من المؤكد أن “كارل غوستاف يونغ” (Carl Gustav Jung) واحد من أشهر علماء النفس الذين أنجبتهم أوروبا، وأكثرهم تأثيرا، بنظرياته العديدة حول بنية الشخصية وتكوين النفس، ولكن حياة هذا العالم المُحب للوحدة لم تخلُ من المآسي والصعاب التي شكَّلت شخصيته في الصغر وأثَّرت على نظرياته عندما كبر. كان للدين والإله دور محوري في حياة يونغ، فقد خافه صغيرا وتعلق بيه كبيرا، وبحث عنه في الثقافات البدائية في أفريقيا وأميركا الجنوبية.

 

مدرسة يونغ

“أعظم وأهم مشكلات الحياة غير قابلة للحل بشكل أساسي. لا سبيل إلى حلها ولكن يمكننا تجاوزها”.

كان يونغ أول مَن أدخل مصطلح “اللاوعي الجمعي” إلى علم النفس، واعتبره جزءا من النفس، وبهذا اختلف مع نظرية سيغموند فرويد الشهيرة التي تُقسِّم النفس إلى الهو والأنا والأنا العليا. يُمثِّل اللاوعي الجمعي ذكريات وخبرات أسلافنا الذين سبقونا على الأرض، الذين نرث منهم مجموعة من النماذج الأولية التي توجِّه نمونا وحياتنا، هذه النماذج هي ببساطة مجموعة من الخصائص يولد بها جميع البشر، وتجعلهم يتخذون ردود الفعل ذاتها في مواقف معينة دون أن يشعروا بوجودها؛ لأنها تقع في الجزء اللاواعي من أنفسهم.

 

وضع يونغ أيضا نظرية الشخصية، التي تُصنِّف الشخصيات طبقا لأربع وظائف هي التفكير والشعور والإحساس والحدس تتقاطع مع اتجاهين سلوكيين شهيرين: السلوك الانبساطي المحب للتفاعل مع العالم، والسلوك الانطوائي الذي يركز على العالم الداخلي، لتنتج ثمانية أنواع من الشخصية. وعلى عكس فرويد، لم يهتم يونغ كثيرا بذكريات الطفولة المكبوتة، بل صب تركيزه على حاضر ومستقبل المرء مفتاحا لتحليل العصاب وعلاجه.

 

فرغم أن يونغ كان من أوائل تلاميذ فرويد الذي كان من المفترض أن يكون خليفته في رئاسة الرابطة الدولية للتحليل النفسي التي أسسها، فإن علاقتهما ساءت بعدما أعلن يونغ عن رفضه لبعض أفكار فرويد، ومن ثم أسس مدرسة علم النفس التحليلي لتكون مختلفة عن مدرسة التحليل النفسي الخاصة بفرويد.

كارل يونغ. (ويكيبديا)

لعب الدين دورا محوريا في تشكيل شخصية يونغ منذ الصغر، وأثَّر على أعماله ونظرياته فيما بعد أيضا. ورغم نشأته في عائلة متدينة، إذ كان والده قِسًّا، فإن مجموعة من الحوادث المتلاحقة خلقت داخله ذعرا نحو رجال الدين، ولم يتخلص من هذا الشعور إلا في عمر متقدم، بعدما استعاد علاقته بالله تدريجيا، واقترب أكثر من الديانات المختلفة وطقوسها، وتكشّفت له معاني بعض الأحلام الغريبة التي كان يراها طفلا.

 

طفولة مزدوجة وأحلام مخيفة

“الأحلام هي الكلمات التي تهتدي بها الروح. لماذا إذن لا أحب أحلامي من الآن فصاعدا، وأجعل صورها المحيرة موضوعا أفكر فيه يوميا؟”.

تعقدت علاقة يونغ بـ”الرب” أو “الإله” بعد حضور إحدى الجنائز التي رأى فيها القساوسة يرتدون معاطف سوداء وقبعات عالية وأحذية سوداء، وارتبط هذا المشهد في رأسه بـ”المسيح” الذي “يأخذ” الأطفال والموتى ليكونوا معه. زاد الأمر سوءا إثر الحلم المخيف الذي طارد يونغ في طفولته، ووقعت أحداثه في المرج القريب من منزل والديه في بلدية كيسويل السويسرية وهو ما زال طفلا في الرابعة. رأى الطفل في المنام داخل حجرة مستطيلة كائنا بلا ملامح يجلس على عرش ذهبي عظيم ويمتلك عينا واحدة ويحدق في السقف، وسمع صوت والدته من مكان ما تقول: “انظر إليه، هذا هو آكل البشر”، ثم استيقظ في حالة من الفزع.

منزل الطفولة الذي تربى فيه كارل يونغ - مدينة بازل - سويسرا
منزل الطفولة الذي تربى فيه كارل يونغ – مدينة بازل – سويسرا. (ويكيبديا)

ربط الصغير بين هذا الكائن وبين المسيح، لذا عجز لفترة طويلة عن تقبُّل الدين أو حبه، بل وخشي كل رجال الدين الذين يرتدون الأسود، رغم أن والده وثمانية من أعمامه كانوا قساوسة. هذا الحلم وهذه الأفكار من الطفولة هي ما أسس للنصف الثاني من حياته، عمله في التحليل النفسي ونظرياته وفلسفته في الحياة.

 

في سن الرابعة، انفصل يونغ عن أمه لعدة أشهر، التي كانت تعاني من مرض ألزمها المستشفى طوال هذه المدة، وبقي هو مع عمةٍ له طوال هذه الفترة، وتكونت لديه فكرة مفادها أن النساء كائنات لا يُعتمد عليها، بينما الرجال جديرون بالثقة، وبينما اعتنق هذه الفكرة لفترة طويلة فإن الحياة أرته نماذج لرجال خانوا ثقته، ونساء أثبتوا أنهن جديرات بها (1).

 

المراهق

“إن لقاء شخصيتين يشبه تلامس مادتين كيميائيتين: إذا حدث أي تفاعل، فإن كلتيهما تتحول”.

كان للمدرسة هي الأخرى تأثير قوي على شخصية يونغ الصغير، إذ كان يتعامل مع أقرانه بشخصية انبساطية محبة للمرح، بينما في الحقيقة كان طفلا انطوائيا محبا للوحدة والتأملات الداخلية. شعر يونغ بالتهديد من هذا الانفصال في شخصيته، ومن هذا التأثير الذي أحدثه العالم الخارجي عليه، وواجه هذا الخوف بنحت تمثال صغير يُمثِّل رجل الدين الذي يهابه، أخفاه في علبة صغيرة في علية المنزل، ولم يخبر أحدا عنه قط حتى جاوز الستين من العمر.

 

أثَّرت شخصيتا والدَيْ يونغ كثيرا على أفكاره، فكما كان هو شخصيا يمتلك شخصيتين، الشخصية شخصية منفتحة وأخرى انطوائية أقرب لحقيقته، امتلك كل من والديه أيضا من وجهة نظره شخصيتين متناقضتين، شخصية طيبة أمام الناس، وشخصية غريبة أو عدوانية في البيت. استقى يونغ من هذه التناقضات أنواع الشخصية الثمانية التي تنتج من تلاقي أحد الطابعين الانبساطي أو الانطوائي مع إحدى الوظائف الأربع المتمثلة في التفكير في مقابل الشعور، والإحساس في مقابل الحدس.

 

يُمثِّل التفكير والشعور “الوظائف العقلانية”، فإما أن يفكر الشخص في الأمور بروية قبل اتخاذ قرار ما، وإما أن يختار بناء على مشاعره نحو موضوع الاختيار. على الجانب الآخر يُمثِّل الإحساس والحدس “الوظائف غير العقلانية”، حيث يُفضِّل الشخص الحساس أن يكون كل شيء متوازنا ومنضبطا، بينما الشخص الحدسي لا يبالي كثيرا بالنظام ويُفضِّل العشوائية في القرارات. ورغم أن المرء يستطيع أن يمتلك كل هذه الوظائف، فإنه يميل دائما نحو نمط معين في شخصيته يتميز به، وكان يونغ يعتبر نفسه شخصا حدسيا في العموم (2).

كارل يونغ شابا
كارل يونغ شابا. (ويكيبديا)

 

إيما

“لقد هزتني رؤيتها بشدة، لأنني لم أرها حقا إلا لفترة وجيزة، لكنني عرفت على الفور على وجه اليقين أنها ستكون زوجتي”.

انعكست شخصية يونغ الحدسية على اختياره لشريكة حياته، إذ رآها للمرة الأولى لوهلة قصيرة، وكانت ابنة الأربعة عشر ربيعا وهو ابن الحادية والعشرين، لكن هذه اللمحة كانت كافية بالنسبة له ليقرر أن هذه الفتاة لا بد أن تصبح زوجته يوما ما، وهو ما كان. تزوج يونغ من إيما روشنباخ، الفتاة الثرية الذكية، عام 1903، وكانت من الثقافة والاطلاع أن ساعدت زوجها في عمله في علم النفس التحليلي.

 

بالنسبة لإيما، كان يونغ شخصا معقدا عليما بشؤون الحياة، ومتحدثا لبقا أيضا. ولكن يونغ نفسه لم يكن بهذه الثقة، إذ غرق في أزمة نفسية بعد خطبته من إيما، دفعته للانسحاب من الحياة العامة والانعزال بعيدا، مستعيدا شخصيته الانطوائية. كان يشعر بالدونية والعار من مستواه الاجتماعي والمادي، خاصة عندما يقارن نفسه بزملائه في مستشفى الطب النفسي الجامعي بزيوريخ، الذين بدوا واثقين من أنفسهم، بينما هو تائه في هذا العالم الجديد عليه (3).

إيما يونغ زوجة كارل يونغ
إيما يونغ زوجة كارل يونغ. (ويكيبديا)

رغم هذا الحب العميق، عانى زواجهما كثيرا بسبب علاقات يونغ المتعددة، خاصة علاقته الشهيرة بسابينا سبيلرين، واحدة من أوائل المحللات النفسيات، التي كانت مريضة لدى يونغ في البداية، ثم تلميذة له قبل أن تصبح زميلته في المجال. كانت علاقتهما تحديدا أكثر ما يثير غيظ وغيرة إيما، وقد جُسِّدت هذه العلاقة في فيلم “طريقة خطيرة” (A dangerous method) من بطولة كيرا نايتلي ومايكل فاسبندر.

فيلم "طريقة خطيرة" الذي يجسد علاقة كارل يونغ بسابينا سبيلرين 
فيلم “طريقة خطيرة” الذي يجسد علاقة كارل يونغ بسابينا سبيلرين.  (مواقع التواصل)

 

فرويد

“لا يولد الوعي دون ألم”.

لعل العلاقة بين كارل يونغ وسيغموند فرويد هي إحدى أهم العلاقات التي أثَّرت على مسار حياته، وقد وصفه يونغ بأنه “أول رجل له أهمية حقيقية في حياتي”. كانت قراءة يونغ لكتاب “تفسير الأحلام” لفرويد هي الشرارة التي أشعلت اهتمامه به، إذ وجد فيه توافقا في أفكارهما، وكان لقاؤهما الأول في فيينا عام 1907، بعد فترة وجيزة من تبادل المراسلات والأفكار، وكان فرويد في ذلك الوقت يبحث عن تلاميذ لينشروا منهجه في التحليل النفسي.

 

رغم ذلك، بدأت الخلافات بين الاثنين منذ اللحظة الأولى، إذ لم يقتنع يونغ تماما بتفسير فرويد لكل تصرفات وأحلام البشر أنها ذات دوافع جنسية دفينة، حتى إنه عزا النزعات الروحانية في الفن وفي الأشخاص إلى السبب ذاته، وهو ما لم يرُق ليونغ كثيرا. لم تمنعهما هذه الاختلافات من الاستمرار في العمل معا لعدة سنوات، حتى رشَّحه فرويد لرئاسة الرابطة الدولية للتحليل النفسي مدى الحياة.

 

زادت الخلافات بشدة عندما نشر يونغ عمله عن تطور الشخصية ونظرية العقل الجمعي، إذ قلل من أهمية الدافع الجنسي في تكوين شخصية الإنسان، وركز اهتمامه أكثر على إرث الأسلاف النفسي المسؤول عن رسم الطريق للبشر. عندما نُشر كتاب “علم نفس اللاوعي” ليونغ عام 1912، كانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ لم يستطع فرويد قبول أفكار تلميذه، ورفضها بشدة، مما أدى إلى ابتعاد معظم زملائه عنه، ونفيه عن مجتمع التحليل النفسي.

كارل يونغ جالسا أقصى اليمين، وسيغموند فرويد أقصى اليسار
كارل يونغ جالسا أقصى اليمين، وسيغموند فرويد أقصى اليسار (ويكيبديا)

 

النماذج الأربعة

تقول النظرية محل الجدل إن اللاوعي الجمعي للبشرية يحتوي على “النماذج الأولية اليونغيّة” (Jungian archetypes)، وهي صور ذات معانٍ موحدة عابرة للثقافات، ويظهر أثرها على الدين والفن والأحلام والأدب. حدد يونغ عددا كبيرا من النماذج الأولية التي تضع الأساس الذي تتشكل منه شخصياتنا وتوجهاتنا في الحياة، ولكنه اهتم بأربعة منها على وجه الخصوص.

 

النموذج الأول هو “الشخصية” (The Persona)، وهي القناع الذي نرتديه أمام الناس ولا يعبر بالضرورة عن حقيقتنا، مثل الشخصية الانبساطية التي كان يُمثِّلها يونغ في صغره وشبابه. أما النموذج الثاني فهو “الروح” (The Anima/Animus) وتعني الجزء اللاواعي الأنثوي في الرجل، أو الجانب الذكوري من لاوعي المرأة، وهو يرى أن ذلك نتيجة القرون الطويلة التي عاشها الرجال مع النساء، فتأثر كلٌّ منهما بالآخر.

 

أما النموذج الثالث فهو “الظل” (The Shadow) وهو الجانب الحيواني من البشر، ويوافقه “الهو” في نظرية فرويد، ويحتوي على الرغبات والأفكار المكبوتة، ونقاط ضعف المرء، وهو الجانب الذي نرغب دائما في إخفائه عن الجميع مثل سرٍّ نخجل منه. وأخيرا هناك “النفس” (The Self) وهي تُمثِّل الوحدة بين الوعي واللاوعي، وتضافر جميع مكونات شخصية المرء لتحقيق الذات والسمو، وكان يونغ يراها مثل دائرة أو ماندالا (4).

ماندالا
ماندالا (مواقع التواصل)

 

الصوفي

“بالنسبة إلى الشاب، يكاد يكون من الخطيئة أو على الأقل من الخطورة أن ينشغل كثيرا بنفسه، لكن بالنسبة للمسنين، من الواجب والضرورة تكريس الاهتمام الجاد لنفسه”.

بدأ فصل جديد من حياة يونغ عندما زار تونس للمرة الأولى برفقة صديق، أخيرا يستطيع أن يراقب شعبا مختلفا عنه في اللغة والثقافة، ويمكنه رؤية نظرة الآخر نحو الرجل الأوروبي. تعددت رحلاته بين بعض دول أفريقيا والهند وأميركا الجنوبية، ولمس في كلٍّ منها حياة مختلفة عن تلك التي يعيشها الرجل الأوروبي، كان يرى أن تلك الشعوب البسيطة تعيش أقرب للحياة، وتفكّر بقلبها لا بعقلها.

 

قرر يونغ بعد هذا أن يعتنق العزلة في برج سمَّاه “بولينجن” على حدود زيوريخ، بعيدا عن عائلته، وحيدا مع أفكاره، في هذا البرج كان يشعر أنه نفسه بشكل عميق، الشخصية الثانية التي تعوّد أن يخفيها عن الجميع تستطيع أن تعيش هنا بحرية. اضطر أن يعيش حياة بسيطة بلا كهرباء أو مياه جارية، وكان يصنع كل شيء بنفسه، ولكن هذا جعله في انسجام مع الطبيعة.

 

بجانب ذلك، ظهر الجانب الصوفي الذي طالما كان هناك، الجانب المؤمن بوجود قوة عليا تحكم البشر، حتى إنه كان مؤمنا أن الأساطير الدينية في الثقافات المختلفة لم تكن محض هراء، ولم تكن من الأساس من صنع البشر، بل هي كلمة مرسلة من الإله. ويعود مرة أخرى إلى نماذجه الأولية، ويرى أن الأساطير ما هي إلا تعبير مبالغ عن مجموعة من الصور التي تصوغ النماذج الأولية التي يعيش البشر على أساسها.

 

استمر يونغ في العمل أستاذا لعلم النفس حتى أقعده المرض، واستمر في التأليف لعدة سنوات أصدر خلالها بعضا من آخر أعماله، قبل أن يتوفى في زيوريخ عام 1961 بعد فقدانه لزوجته ورفيقة دربه بست سنوات فقط.

كارل يونغ يطالع كتابا
كارل يونغ يطالع كتابا. (مواقع التواصل)

عاش يونغ حياة ثرية ومليئة بالأسرار الغريبة، ولم تمنعه الثقة المزعزعة بالنفس من أن يتمسك بنظرياته، وأن يُعارض أستاذه ويتقبل النبذ والوحدة، وإن لم تُمثِّل الوحدة مشكلة ليونغ أبدا، إذ كانت شخصيته الحقيقية تُفضِّلها وتصبو إليها. ترك يونغ بصمة لا تُمحى في تاريخ الطب النفسي بوصفه أحد الآباء المؤسسين لعلم النفس التحليلي، وخاصة نظرياته الثورية في وقتها عن العقل الجمعي وأنواع الشخصيات. يقول يونغ: “النفور من الموت شيء غير صحي وغير طبيعي، فهو يسلب الهدف من النصف الثاني من الحياة”.

——————————————————————————————-

المصادر:

1- Memories, Dreams, Reflections by Carl Jung

2- Chapter 3, Part 3: Jung’s Personality Types – PSY321 Course Text: Theories of Personality

3- Labyrinths, Emma Jung, Her Marriage to Carl, and the Early Years of Psychoanalysis 

4- Carl Jung | Simply Psychology

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.