تنظم القواعد المكتوبة أو غير المكتوبة كل جانب من جوانب حياتنا تقريبا، وتحدد ساعات عملنا، وتفرض علينا كيفية السير أو قيادة السيارة، وتنظم طقوس الحياة من الولادة حتى الموت، وتخبرنا ما إذا كان علينا أن نقدم يدا للسلام فحسب أم بدلا عن ذلك نقرب الخد للتقبيل والتحية.

في كتابها “القواعد.. تاريخ قصير لما نعيش به” تتبعت المؤرخة لورين داستون تطور القواعد الناظمة في التقاليد الغربية وكشفت كيف تطورت القواعد من العصور القديمة إلى العصر الحديث.

وتقول المؤلفة -وهي أستاذة دراسات الفكر الاجتماعي بجامعة شيكاغو- إن بعض الناس قد يغضبون من القواعد التي تحكم ظروف حياتهم ويتوقون إلى قواعد أخرى بديلة، ومع ذلك لا يمكن لأي ثقافة الاستغناء عن القواعد بالجملة، ولم يحدث ذلك تاريخيا، فالثقافات تختلف بشكل ملحوظ في محتوى قواعدها، لكن لا توجد ثقافة بدون قواعد، ويبدو أن كتابا عن كل هذه القواعد أقل قليلا فقط من كتاب عن تاريخ البشرية كلها.

وبالاعتماد على مجموعة غنية ومتنوعة من المصادر والأمثلة -بما في ذلك الرسائل والمواد القانونية وكتب الطبخ والكتيبات العسكرية وأنظمة المرور وحتى كتيبات دليل الألعاب وغيرها- توضح داستون أنه في حين أن محتوى القواعد متنوع بشكل مذهل فإن الأشكال والنماذج التي تتخذها قليلة ويمكن حصرها بشكل مدهش وممتد زمانيا على مدى أطول مما يتوقع البعض.

ومع ذلك، تعتبر المؤلفة أن عملية صياغة القواعد تسمح بمرونة في تطبيقها وخاضعة للتفسير البشري وحتى لسوء التوظيف، فمثلا في السياق القانوني كثيرا ما يخون تطبيق نص القانون روح العدالة أو إرادة المشرع.

أنواع القواعد

وتكشف داستون عن 3 أنواع دائمة من القواعد، وهي الخوارزميات والمقاييس الرياضية التي تحسب وتقيس، والقوانين التي تحكم، والنماذج التي تُدرَّس، وتوضح كيف يمكن للقواعد أن تتغير، وكيف تصبح القواعد المرنة أكثر صرامة أو العكس، وكيف تصبح اللوائح المزعجة أحيانا قواعد يومية حيث يتم وضع قواعد لكل نشاط يمكن تخيله تقريبا وتتراوح من اللوائح الدقيقة إلى قوانين الطبيعة.

وتستقصي المؤلفة ضمن هذا التنوع متى تطبق القواعد ومتى لا يؤبه لها، ولماذا بعض المشكلات الفلسفية حول القواعد قديمة قدم الفلسفة نفسها، فيما البعض الآخر حديث مثل مشكلات الآلات الحسابية، وبشكل عام يفترض الكتاب صعوبة تغيير القواعد.

ويتناول الكتاب بعض القصص التاريخية، وفي أحد أكثر أجزائه تشويقا يعيد طرح فكرة الفيلسوف وعالم الرياضيات النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951) الذي كان يتساءل “كيف يمكن اتباع القواعد دون قواعد لاتباعها؟ (وهكذا إلى ما لا نهاية)”، ولا تحاول المؤلفة الإجابة عن السؤال المحير بقدر ما تشرح لماذا لم يسأله الفلاسفة القدماء وتم طرحه فقط في العصر الحاضر تزامنا مع تطور العلوم الرياضية وارتباطها بالتكنولوجيا الحديثة.

وتشير المؤلفة إلى التأثير التاريخي الكبير في الغرب بقواعد القديس الإيطالي بندكت النيرسي (حوالي 480-543) الذي ألهم كتابه “مبادئ القديس بندكت” تعاليم الرهبنة المسيحية ولا تزال مبادئه الأكثر شيوعا في الأديرة المسيحية، ومع ذلك فقد تجاوزت أماكن العبادة لتلهم تأسيس وحدة ثقافية أوروبية مبنية على الاعتقاد المسيحي.

السلطة والاستثناء

وقالت ريفكا جالتشين في العرض الذي قدمته مجلة “ذا نيويوركر” (The New Yorker) الأميركية إن كتاب داستون يصف كيف استُمدت السيادة تاريخيا في أوروبا -بما في ذلك سلطة وضع القواعد- من مزيج من “السلطة الإلهية، والسلطة الأبوية لرب الأسرة على زوجته وأطفاله، وسلطة المنتصر على المهزوم في الحرب”، كما تتناول حالات الانهيار السريع للقواعد التي يمكن أن تتبع كارثة مثل الوباء أو الثورة، فقد تكون هذه التغييرات السريعة إيجابية أو قد تكون بداية للسلطوية، وهذا ما يبرز أهمية الكتاب في عالم اليوم.

في نهاية كتاب داستون يشعر القارئ بأهمية التأمل والتفكير في كيفية تبني القواعد جنبا إلى جنب مع شعور بسيط باليأس تجاه أنواع القواعد التي يأمل في إصلاحها أو تغييرها، فالقواعد التي يترك للحاكم أو القاضي مسؤولية تفسيرها تبدو وكأنها إنسانية وخاضعة لإمكانية الإفساد، فيما تبدو القواعد التي لا تتسامح مع أي استثناءات خالية من الضعف البشري ولكنها غريبة وغير قادرة على احتواء التعقيدات.

وفي الفصل الأخير تناقش داستون تعريف المنظّر السياسي كارل شميت للسيادة بأنها “سلطة اتخاذ القرار بشأن الاستثناء”، وقناعته بأن حالة الطوارئ أو الاستثناء -أي الحدث أو الموقف الذي يضفي الشرعية على تعليق حكم القانون- لا يمكن تمثيله في أي نظام قانوني قائم، وتتناول كيف كان شميت (المؤيد للنازية) “يشعر بالاشمئزاز” من حكم القانون، واعتبر الإصلاحات التي ضيقت سلطات الملك -على مر القرون- كارثية.

وحاول الفيلسوف الإيطالي والمنظّر القانوني جورجيو أغامبين في كتابه “حالة الاستثناء.. الإنسان الحرام” دحض فكرة شميت المتعلقة بالدولة التنفيذية القوية التي ترتبط فيها السيادة بالاستثناء.

واعتبر أغامبين أن السلطات تستخدم الظروف الاستثنائية لتبرير تعطيل القانون وحيازة السلطة المطلقة، مشيرا لتحولها إلى حالة دائمة حتى في النظم الدستورية الديمقراطية.

أغامبين ناقش في كتابه العلاقة بين القانون والاستثناء وإمكانية دسترة الاستثناء أو تقنينه في المنظومة الليبرالية (الجزيرة)

وقرع أغامبين جرس الإنذار قبل عامين تزامنا مع إجراءات مواجهة تفشي كورونا، مشيرا إلى مخاطر “حالة الاستثناء” حيث ينظر للبشر حاليا على أنهم مصدر عدوى وخطر محتمل، ومحذرا من أن “الخوف من فقدان الحياة يسهل أن ينبني عليه نظام استبداد وحشي”.

وأضاف أن المجتمع الذي يعيش في طوارئ دائمة لا يمكن أن يكون حرا، مؤكدا “أن مجتمعنا المعاصر ضحى بالحرية للأسباب الأمنية، وحكم على نفسه بالعيش في خوف دائم”، مشيرا إلى أن “أكثر الحروب عبثية هي الحرب مع عدو يقيم في داخلنا لا بالخارج”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.