منذ استنساخ النعجة دوللي في تسعينيات القرن الماضي لم يشهد المجتمع العلمي حدثا أكثر غرابة من المحاولات الأخيرة لإعادة حيوانات منقرضة إلى الحياة، ففي عام 2021 أعلنت شركة هندسة وراثية ناشئة أنها تُجرِي محاولات لإعادة حيوان الماموث، وذلك بعد آلاف السنين من انقراضه، لم تمضِ سوى بضعة أشهر حتى وضعت الشركة النمور التسمانية وطائر الدودو على قائمة مشروعاتها الطموحة، وكأنها بصدد افتتاح “حديقة جوراسية” للحيوانات المنقرضة على غرار سلسلة أفلام المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرج، الأمر الذي يجعلك تتساءل عن الهدف الحقيقي وراء سعي العلماء الحثيث إلى إعادة كائنات ميتة ومنقرضة إلى الوجود.

 

عاش الماموث في منطقة سهول أوروبا خلال العصر الجليدي، وهي منطقة خالية تقريبا من الأشجار ومغطاة بالعشب، ويبدو أنه كان راعيا ممتازا، حيث عاش على أوراق الصبار والأشجار والشجيرات، استندت هذه الافتراضات إلى براز الماموث وأسنانه التي وجدها العلماء متجمدة لآلاف السنين، وفي حين أن النظام البيئي للماموث اختفى منذ زمن طويل، يسعى العلماء حاليا بعد إعادة إحيائه إلى إطلاقه في منطقة التندرا بالدائرة القطبية الشمالية.

 

الماموث.. من العصر الجليدي إلى عصر الاحتباس الحراري

حيوان الماموث الصوفي المنقرض. (شترستوك)

جاءت البداية في سبتمبر/أيلول 2021، عندما أعلن رجل الأعمال بن لام وفريق من العلماء عن تدشين شركة جديدة في مجال التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية تحت اسم “كولوسال (Colossal)”، هدفها إعادة إحياء حيوان الماموث الصوفي المنقرض، وقد تلقت الشركة تمويلا أوليا بقيمة 15 مليون دولار للبدء في إجراء التجارب داخل معامل خاصة في ولايتَي بوسطن ودالاس الأميركيتين.

 

في غضون ذلك يقود عالم الوراثة جورج تشرش، وهو أحد مؤسسي الشركة، فريقا بحثيا منذ أكثر من 8 سنوات بهدف تطوير الأدوات الخاصة بإحياء الماموث، فمنذ عام 2013 عمل الباحثون بدأب على بناء الجينومات الخاصة بالأنواع المنقرضة بناء على المادة الوراثية المستخرجة من الحفريات، حتى صار لديهم اليوم التسلسل الجيني الكامل، ليس فقط لحيوان الماموث، ولكن للنمور التسمانية أيضا، وبذلك يكونون قد أتموا الخطوة الأولى والرئيسة بالمشروع، والذي اعتبره تشرش حدثا فارقا سيعمل على تغيير العالم.

 

طائر الدودو الذي لا يطير، وصورته الرسوم القديمة طائرا سمينا غير مرغوب فيه، على وشك أن يُبعَث هو الآخر إلى الحياة، عاش الدودو في جزيرة موريشيوس بالمحيط الهندي قرابة القرن السابع عشر، وعاصر الإنسان ولم يخَف منه، والآن بعد مرور أربعة قرون على انقراضه وضعه العلماء على قائمة إزالة الانقراض كما يسمونها، وذلك بعدما تلقت الشركة مؤخرا تمويلا إضافيا قدره 150 مليون دولار، يؤكد رجل الأعمال بن لام أن فريق شركته يعمل حاليا بالتوازي على حل التحديات الخاصة بالهندسة الوراثية، وإعادة برمجة الخلايا الجذعية، وهندسة البروتين، وغير ذلك من الدراسات اللازمة لنجاح المشروع.

هيكل طائر الدودو
هيكل طائر الدودو المنقرض. (شترستوك)

من أجل نجاح تجربة “طائر الدودو”، كان لزاما العثور على أكثر أنواع الطيور الحية المعاصرة قربا له، وهو ما وجده العلماء في حمامة نيكوبار، وتعمل حاليا الباحثة بيث شابيرو، أستاذة علم البيئة وعلم الأحياء التطوري في جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، في الإشراف على مشروع إعادة الدودو من خلال مادة وراثية مستخرجة من بقايا الطائر المنقرض في الدنمارك، وقد أتمت شابيرو بالفعل الخطوة الأولى، وصار لديها التسلسل الجيني الكامل للدودو من الحمض النووي القديم، تماما كما هو الحال مع الماموث والنمور التسمانية.

 

كيف سيحدث الأمر؟

حسنا، من المؤكد أن بعث -لم يعد له أثر إلا في الحفريات- مرة ثانية إلى الحياة قد يعتبره البعض ضربا من الجنون وبلا طائل، لكن عالم الوراثة في كلية الطب بجامعة هارفارد، جورج تشرش، يرى عكس ذلك، ولكن قبل أن ننتقل إلى الكيفية التي ستتم بها هذه العملية، علينا أن نعرف أولا ما “الحمض النووي” وما “الجينوم” اللذان لا يكف العلماء عن ذكرهما.

 

لنبدأ مع الحمض النووي، وهو أشبه بسلم لولبي مكون من شريطين، ويحتوي على كل المعلومات الوراثية المخزنة في شريط طوله متران مكدس داخل كل خلية من خلايا الجسم الحي، يشبه الأمر أن تكون هناك أسطوانة مدمجة أو وحدة ذاكرة فلاشية محمل عليها أحد الأفلام في صورة كود، حينما توضع الأسطوانة أو وحدة الذاكرة في الحاسوب يمكنك أن تشغِّل الفيلم على الشاشة، بالمثل يمكن اعتبار الحمض النووي هو كود الحياة، وهو عبارة عن وحدات كيميائية مخزنة في النواة مسؤولة عن كل صفاتك، بداية من طول الشعر ولونه ولون العينين، وحتى أدق التفاعلات الكيميائية في خلاياك.

 

أما الجينوم فهو كامل المادة الوراثية الموجودة في الحمض النووي لأي كائن حي، ففي الخلية البشرية مثلا يتكون الجينوم من 23 زوجا من الكروموسومات الموجودة في نواة الخلية، بالإضافة إلى كروموسوم صغير موجود في ميتوكوندريا الخلية، والميتوكوندريا هي هياكل صغيرة موجودة في الخلية مسؤولة عن توليد الطاقة مما نتناوله من طعام.

 

تكمن الخطوة الأولى في الحصول على التسلسل الجيني الكامل للحيوان المنقرض، وهي خطوة انتهى العلماء منها بالفعل خلال السنوات الثماني الفائتة، أما الخطوة التالية فتتمثل في مقارنة المعلومات الجينية للأنواع المنقرضة مع أكثر أنواع الكائنات الحية المعاصرة قربا له، وعن طريق تحديد الاختلافات الجينية التي ميزت الأنواع القديمة المنقرضة عن أبناء عمومتها المعاصرة سيتمكن العلماء من عمل التعديلات الجينية اللازمة لإضافة السمات الخاصة بالكائنات المنقرضة وإنتاج الأنواع الجديدة.

(عالم الوراثة تشرش يتحدث عن إعادة الحيوانات المنقرضة في TEDX)

 

في حالة “الماموث“، كانت الأفيال الآسيوية هي الأكثر قربا له من الناحية الجينية، إذ يشترك الاثنان في سلف مشترك عاش منذ أكثر من 6 ملايين سنة، وكانت الباحثة السابقة في مختبر تشرش، إريونا هيسولي، قد كلفت بالإشراف على تعديل الحمض النووي للفيل، وذلك عن طريق إضافة جينات السمات الخاصة بالماموث إليه، مثل الشعر الكثيف والدهون السميكة اللذين مكناه قديما من احتمال البرد في العصر الجليدي.

 

يأمل الباحثون حاليا في إنتاج أجنة من الفيلة شبيهة بالماموث في غضون ست سنوات، ليعمل تكاثرها فيما بعد على إنتاج مجموعات كاملة من الحيوان المنقرض، ليتم إطلاقها بالنهاية في بيئة التندرا الباردة للقطب الشمالي، وهي بيئة شبيهة بتلك التي عاش فيها الماموث قبل 4000 سنة، وقت انقراضه.

 

تشير الباحثة بيث شابيرو إلى أن الجزء الأصعب من المشروع هو التحديات الخاصة بتحرير الحمض النووي لأقرب الأنواع الحية ليتوافق مع الحمض النووي للنوع المنقرض، يلي ذلك زرع الجينوم المعدل في خلية بويضة النوع الحي، وفي وقت لاحق ستُنقَل تلك الأجنة المهجنة إلى رحم الأم البديلة من الأنواع المعاصرة، وفي حالة فشل ذلك سيكون عمل رحم اصطناعي في المختبر هو الحل.

 

قد لا نحصل في البداية على نسخة طبق الأصل من الكائنات التي عاشت سلفا، بحسب شابيرو، لكننا سنحصل على نسخ شبيهة مهجنة ومعدلة جينيا، في حالة الدودو مثلا ستظهر النسخة النهائية منه بعد نجاح الحصول على حمامة نيكوبار المعدلة جينيا بحجم طائر الدودو، خاصة أن طائر الدودو أكبر حجما من الحمام، ولكي تنجح التجربة يجب الحصول على حجم بيضة كبيرة كفاية لتحتوي جنين الدودو.

 

انتقادات واسعة

راشيل أوزبورن هوارد تحمل عظمة نادرة لطائر الدودو ، الطائر الجارح المنقرض
راشيل أوزبورن هوارد تحمل عظمة نادرة لطائر الدودو، الطائر الجارح المنقرض. (شترستوك)

رغم كل الجهود المبذولة من قِبَل شركة الهندسة الوراثية “كولوسال” فإن هناك باحثين آخرين يشككون في قدرة المشروع على إنجاز هذا العمل الفذ، وحتى إن تمكن العلماء من إنتاج مجموعات كاملة من الماموث وطائر الدودو فستظهر معضلة أخرى، لكنها أخلاقية هذه المرة: كيف نعيد للحياة حيوانا لا نعرف الكثير عن بيولوجيته، واختفت البيئة القديمة التي عاش فيها نظرا للتغيرات المناخية التي مر بها الكوكب في القرون الأخيرة؟! بل كيف نطلقه في بيئة التندرا بالقطب الشمالي دون معرفة عميقة بالتغييرات التي يمكن أن تطرأ على الأنظمة البيئية للمكان نتيجة لذلك؟!

 

بدوره وجه عالم حفريات الطيور في متحف التاريخ الطبيعي بلندن جوليان هيوم، والذي يدرس هو الآخر طائر الدودو، انتقادا لاذعا لتوجيه أموال التمويلات إلى إعادة إحياء أنواع منقرضة منذ زمن، ورأى فيها إهدارا كبيرا للمال، خاصة مع وجود حوالي 400 نوع من الكائنات الحية مهددة فعليا بالانقراض، فلِم لا تُوجَّه الأموال لحماية تلك الأنواع أولا؟!

 

كما جادلت الفيلسوفة في كلية لندن للاقتصاد، هيذر براوننج، أن إنتاج هذه الأنواع وإطلاقها في البرية دون عوائل ترعاها قد يتسبب في معاناة صغار الماموث بالبيئة الجديدة، خاصة مع عدم وجود أم، إذ نجد في الفيلة على سبيل المثال، وهي أقرب الأنواع للماموث، روابط قوية تربط بين الأم والرضيع تستمر لفترة طويلة من الزمن بهدف الرعاية، وهو أمر غير مضمون للمخلوقات الجديدة المهجنة.

ما الهدف إذن؟

لفترة طويلة جرى النظر إلى الماموث وغيره من الكائنات الضخمة التي عاشت فترة العصر الجليدي باعتبارها مهندسة جيولوجية طبيعية ساعدت في توازن النظام البيئي القديم
لفترة طويلة جرى النظر إلى الماموث وغيره من الكائنات الضخمة التي عاشت فترة العصر الجليدي باعتبارها مهندسة جيولوجية طبيعية ساعدت في توازن النظام البيئي القديم. (شترستوك)

يقودنا ذلك في النهاية إلى السؤال عن الهدف من ذلك كله، من جانبه لم ينكر تشرش أن “الفضول العلمي” ومعرفة ما إذا كنا قادرين بالفعل على إعادة إحياء أنواع منقرضة أم لا كان أحد الأسباب وراء ذلك، لكنه ليس الهدف الوحيد، حيث يجادل تشرش بأن إعادة إحياء الماموث قد يكون له بعض التأثيرات الإيجابية على التغيرات المناخية الحالية التي طرأت على كوكب الأرض.

 

تمتاز أراضي الدائرة القطبية الشمالية بمساحات من الأرض تُعرَف باسم التربة الصقيعية، وهي مناطق مجمدة منذ العصر الجليدي، وتحتوي على كميات هائلة من الكربون تحبسها درجات حرارة شديدة البرودة، وتُقدَّر كمية الكربون في هذه المخازن المجمدة بحوالي ضعف الكمية الموجودة حاليا في الغلاف الجوي، في حالة ذوبان الجليد ستنطلق تلك الكميات الهائلة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، الأمر الذي قد ينجم عنه ارتفاع في درجات الحرارة العالمية بطريقة غير متوقعة.

 

لفترة طويلة جرى النظر إلى الماموث وغيره من الكائنات الضخمة التي عاشت فترة العصر الجليدي باعتبارها مهندسة جيولوجية طبيعية ساعدت في توازن النظام البيئي القديم، إذ اقتلعت الأشجار وداست الطحالب بأقدامها، ما حافظ على تلك المنطقة عشبية وخالية تماما من الأشجار، ومن ثم قليلة الانبعاثات الكربونية، ويعتقد العلماء أن إعادة إحياء الحيوان المنقرض قد تقلل من الانبعاثات الكربونية الناتجة عن ذوبان الجليد، وهو أمر صحيح من الناحية النظرية، لكن لا سبيل للتأكد منه عمليا قبل إتمام المشروع.

 

أما مسألة إهدار الأموال على كائنات منقرضة فقد أشارت الباحثة بيث شابيرو إلى أن إتقان أدوات التكنولوجيا الحيوية هذه سيكون له آثار واسعة النطاق قد تمكن العلماء في المستقبل بالفعل من حماية الأنواع المهددة بالانقراض، كما ستسمح بنقل سمات وراثية بعينها قد تسهم في زيادة مناعة الأنواع المهددة وحمايتها من الأمراض، كما يمكن إثراء الكائنات الأخرى بسمات جينية تجعلها قادرة على تحمُّل الحرارة والجفاف الناجمين عن تغيرات المناخ.

 

وعن رعاية صغار الكائنات المعادة إلى الحياة قالت شابيرو إنه في حالة نجاح الولادة سيرعى الوالدان البديلان من الأنواع المعاصرة المخلوق الجديد، وأضافت في تصريح لـ”ساينتفك أميركان (Scientific American)”: “سيحرص المشروع على أن ينال الوليد الرعاية والتغذية اللازمة، وستتم تربيته في بيئة مناسبة تشبه بيئته القديمة”.

——————————————————-

المصادر:

  1. Can Bringing Back Mammoths Help Stop Climate Change?
  2. A ‘De-extinction’ Company Wants to Bring Back the Dodo
  3. A New Company With a Wild Mission: Bring Back the Woolly Mammoth
  4. Scientists plot the resurrection of a bird that’s been extinct since the 17th century
  5. Hybridizing with extinct species: George Church at TEDxDeExtinction
  6. GENOME
  7. What is DNA?
  8. Genes

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.