ماكسيميليان دي روبسبير ولد عام 1758 وتوفي عام 1794. محام فرنسي عرف بموقفه المعادي والرافض للنظام الملكي في البلاد، كان أحد أكثر الشخصيات تأثيرا في الثورة الفرنسية، انتخب عضوا بالجمعية الوطنية (مجلس النواب) وتولّى عددا من المناصب العليا بالجمعية التأسيسية والهيئة التنفيذية وغيرها من المؤسسات السياسية التي برزت بعد الثورة.

وكان من المنادين بإعدام الملك لويس الـ 16 مما منحه شعبية ونفوذا كبيرين، حتى رشحه الشعب وقيادات الثورة لتولي قيادة الحكومة التي تلت إسقاط نظام الملك.

وأعدم روبسبير أكثر من 16 ألف شخص من عام 1793 حتى عام 1794 ثم قرر أعضاء الحكومة وقيادات الثورة التخلص منه باعتقاله ثم إعدامه بـ “المقصلة” رفقة 100 من أعوانه.

المولد والنشأة

اسمه الكامل “ماكسيميليان ماري إيزيدور دي روبسبير”. ولد في 6 مايو/أيار 1758 في بلدية “أراس” الواقعة أقصى الشمال الفرنسي والتابعة لمقاطعة “با دو كاليه”.

وهو الابن الأكبر لماكسيميليان بارتيليمي فرانسوا دي روبسبير، المحامي في المجلس الأعلى لبلدية “أرتوا”، والدته جاكلين مارغريت كاروت، ابنة صانع خمور في بلدية “أراس”.

وله شقيقتان أصغر منه، هما شارلوت وهنرييت، وشقيقان أصغر وهما أوغستين وبنيامين الذي ولد وتوفي في اليوم نفسه عام 1764.

وتوفيت والدته في 15 يوليو/تموز 1764 وهو في السادسة من عمره، مما جعل والده يتخلى عن تربيته مع إخوته، فاتجهت شقيقتاه للعيش عند خالاتهما، أما هو وشقيقه أوغستين فقد احتضنهما جدهما لأبيهما.

ولم يتزوج ولم يقترن بأي امرأة، وعاش حياة متواضعة جدا في مسكن بسيط تعود ملكيته لنجّار يدعى “دو بلاي” لدرجة تلقيبه بالرجل النزيه الذي “لا يمكن شراء ذمته”.

الدراسة والتكوين

عام 1765، دخل روبسبير مدرسة “أراس”، وعام 1769 تمكّن من الحصول على منحة دراسية قدرها 450 جنيها إسترلينيا سنويا من دير “سانت فاست” ليلتحق بكلية “لويس الأكبر” في باريس، ثم حصل على درجة البكالوريوس في القانون يوم31 يوليو/تموز 1780.

وفي 15 مايو/أيار 1781 أدرج اسمه في سجلّات محامي البرلمان بباريس، ثم عاد إلى مسقط رأسه “أراس” حيث استقر مع أخته شارلوت.

وسجّل اسمه بالمجلس الإقليمي لبلدية أرتوا في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1781، وبدأ في الترافع يوم 16 يناير/كانون الثاني 1782، ثم عُين قاضيا في المحكمة الأسقفية في 9 مارس/آذار من السنة نفسها.

ختم مطبوع في بلغاريا يُظهر ماكسيميليان فرانسوا ماري إيزيدور دي روبسبير (شترستوك)

التجربة الفكرية والسياسية

من المواقف التي كان لها أثر كبير في نفسه، وجعلته يمقت النظام الملكي، عندما وقع اختياره فترة دراسته للقانون لإلقاء بيان الترحيب بالملك لويس الـ 16 بعد تنصيبه، ولكن الأمطار الغزيرة التي كانت تهطل على العاصمة ذلك اليوم جعلت الملك يرفض النزول من العربة، مما اضطر روبسبير إلى الخروج وإلقاء بيان الترحيب أمام عربة الملك وتحت الأمطار.

وأثناء ممارسته مهنة المحاماة، عرف روبسبير بقدرته على الإقناع والمحاججة، مما جعل بعضا من مرافعاته تعتبر من أشهر المرافعات في المحاكم الفرنسية، وجعلت منه شخصية بارزة في مدينته.

وعام 1786 عين كاتبا عاما ثم مديرا لأكاديمية الآداب والعلوم والفنون ببلدية “أراس”. هذا الصعود السريع في السلّم الاجتماعي قوبل بالنبذ من طرف المواطنين المحليين نظرا لمجاهرته (سواء في أحاديثه أو كتاباته) بنقد الفساد، الذي استشرى في مرفق العدالة آنذاك، ووجّه انتقاداته خصوصا إلى طبقة النبلاء التي اتهمها بالسعي إلى المحافظة على امتيازاتها الاجتماعية والاقتصادية عبر إخضاع العدالة لنزواتها.

ومثلت هذه المواجهة مع النبلاء البوابة التي دخل عبرها روبسبير عالم السياسة، حيث مكّنه هذا “التطرّف” غير المألوف في المواقف من الفوز ولو بصعوبة بانتخابات عضوية الجمعية العامة سنة 1789 ممثلا عن الطبقة الثالثة، وهي تسمية لممثلي الشعب تلك الفترة، وتأتي في الترتيب بعد أعضاء الطبقة الأولى من النبلاء، ثم أعضاء الطبقة الثانية من رجال الدين.

وتمكّن من لفت الأنظار إليه عبر مداخلاته الكثيرة بالجمعية العامة، والتي تجاوزت ألف مداخلة من عام 1789 إلى عام 1794، وكشفت عن مدافع شرس مؤمن بعلوية المصلحة العامة للشعب.

وإثر سقوط “سجن الباستيل” في 14 يوليو/تموز 1789، اعتبر روبسبير أن الطبقة الأرستقراطية لم تستسلم رغم محاولتها إظهار تعاطفها ودعمها للحركة الشعبية التي هزت البلاد، وأنها تترصّد اللحظة المناسبة لقطف ثمار الثورة.

وكان دفاعه عن الحركات الشعبية مهيمنا على خطاباته التي جعلت الصحف الثورية تهتم بنشرها حتى بعد أن عزل وأبعد عن المشاركة بالمرحلة التأسيسية التي تلت الثورة، ومن ثم فإن إصراره على مواصلة نشر أفكاره وخطاباته جعل الانطباع العام حوله يعتقد جازما بانتصاره للشعب ضد الطبقة الأرستقراطية، حيث كان دائم المطالبة بتحرير المضطهدين والمستعبدين في المستعمرات وتمكين الشعب من حقوقه الأساسية.

كما كانت له مواقف رافضة لعقوبة الإعدام ودور رجال الدين في الحياة العامة، إضافة إلى مطالبته بإعادة هيكلة وتنظيم الجهاز القضائي والأجهزة الأمنية الفرنسية.

وقد مثلت قيمة المساواة لدى روبسبير ركيزة أساسية في المبادئ التي تبنّى الدفاع عنها، حيث اعتبر أن “العدالة المطلقة إذا لم تقترن بحب المساواة والوطن فإن كلمة الحرية في الجمهورية لن تعدو أن تكون كلمة فضفاضة خالية من كل المعاني”.

ولم تكن جملة مبادئ الديمقراطية الاجتماعية -التي دافع عنها وحاول نشرها في مجتمع لا يزال يتحسس طريقه الجديد بعد الثورة- مطية لتحقيق أهداف في معركة سياسية، بل اعتبرها معركة أخلاقية تتخذ ركيزة أساسية لهذه المبادئ الكونية من مبدأ الفضيلة الذي تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي شارل لويس دي سوكوندا المشهور بـ “مونتسكيو” والذي تأثر به روبسبير.

معركة روبسبير

لم يشك روبسبير في وجود مؤامرة تقودها الطبقة الأرستقراطية ضد التحركات الشعبية بغية العودة للسلطة والامتيازات التي أتيحت لهم على مدى قرون من تاريخ فرنسا، وعام 1790 ترأس “حركة اليعقوبيين” (Les Jacobins) الذين يسمون أيضا بأصدقاء الدستور، الذين كانوا من الداعمين والمسوقين للثورة، وبذلك انتخب عضوا في المؤتمر الوطني.

وكان المؤتمر منقسما بين تيارين متعارضين: تيار “الجيرونديين” (Les Girondins) ممثلي الطبقة النبيلة الأرستقراطية، وكان معظمهم ينتمون لمنطقة “جيروند” وتيار “بدو الجبال” (Les Montagnards) وكان روبسبير أحد رموزه، وهو التيار الذي كان غالبا في الثورة وشكل نواة ما سيعرف فيما بعد باليسار الفرنسي.

في 31 مايو/أيار 1793 وبقيادة روبسبير أطاحت جبهة “بدو الجبال” في المؤتمر الوطني بالغريم السياسي “الجيرونديين” الذي كان يدافع عن مصالح الأرستقراطيين.

وفي 27 يونيو/حزيران من العام ذاته، وصل روبسبير إلى أوج قوّته السياسية حيث أصبح عضوا في لجنة الإنقاذ، التي تأسست في 6 أبريل/نيسان 1793، وهي أوّل لجنة أسسها المؤتمر الوطني وانبثقت عن الحكومة الثورية لمواجهة خطر الاحتلال والحرب الأهلية، إضافة إلى مراقبة الوزراء وبسط هيمنة الدولة.

وفي يوليو/تموز بدأ تيار “بدو الجبال” الاقتراب من التطرف السياسي انطلاقا من فكرة روبسبير حول الفضيلة التي يجب أن تعتمد القوة والرعب حتى تنتصر.

وساهم روبسبير في محاكمة وإعدام العديد من المعارضين للحكومة الثورية، وحتى العديد من الشخصيات السياسية التي ساندته خلال مسيرته، والتي أبدت بعض التحفظ على سياساته وقراراته على غرار جورج جاك دانتون وجاك روني هيبار.

وفي يونيو/حزيران 1794 أصبح رئيسا للمؤتمر الوطني، وبذلك تمكّن من إحكام السيطرة على السلطة الأعلى في البلاد، ومع شعوره المتزايد بضرورة إحكام قبضته على السلطة أرسى قانون “الشبهة” الذي يتيح محاكمة وإعدام أي شخص بناء على تصريحاته أو حتى تصرفاته التي يمكن أن “توحي” بأنه معارض للنظام الجديد.

وهذا الإجراء الجديد، المثير للخوف من تساقط مزيد من رؤوس الشخصيات السياسية، أثار حالة من التململ في صفوف أعضاء المؤتمر الوطني، إضافة إلى معارضة لجنة الأمن العام لهذا القانون الجديد، وبذلك بدأت تتكون جبهة معارضة لروبسبير، مع تواصل حملة الإعدامات التي لم تتوقّف في كامل أنحاء فرنسا، حيث وصلت أعداد الموقوفين بالسجون إلى نصف مليون مواطن وأعداد الذين نفّذ فيهم حكم الإعدام بالمقصلة 16 ألفا.

The execution of French king Louis XVI (1754 - 1793) during the French Revolution. Wood engraving, published in 1871.
روبسبير كان من أشد معارضي الملك لويس الـ 16 وساهم في إعدامه (غيتي)

السقوط

اعتزل روبسبير المؤتمر الوطني، حيث لم يعد يباشر مهامه من المقر الرسمي مكتفيا بمتابعة مجريات الأحداث من مقر إقامته الشخصي، الأمر الذي فسّره المؤرخون على أنه إحساس بالتعالي عن المؤسسات الرسمية للبلاد ورسالة مبطنة للشعب بعدم جدواها.

وهذا الاعتزال والعزوف عن مباشرة المهام من مقر المؤتمر أثار العديد من التساؤلات، وجعل الأمور أكثر ضبابية لدى الشعب والساسة على حد سواء، خاصة وأن روبسبير اعتمد طوال مسيرته على قوّة الكلمة والخطب الثورية التي تحشد الداعمين لسياساته.

وقد ذهب بعض المؤرخين على غرار “جويل شميت” إلى القول إن اعتزال روبسبير كان جراء انهيار عصبي حاد نتج عن قناعة تولدت لديه بفشل السياسة التي اتبعها، وهو ما ساهم في ارتفاع وتيرة ونسق الإعدامات التي تم تنفيذها في جل المدن الفرنسية.

وفي 26 يوليو/تموز 1794 ألقى خطابا مطوّلا أمام أعضاء في المؤتمر الوطني وعد فيه بتطهير اللجان ومعاقبة الخونة في صلب أعضاء المؤتمر، دون توجيه اتهام لأشخاص معينين، مما أثار موجة من الحنق والغضب أدت إلى تقارب بين الفرقاء السياسيين ولجنة الأمن العام.

وفي محاولة منه لامتصاص غضب المؤتمر، حاول روبسبير إلقاء خطاب جديد يوم 27 يوليو/تموز “أكثر اعتدالا” من سابقه، ولكنه هذه المرة منع من الكلام في مشهد ثوري جديد أعلن رفضه بصفة مباشرة وحادة، وتعالت أصوات مطالبة بالإيقاف الفوري لروبسبير وأعوانه.

واستطاع روبسبير الخروج من مقر المؤتمر الوطني والعودة إلى مقر البلدية وأصدر أمرا باقتحام المؤتمر ولكن قوات الأمن العام تراجعت عن التنفيذ، مما دفع بالحشود الغاضبة من مناصري أعضاء المؤتمر إلى إعلان روبسبير وأعوانه خارجين عن القانون، الأمر الذي سمح بإعدامهم دون محاكمة، ثم توجهوا نحو مكان وجوده وألقوا القبض عليه في 28 يوليو/تموز 1794 الساعة الثانية فجرا.

وهناك رواية تقول إن روبسبير حاول الانتحار وأطلق النار على نفسه لكنّه أصاب وجهه في منطقة الذقن إصابة بالغة غير قاتلة، ورواية ثانية تفيد بأن أحد أعضاء لجنة الأمن العام هو من أصابه في وجهه على ذلك النحو.

روبسبير كتب مواقفه من الثورة ورؤيته للمجتمع الفرنسي وتبنت كتاباته الصحف الثورية (شترستوك)

انتقادات

تعرّضت شخصية روبسبير أثناء مسيرته السياسية وبعد إعدامه لعدد من الانتقادات التي أرادت تحميله مسؤولية الأحداث التي طبعت فترة “الرعب” أو “الإرهاب” كما اصطلح على تسميتها لاحقا، والتي امتدت من عام 1793 إلى 1794.

واعتبره بعض الناقدين والمؤرخين شخصا متناقضا بصفة تدعو إلى الاستغراب، يسبح في عالم النظريات والمبادئ المجرّدة التي استقاها من مؤلفات الفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو” دون أي خبرة ميدانية للممارسة السياسية.

ومن الانتقادات الأخرى التي طالته:

  • عدم نجاحه في تكوين أسرة وعدم اضطلاعه بوظيفة إدارية أو تسييرية رسمية.
  • إخفاقه في تحقيق استقراره الذاتي حيث عاش حياته يتسول مسكنا بسيطا.
  • انعزاله عن الشعب الذي كان محور خطاباته متصدّرا أولوية اهتماماته جعلت منه محل انتقادات واسعة وصلت حدّ التشكيك في صحّته النفسية والسلوكية.
  • دفاعه عن الطبقات الفقيرة والمسحوقة اجتماعيا ولكنه في المقابل رجل أنيق جدا إلى درجة تجعله يقضي ساعات طويلة أمام المرآة للاهتمام بمظهره ولباسه.
  • رفضه عقوبة الإعدام ولكنه لم يتردّد في إرسال آلاف المعارضين إلى المقصلة.
  • معاداته للنظام الملكي، لكن في المقابل كان يبدي إعجابا مستترا بالملكة ماري أنطوانيت زوجة لويس الـ 16.

مؤلفاته

كتب روبسبير ورقات عبّر فيها عن مواقفه من الثورة ورؤيته للمجتمع ولمختلف مكونات مشهده السياسي، نشرت في الصحف الفرنسية الثورية، وجمعت سنة 1830 في مجلدين أصدرتهما دار “مورو روزي للطباعة والنشر” في باريس، وضم المجلدان كامل مشاريع القوانين والمقترحات والقرارات التي كتبها وعرضها على المؤتمر الوطني.

إعدامه

مساء 28 يوليو/تموز 1794 اقتيد روبسبير في حالة أقرب منها للموت من الحياة جراء الإصابة التي تعرض لها، ونفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.