عادة ما تشترك المجموعات الشعرية الأولى بذاتية مفرطة، وكذلك بخصائص أخرى تدل على فردية كتابها، بمعنى أن المجموعة الأولى عادة ما تكون مجموعة عن الحب الضائع والفقدان والهجران يكتب فيها الشاعر تلك النصوص أو القصائد التي ما عاد من الممكن قولها للحبيب مباشرة بعد الفراق.

أطلال العلاقة

وهذا لا يعتبر انتقاصا من الكتابة، إذ لطالما أخذت قصيدة النثر الشعر إلى أمكنة ضيقة لا تشبه الرحابة التي تسعى وراءها قصيدة الوزن، في الوقت الذي تشترك هاتان القصيدتان (الوزن والتفعيلة) بالوقوف على الأطلال.

وإذا كانت الأطلال معروفة في قصيدة الوزن -وهي أطلال المكان- فإن قصيدة النثر وسعت هذه الأطلال لتشمل أطلال النفس والآخر وأطلال العلاقة بين طرفين، فقصيدة النثر التي ضيقت المكان على الشعر وسعته في أمكنة أخرى.

والمجموعة الشعرية “على الأوستراكا أن تظل خضراء” الصادرة حديثا عن دار “هن” للشاعرة المصرية الشابة سمر لاشين تفترق في مزاجيتها وأجوائها عن معظم الكلام أو النقد الذي يقال عن المجموعات الشعرية الأولى لكتابها، فهذه المجموعة الشعرية الأولى لها تخرج قصيدة النثر من البيت والغرفة والسجن والعزلة لتذهب بها إلى ذات الأماكن ولكن كذلك إلى أماكن كثيرة أخرى لا تعني ذاتية الكاتب بقدر ما تعني ضخ ذاتية الكاتبة في ذوات شخصيات أخرى تشبهها.

في قصيدتها الأولى “الذئبة القادمة من قلب الريف” تبدأ سمر من فرديتها أو من ذاتها، ولكن في صراعها مع نفسها أولا ثم مع الآخر، وهو الرجل “أحيانا أسمع في رأسي أغاني/ غجر يرقصون/ أو أصواتا للطبل البلدي/ أو صفير بلابل/ ودائما هناك ذئبة تركض بلا/ توقف داخلي/ لهاث أنفاسها المتقطعة يشعرني بالتعب/ ثمة طريقة واحدة/ لإيقاف تلك الذئبة وإسكات تلك الأصوات/ أن أمتلك مصيدة وسهما/ أو أكتب الشعر!!”، إذ سرعان ما تسترسل القصيدة في وصف علاقتها بالرجل الذي “حوّل الشعر إلى دار عبادة”، وترتفع فيها الدراما حتى تشرح كل الأصوات في داخلها وما حولها.

مسامير في الذاكرة

هذا المفتتح الفردي سرعان ما يتضح أنه عتبة نحو أصوات مختلفة تستغرق كل المجموعة الشعرية التي تجري في 138 صفحة.

وهذا ما يبرر كذلك الإهداء الذي وضعته سمر لهذه المجموعة “إلى كل النسوة/ ذات الوجوه الخشبية/ هذه محاولة أولى/ لنزع المسامير من ذاكرة الخشب”، فهي تأخذ صوتها الفردي ليذوب في جماعية الأصوات التي تذوب رويدا رويدا في صوت واحد، هو صوت “المرأة الريفية/ التي بين يديها حقول تزرع فيها/ ملائكة الله/ ذنبك الوحيد أنك فتحت نافذة الحلم/ بثياب عصرية”.

تقول سمر لاشين للجزيرة نت عن هذه النقطة “لقد تقمصت أصواتا أنثوية عديدة تشبهني وتشبه البيئة التي نشأت فيها، لم أكن أنوي بذلك أن أخرج الشعر من عزلته ومن فرديته، بالعكس كنت أريد أن أقول إننا نحن النساء نتشابه إلى حد كبير لدرجة أننا نسلك طرقا مختلفة، لكننا بطريقة ما نلتقي عند ذات النهاية”.

قصائد الريف

تعيش هذه المجموعة في الريف المصري كما كان منشأ صاحبة المجموعة، لذلك نعثر ليس فقط على مفردات تخص الريف، مثل القش والبوص والخشب والعشب وقرويين وطمي ونهر والغابة والوحوش والغزلان وحقول خضراء، بل كذلك قصائد كاملة.

تقول سمر في قصيدة بيت ريفي “بيت ريفي سقفه من القش/ أبوابه وشبابيكه من البوص/ وامرأة ريفية تحكم إغلاقه عليها/ كل ليلة/ ترتدي كل الأثواب في دولابها الخشبي/ وتلتحف بكل أغطية السرير”.

وتكمل السرد البطيء عن ذاك البيت الريفي وصاحبته الخائفة والوحيدة وربما الشبقة حتى نصل إلى الشعر بقولها “رجل إذا ما أشعل سيجارته هناك في أبعد مكان في البلاد/ وأخرج أول نفس من صدره/ طار السقف وانخلعت الأبواب والشبابيك/ نفس آخر.. يصبح البيت بلا جدران/ وما يزال يدخن حتى يخلع عنها أثوابها ثوبا ثوبا/ فتصبح عارية تماما/ عبثا تلملم نفسها/ نفس آخر يقشر جلدها ويخلع عظامها”.

قصة وشعر

تقول سمر لاشين للجزيرة نت حول أسلوبها الوحشي في الكتابة “أنا أكتب قصائدي بالسكين على جداري، لأحفر ملامحي عميقا في روح القارئ قبل قلبه، أحفر ملامحي دون شفقة كما يليق بشاعرة حريصة على أن تترك أثرا لها، وكما يحب كل شخص أن تكون ملامحي، ملامحي المناسبة لما رسمه لي في مخيلته”.

وتستطرد حول الذي دفعها لكتابة الشعر بأنه حدث حين طرق الحب باب قلبها أول مرة، وهي في الـ12 من عمرها، لم تخبر الصبي الذي أحبته بحبها “أتذكر ذلك بوضوح، كان هناك شيء بداخلي أكبر من أن استوعبه، أكبر من قلبي الصغير، وفهمي “الصفر” عن شيء كهذا، كل ما أردته أن أغني، أن أرقص، أن أطرد هذا الشيء الثقيل عن صدري..”.

وتتابع سمر للجزيرة نت “لأني لا أجيد الغناء، ولم تعلمني الحياة الرقص بعد -كل الأشياء كنت لا أجيدها تقريبا- حتى مررت بجانب سور المدرسة وبيدي طباشير”. توقفت سمر الصغيرة لحظة، أو ربما شيء ما أوقفها؛ وكتبت “إذا توقفت يوما عن حبي، سأخبر أبي بشأن الورقة التي كتبت لي فيها أحبك ووضعتها في كتابي، سأحتفظ دائما بالورقة والكتاب، كدليل على الحب”. هل كتبت سمر ذلك، في العلن، كتهديد أم كشعر طفولي؟.. لقد كتبت ذلك دون ذكر اسمها طبعا، وفي اليوم التالي وجدته كتب ردا عليها: “صدقيني لن أتوقف أبدا”.

الحب ينتهي

تقول سمر للجزيرة نت إن “الحب ينتهي دوما في مرحلة ما، عكس الكتابة تظل وفية لك للأبد”.

وسمر تسرد حكايات كثيرة حول نساء مخذولات من رجال مختلفين؛ تكتب عن المرأة المهجورة قصيدة لحبيها في ليلة عرسه من أخرى، وعن أخرى تجلس مع حبيبها الذي خذلها وأهله ورجال عشيرته، وكأننا في جلسة صلح بعد قتل أحد لأحد ما!

وتدور القصائد في أجواء تنتشر بها رائحة الريف القوية والرطبة، وتنشر العتمة في مساحات هائلة وواسعة. كتابة تبدو وكأنها بسكاكين أنثوية حادة.

والقصائد مكتوبة بأسلوب قصصي وحكائي، وبوجود نصوص قائمة على الحوار كما في القصة والمسرح، وهو ما وسمت به قصيدة النثر المصرية بشكل عام؛ إذ تبدو قصيدة النثر وكأنها قصة مكثفة تقول الشعر في النهاية. كأن تقول “أنفض الغبار عن الكمنجات المهجورة في ركن قلبي”، أو “في قلبي سمكة صغيرة ملونة، نصبوا لها الشباك”، أو “لا شيء يستحق أن أستيقظ لأجله”، أو “مواطنون بالأبيض والأسود/ لكنهم يصفقون بحرارة للخطابات الملونة/ التي يلقيها الرئيس”.

طلب القبلة من أجل قتل الوحش يملأ هذا الكتاب، الذي تهدي كثيرا من أقسامه لكاتبات وشاعرات مثل آن سكستون وسلفيا بلاث وفروخ فرخزاد وغادة السمان وجويس منصور وأخريات، والشاعرة التي تنام بعينين مفتوحتين. الذعر من الغرفة والقرية والعالم، وكأن العتمة تملأ كل مكان.

تقول سمر للجزيرة نت إنها -مع الوقت- تأقلمت مع خوفها، وأصبحت تبصر نفسها في تلك العتمة، وتهدهد هذا الخوف بالكتابة، “أكتب بالقلم في الدفتر، بالطباشير على الحائط، بالسكين على يدي، بالعصاة على الأرض، المهم أن أجد سبيلا يخرجني من عتمتي، أو يدخل شمسا إليها. نعم، لقد تعرفت على نفسي من خلال الشعر، أو لنقل هو من خطفني وجعلني أحبه وأحب نفسي كما هي”.

حيوات كثيرة

الحسية شديدة في هذه المجموعة، ولشدة وجودها وبأشكال وأزمنة مختلفة، يعرف القارئ أن هناك حيوات كثيرة تعيشها الشاعرة في قصائدها. في مرات كثيرة تشبه تدوين كوابيس وملاحقات من القبيلة والوطن والزمن والقانون والحب، لذلك تكون المباشرة والعاطفية موجودة إلى جانب تفاصيل تلك الحيوات، وهذا ما قد يثقل على الشعر في كثير من الأحيان.

وعن ذلك تقول سمر للجزيرة نت إنها اختارت حيواتها كلها و”عشتها بكامل إرادتي، وهذا أفضل ما فعلته. كل النساء في القصائد أنا، كل خير في القصائد وشر هو أنا، الشر في نقطة ما يصافحني ويشكرني أني حررته من مناطقه المظلمة. إذ ما عاد من الحكمة أن ننكر الجانب المظلم في الشعر، أو نحاول إدخال الضوء إليه، لا، علينا فقط أن نؤمن به، ونعلن ذلك مفتخرين به كالنور تماما.”

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.