القاهرة- “في اليوم المحدد عندما ظهرت سيارة الوزير، وتحفزت لإلقاء القنبلة تنبهت في الثانية الأخيرة لوجود طفلين في السيارة، ما حال بيني وبين إلقاء القنبلة، فلم أكن قاتلا لكنني كنت إنسانا يدافع عن وطنه، وفي اليوم التالي ذهبت في نفس الميعاد وعند قدوم الموكب، تقدمت وألقيت القنبلة، وانفجرت وملأ الدخان المكان”.

بهذه الكلمات وصف المناضل الشاب عبد القادر شحاتة الشهير بالجن في مذكراته محاولته الأولى لاغتيال الوزير المصري محمد شفيق باشا، في ذلك اليوم من صباح 21 فبراير/شباط 1920.

وقد قدمت السينما المصرية حكايات أبطال المقاومة الشعبية للاحتلال الإنجليزي في خضم ثورة 1919 مؤخرا في الفيلم السينمائي “كيرة والجن”، الذي تجاوزت ميزانيته 100 مليون جنيه، ويحقق إيرادات كبيرة في دور العرض المصرية، كما يعرض في دول عربية وأجنبية مختلفة، مثيرا حالة كبيرة من الجدل بين الجمهور في وسائل التواصل الاجتماعي.

قد يتفق البعض أو يختلفون بشأن المستوى الفني للفيلم، الذي ألفه أحمد مراد عن روايته “1919” وأخرجه مروان حامد، لكن لا يمكن إنكار أهميته لإلقاء الضوء على صفحات منسية من تاريخ الثورة المصرية عام 1919، حين شاركت النساء بقوة في المظاهرات الرافضة للاحتلال، كما ارتفعت الأعلام تحمل الهلال والصليب في مشهد خلدته كتب التاريخ لما عرف بالوحدة الوطنية بين مسلمي مصر وأقباطها.

شحاتة الجن

ولد عبد القادر شحاتة الجن (الذي جسّد شخصيته الفنان أحمد عز) بأسيوط في جنوب مصر عام 1898، فقد والده في صغره، وقام شقيقه الأكبر عبد الجواد بتربيته، وانضم للتنظيم السري لثورة 1919 في سن المراهقة، وتعرف على الأخ فهمي، الاسم الحركي لأحمد كيرة، والذي قدم شخصيته الفنان كريم عبد العزيز.

تم تكليف الجن بتوزيع المنشورات ضد الاحتلال الإنجليزي في المنيا، وسرعان ما قبض عليه الإنجليز، وحكم عليه المجلس العسكري البريطاني بالإعدام رميا بالرصاص، لكن حكمدار المنيا خليل حافظ أنقذه من الموت المحقق وساعده على الهرب.

اختار الإنجليز وقتها محمد شفيق باشا ليكون وزيرا للأشغال، لينفذ مشروعات الاحتلال في السودان،الأمر الذي اعتبره التنظيم السري للثوار خيانة لمصر، واتخذوا قرارا بقتل الوزير الموالي للعدو، واختاروا شحاتة الجن لتنفيذ المهمة.

كريم عبد العزيز (أحمد كيرة) وأحمد عز (شحاتة الجن) من فيلم “كيرة والجن” (مواقع التواصل الاجتماعي)

محاولة اغتيال فاشلة

 كانت الخطة أن يلقي الجن قنبلة نيتروجلسرين أمام موكب محمد شفيق، وذهب الجن لتنفيذ الخطة متنكرا في زي عامل، ومع ظهور سيارة شفيق لاحظ وجود طفلين في سيارته في اللحظة الأخيرة قبل أن يلقي القنبلة، فلم ينفذ الجن خطته.

في اليوم التالي ذهب الجن من جديد، وظهرت سيارة شفيق، فألقى الجن قنبلته، انفجرت القنبلة وملأ الدخان المكان، لكنها لم تصب الهدف، سارع الجن بالركض هاربا، التقى بالصدفة صديقا، أخذه وركبا معا حنطورا، وعندما أخذ الجن يخلع ملابسه، رأى صديقه مسدسه، أيقن أن الجن هو سبب الانفجار، صرخ صديقه محدثا الكثير من الضجة، فلجأ الجن إلى مدرسة بنات مجاورة، ليختبئ بها، لكن سائق الحنطور أخبر الشرطة بمكانه، فحاصرت الشرطة المدرسة وألقت القبض على الجن.

اعتراف

خلال التحقيقات، اعترف الجن بأنه من ألقى القنبلة، ورفض بشدة الإدلاء بأي معلومات عن التنظيم السري للثوار، فشل المحققون في انتزاع أي من أسماء المتورطين في المخطط، ورفض الإجابة عن سؤالهم أين بات ليلته قبل تنفيذ العملية أو من كان بصحبته.

تدخلت سيدة اسمها دولت فهمي (قدمتها في الفيلم الفنانة هند صبري) للاعتراف أمام جهات التحقيق أن شحاتة الجن هو عشيقها، وبات ليلته الأخيرة قبل العملية في بيتها، لتخاطر بسمعتها ومستقبلها كله كي تنقذه وتنقذ التنظيم السري للثوار.

صدر الحكم ضد عبد القادر شحاتة الجن بالإعدام، وتم تخفيف الحكم لاحقا إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وعندما تولى سعد باشا زغلول رئاسة وزراء مصر أفرج عن المسجونين السياسيين ومنهم الجن عام 1924.

دولت فهمي

في صعيد مصر بمحافظة المنيا ولدت دولت فهمي، وسافرت للقاهرة للعمل في مدرسة الهلال الأحمر القبطية للبنات، وانضمت للتنظيم السري للثوار لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، شاركت في طباعة وتوزيع المنشورات، وانضمت للمظاهرات الأولى الرافضة للاحتلال مثلما شاركت آلاف النساء، لكنها قللت من مشاركاتها العلنية بسبب انتمائها لتنظيم سري يقاوم الاحتلال.

بعد القبض على عبد القادر الجن في محاولة اغتيال الوزير شفيق باشا، وصلت إلى عبد القادر رسالة بأن سيدة تنتمي للتنظيم السري ستأتي وتخبر المحقق أنه كان يبيت عندها، وأن عليه أن يعترف بنفس الشيء، رغم ما تشكله هذه الشهادة وهذا الاعتراف على سمعة سيدة قبطية تنتمي لأسرة من قلب الصعيد.

لعب القدر لعبته أن يكون كاتب التحقيق من نفس قرية دولت فهمي في الصعيد، ليبلغ أهلها باعترافها، ليضع أهلها خطتهم للتخلص من دولت انتقاما لشرفهم.

جاء أهل دولت إليها، وأخبروها أن خالتها داسها القطار، فسافرت معهم في قطار الصعيد لتقديم واجب العزاء، وعندما وصل القطار إلى المنيا، ركبوا عربة أخرى إلى قريتهم، واقترحوا عليها الذهاب مباشرة لقبر الخالة، ليقوموا بذبحها أمام القبر في مشهد غادر (الأخ يقتل أخته على مرأى ومباركة الأم في الفيلم).

يحكي عبد القادر شحاتة في مذكراته أنه أحب دولت فهمي، وبحث عنها بعد خروجه من السجن ليرتبط بها، لكنه فوجئ بنهايتها المأساوية.

دولت فهمي على الشاشة

في عام 1987 اختارت المخرجة أنعام محمد علي قصة الكاتب مصطفى أمين “دولت هانم التي لا يعرفها أحد” لتقديم حكاية دولت فهمي على الشاشة الصغيرة، متحمسة لتقدم عملا عن ثورة 1919، ووقع اختيارها على الفنانة سوسن بدر لتقدم شخصية دولت فهمي، لأنها “تتمتع بوجه مصري خرج من تمثال فرعوني لامرأة فرعونية هي نفرتيتي” كما وصفتها أنعام في حديثها لجريدة الأهرام.

وعادة ما تشكل قصص الحب بين المسلمين والأقباط في السينما المصرية خطا أحمر، لا تجيزه الرقابة بسهولة، لكنها توقفت هذه المرة أمام القصة البطولية لقصة حب عبد القادر الجن ودولت فهمي، وإن كانت القصة لم تحدث فعلا كما قدمها الفيلم.

في “كيرة والجن” نرى تطورا دراميا للعلاقة بين عبد القادر الجن ودولت فهمي، كيف تحول الجن من شاب متورط مع الإنجليز لمناضل يضحي بحياته من أجل مصر، ويلتقي دولت فهمي في التنظيم السري للثوار، ليقع في حبها، ترفض هي هذا الحب بسبب اختلاف ديانتهما، لكنها لا تتردد في أن تضحي بسمعتها كي تنقذه من حكم الإعدام كما حدث في الواقع.

كيرة مطلوب حيا أو ميتا

“اقبضوا عليه حيا أو ميتا، اسمه أحمد عبد الحي كيرة، كيميائي كان طالبا في مدرسة الطب، خطير في الاغتيالات السياسية، قمحي، قصير القامة وذو شارب خفيف وعمره 28 عاما”.

أصدرت المخابرات البريطانية هذا المنشور للمطالبة برأس الطبيب الشاب عبد الحي كيرة (قدمه الفنان كريم عبد العزيز) الذي اعتبره الإنجليز لسنوات ابنا للإمبراطورية البريطانية، ولم يعرفوا أنه يدخل معامل مدرسة الطب للحصول على مواد تستخدم في تركيب المتفجرات، ويسلمها للجنة التنظيم الثوري التي تصنع القنابل.

كشف الإنجليز أمر كيرة خلال اعترافات قتلة السير لي ستاك عام 1924، ليهرب كيرة إلى إسطنبول ويستقر هناك، حتى قتله ثلاثة من عملاء الإنجليز في مصر، ومثلوا بجثته.

قد تتشابه هذه الأحداث مع كثير مما شاهده الجمهور في فيلم “كيرة والجن”، خصوصا النهاية المأساوية لكيرة ودولت فهمي، مع بعض من الحبكات الدرامية من خيال المؤلف ولمسات المخرج لتقديم معارك صاخبة تنتمي لعشرينيات القرن الـ20، وإذا كانت قد أثارت بعض الانتقادات، فإنها بالتأكيد قدمت ملحمة سينمائية ضخمة الإنتاج عن بطولات منسية لمناضلين لا يعرفهم كثيرون من الشعب المصري.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.