجرأ فننتهك الحرمات بدعوى أنها حرمات ظالم، أي تناقض هذا؟!

نشاهد في الفيلم المشهور “عمر المختار” وهو يرفض أن يقتل الأسير رغم أن هذا الأخير فرغ لتوه من قتل أتباع سيدي عمر.

يجب ألا يحركك الغيظ، لست في مباراة كرة قدم، ولا في “خناقة” في الشارع تتبادل السباب فيها مع الآخرين. باختصار أنت تحارب خصمك لأنه ظالم، وليس لأن زوجته كذا، أو ابنته كذا.

قيمك ومثلك هي التي تحركك، أو هكذا يجب.

وإلا لماذا ينصرك الله إن فرطت في مثلك العليا؟!

(6)

يقول الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو: إن ما يتحتم علينا أن نفعله هو أن نحتمل لا أن نتنازل، وهو بهذا القول اختصر كل ما أريد قوله.

في الحج، العبء الحقيقي ليس في الصعود والهبوط، والطواف والسعي، وسهر الليالي، العبء الحقيقي هو أن تتحمل إساءات البعض واستفزازهم، فهو مؤلم أكثر من أي عبء، لكن عليك أن تكتم غيظك، وتظل عيناك على الهدف.

إذا كنت صاحب قيم عليا، وتخوض معركة مصيرية، فلا تفكر أبدًا في التنازل، ولكن فكر في التحمل، فهو الضريبة التي يدفعها أصحاب الحق.

لا تبحث أبدًا عن النتيجة السريعة، ولكن في أن تحقق هدفك وغايتك، ولو بعد رحيلك عن هذه الدنيا، وذلك معيار لمدى إخلاصك.

اعترض على المال العام المنهوب، على الظلم، على الدكتاتورية، وليس على مظهر إنسان وقوامه وسمنته.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.