المشكلة الرئيسية التي تحدث عندما يفقد نادٍ مأزوم أهم مسؤوليه بلا مقدمات قبل مرحلة حساسة من الموسم هي أن الناس تظن أن ما حدث فعلا هو أن النادي المأزوم فقد أهم مسؤوليه بلا مقدمات قبل مرحلة حساسة من الموسم. يفترضون أن ما أُعلن هو ما حدث فعلا، وأن المفاجأة كانت مفاجأة فعلا.

برشلونة قد يكون أكثر أندية العالم تأزما، وكل مراحل موسمه تقريبا حساسة تُستخدم فيها عبارات مثل عنق الزجاجة والمنحنى الخطر، وماتيو أليماني كان أهم مسؤوليه وأكثرهم تأثيرا فعلا، ربما أكثر حتى من لابورتا نفسه، ولكن رحيله -قطعا- لم يكن “بلا مقدمات”.

هدف التاريخ

تدحرجت كرة الثلج من اللحظة الأولى تقريبا. أليماني لم يُمنح أية ميزانية لبناء فريقه الخاص كما فعل في فالنسيا ومايوركا. في البداية، ظنّ الإسباني المخضرم أن ضعف الموارد هو ما يدفع النادي كله للتوفير في رواتب الموظفين، بما في ذلك فريق تشافي المساعد الذي بُني على ميزانية ضئيلة أيضا، وظنّ كذلك أن اللجوء للحلول المؤقتة، عوضا عن خيارات أكثر استدامة، كان للسبب ذاته.

الموارد كانت ضعيفة فعلا، وأثرت على كل تعاملات النادي المالية بداهة، ولكن ما لم يكن أليماني يدركه أن وجوده نفسه ربما كان أحد تلك الحلول المؤقتة. السبب لم يكن عدم حاجة برشلونة إلى خدماته في المستقبل طبعا. في الواقع، قدرة النادي على الإنفاق وإبرام الصفقات في سوق الانتقالات القادم ستتراجع مقارنة بالصيف المنصرم، ولكن السبب الرئيس كان ما وصفه أحد المصادر المقربة من النادي لـ”ذي أثلتيك” (The Athletic) بكون أليماني “مدير أزمات”، أو “مديرا للمآسي” بالترجمة الحرفية. (1)

تجريد أليماني من أسلحته البشرية، وفرق الكشافين والمحللين والمُستطلعين، منح تشافي ولابورتا سلطة شبه مطلقة في تقرير تعاقدات النادي، وبالتبعية دفع ذلك أليماني إلى الهامش في عدد من القضايا المهمة، وكأن رأيه لم يكن مهما ما لم يكن الأمر متعلقا بالمال، والمال فقط.

مع الوقت، اكتسبت وظيفة أليماني في كتالونيا صبغة قاتمة كئيبة. حتى المسائل الفنية التي كان لها تداعيات مالية على النادي كان رأي الرجل هامشيا فيها، ولم يؤخذ باعتراضاته عليها؛ أبرزها على سبيل المثال كان قرار التجديد لسيرجي روبرتو، الرجل الذي لم يقدم ما يُذكر في المواسم الست الأخيرة، وتحديدا منذ هدفه التاريخي في مرمى باريس، ولكن رغبة تشافي في الإبقاء عليه حسمت الأمر.

النمط ذاته تكرر مع تجديد كلٍّ من جوردي ألبا وسيرجيو بوسكتس بالإضافة إلى دمبيليه؛ أليماني لم يكن يرى جدوى في ملاحقة لاعب كان قد قرر ابتزاز النادي علنا للحصول على راتب “وقح” بعد خمسة مواسم غاب فيها عما يفوق ثلاثة مواسم كاملة، وحتى عندما تم التجديد، لم يكن مدير برشلونة الرياضي راضيا عن شروطه، خاصة بند الشرط الجزائي ذي الـ50 مليون يورو الذي رأى أنه سيسبب صداعا مستمرا، ويبدو أن توقعاته ستصدق بعد الأنباء الأخيرة عن رغبة توخيل -مدرب دمبيليه السابق في دورتموند- في استغلال الشرط لضمه لبايرن ميونيخ. (2) (3) (4)

اتضح كل شيء لأليماني بعد بضعة أشهر، وبصراحته ومباشرته المعروفة عنه، عقد اتفاقا شفهيا مع لابورتا يمنحه حق البحث عن فرصة أخرى أفضل، واستمر الوضع على ما هو عليه حتى أتت تلك الفرصة ممثلة في عرض لا يمكن رفضه من أستون فيلا، تزامنا مع سقوط القشة الأخيرة التي قصمت ظهر الرجل. (5)

عصفور القفص

ماتيو أليماني (غيتي)

الأمر شديد البساطة في جوهره، وعلى عكس قرار أليماني بالرحيل، فهو لا يحتاج إلى أية مقدمات؛ برشلونة لا يملك الإمكانيات المادية لإعادة ليونيل ميسي إلى كامب نو، ولا هو قريب حتى من إنجاز ذلك. هذه ليست مفاجأة، المفاجأة بالنسبة لأليماني كانت إصرار لابورتا وبعض أعضاء مجلس الإدارة على الترويج لعودة الـ”بولغا” بتلميحات غير مباشرة، العدوى التي انتقلت بدورها للاعبي الفريق، وتحديدا القادة، بوسكتس وألبا وروبرتو. (3) (6)

هنا شعر أليماني أن الأمر تجاوز التهميش الفني إلى التوريط الإعلامي. عندما ذاعت الأخبار، لم تجد وسائل الإعلام وجها أكثر جدارة بالثقة لسؤاله عن الأمر غير أليماني، وبينما كان الرجل يجاهد لتدبير طريقة لتجديد عقود جافي وبالدي وأراوخو، وجد الصحفيين والمراسلين يسألونه عن عودة ميسي.

من المهم في هذا السياق تأمل تصريحاته عن الأمر قبل مباراة رايو فايكانو في الليغا، والحذر والبرود اللذين غلّفاها، وكما هو متوقع، أحبط الكثيرين من مشجعي النادي بعد أن منحهم لابورتا أملا غير مدروس، وتلاعب بمشاعرهم، ربما لتشتيت انتباه الجميع عن قضية نغريرا.

“ميسي يحب القدوم إلى هنا وقد كان في زيارة لبرشلونة لعدة أيام كما اعتاد أن يفعل، ولكن لم يكن هناك أي تواصل معه”.

(ماتيو أليماني، مدير برشلونة الرياضي في تصريحات صحفية قبل مواجهة رايو فاييكانو. (7)

المفارقة في الأمر أنه لو كان مقدرا لميسي العودة فعلا، فلم يكن هناك أحد قادرا على إنجاز العملية غير أليماني؛ الرجل الوحيد في كتالونيا بأكملها الذي يملك علاقات طيبة مع خافيير تيباس رئيس رابطة الليغا، الذي رحب بدوره بعودة ميسي، لأن الثنائي كان جزءا من حملة انتخابية واحدة لرئاسة الاتحاد الإسباني في 2007. (1)

كل ذلك لا يُقارن بدور أليماني الأصلي والأهم على الإطلاق، بوصفه الإداري الألمع والأذكى والأكثر انتباها للتفاصيل القانونية في مجلس لابورتا، وهو ما جعله يجنِّب النادي الكثير من المتاعب والثغرات القانونية في العقود التي أبرمها خلال الفترة الماضية، بما في ذلك عقود ما عُرف إعلاميا بـ”الرافعات الاقتصادية”.

خوان لابورتا (الأناضول)

طبعا كل هذا يبدو مألوفا لثلاثة أسباب؛ أولها هو أن رحيل أليماني يجعله ثالث الخارجين من إدارة لابورتا في عامها الأول بعد المدير الاقتصادي خاومي جيرو والمدير التنفيذي فيرّان ريفرتير، وثانيها أن مشهد الاستقالات المتتالية تكرر من قبل مع لابورتا في حقبته الأولى، قبل أن يعترف علنا باستخدامه موارد النادي في تمويل حربه الإعلامية ضد روسيل وبارتوميو، اللذين كانا قد استقالا بدورهما من مجلس إدارة لابورتا. (8) (9)

السبب الثالث، وهو ما يعنينا هنا، هو تكرار الإشارة للتهميش بوصفها تهمة رئيسية موجهة للابورتا، فبعد استقالته، أوضح ريفرتير، أنه رغم كونه المدير التنفيذي للنادي، فإن رأيه لم يكن له اعتبار في صفقة الرعاية مع “سبوتيفاي” (Spotify)، التي رأى أن برشلونة كان بإمكانه الحصول على مبلغ أكبر منها، خاصة لو كان النادي قد قرر تقسيم حقوق الرعاية، مثل حقوق الاسم، ورعاية القميص، ورعاية مشروع “إسباي برسا” (Espai Barca) وغيرها في عقود منفصلة لرعاة منفصلين، بدلا من بيعها دفعة واحدة في صفقة واحدة كبيرة، ببساطة لأن هذا يعني المزيد من الأرباح. (10)

هذا المنطق -تقسيم عقود الرعاية- يحمل الكثير من الوجاهة لأنه كان المنطق ذاته الذي منح مانشستر يونايتد سطوته المالية غير المسبوقة على أندية العالم -بما فيها ريال مدريد وبرشلونة- خلال ولاية إد وودوورد، إذ عمد الاقتصادي الأميركي إلى استبدال عقود الرعاية العالمية مع الشركات العابرة للقارات بعشرات العقود الصغيرة مع الشركاء المحليين في عدد أكبر من الدول، وهذا منح كل شريك منهم مزية لا ينازعه فيها أحد في حدود بلده، وكل تلك العقود الصغيرة جمعت مبلغا إجماليا أكبر بكثير مما كان سيحصل عليه مانشستر يونايتد من عقد واحد كبير مع شريك عالمي. (11)

معضلة الثقة والكفاءة

اللاعب فيرّان تورّيس ولابورتا  (الأناضول)

طبقا للبيان الذي أصدره النادي في الحادية عشرة والربع من صباح الثلاثاء الماضي الثاني من مايو/أيار، فسيلتزم أليماني بإتمام عمل النادي في سوق الانتقالات خلال الصيف القادم قبل رحيله، ما يوحي أنه ربما يعمل لناديين مختلفين في الصيف ذاته لو تم إنهاء تفاصيل التعاقد مع أستون فيلا قريبا. (12)

هذا العمل سيتضمن التجديد لدمبيليه مرة أخرى، وتحقيق وعده لتشافي بضم يانيك كاراسكو جناح أتلتيكو مدريد ذي الـ29 عاما كخيار إضافي على الجهة اليسرى، وهو ما قد يدفع فيرّان تورّيس ليصاحب أليماني إلى البريميرليغ. حتى وهو راحل، قد يساعد أليماني برشلونة على التخلص من آثار قرار متسرع غير مدروس، اتخذه لابورتا منفردا، بإنفاق 55 مليون يورو -مُقسّطة- على لاعب مثل تورّيس، لم يكن يناسب احتياجات الفريق حتى لو كان مميزا في سياقات تكتيكية أخرى. (1) (13) (14)

الأهم على الإطلاق أن الصدمة والمفاجأة في كتالونيا قد تمنع الجميع من إدراك مدى مفصلية تلك اللحظة وتأثيرها على أداء إدارة لابورتا وجهازه الفني في المستقبل، فرغم تهميشه في العديد من القرارات، كان أليماني شديد المحورية والتأثير فيما أُنجز حتى اللحظة، وعملية استبداله قد تكون الأصعب على الإطلاق، خاصة حينما تدرك أن لابورتا قد يأتي بأحد أصدقائه الموثوقين؛ أندرسون لويز دي سوزا، أو “ديكو”. (15) (16)

في البداية، كانت التقارير الصحفية تشير إلى اسم أنطونيو كوردون، مدير ريال بيتيس الرياضي السابق، وأحد الأسباب خلف طفرة أدائهم في المواسم الأخيرة تحت قيادة بيلّيغريني رغم الإمكانيات المادية شبه المنعدمة، الذي أتى للفريق الأندلسي بناء على ترشيح من المدرب الشيلي نفسه، بعد شراكتهما في نجاحات فياريال السابقة، الذي استمر عمل كوردون فيه لستة عشر عاما بدأها في 2000 كشافا مبتدئا، قبل أن يتدرج في المناصب وصولا إلى المدير الرياضي. (17) (18) (19)

الخلط المتكرر بشأن كوردون يتمثَّل في نسب البعض إنجاز موناكو بموسم 2016-2017 إلى توليه منصب المدير الرياضي خلال هذا الموسم، بينما الحقيقة أنه كان يكمل العمل الأسطوري الذي أنجزه لويس كامبوس هناك في المواسم الثلاثة السابقة، التي انتقل بعدها إلى ليل ليساعدهم على الفوز باللقب، ليقرر باريس سان جرمان حرمان خصومه من خدمات الرجل بضمه لصفوفه.

الإنجاز الحقيقي والأهم لكوردون في مسيرته، إلى جانب فترته في بيتيس، أتى عندما ساهمت تعاقداته الذكية في التقاط بيلّيغريني أولا من ملقه، ثم بناء فريق ناجح في فياريال تحت قيادته، وصل إلى نصف نهائي الأبطال في موسم 2006 قبل أن يغادر بصعوبة شديدة أمام أرسنال، ثم حقق المركز الثاني في الليغا بنهاية موسم 2007-2008 متقدما على برشلونة الثالث بعشر نقاط كاملة. (20)

في 16 عاما في فياريال، نُسب إلى كوردون اكتشاف أمثال كازورلا وغودين، بالإضافة إلى التقاط رودريغو بعين خبيرة من أكاديمية أتلتيكو مدريد، ثم بيعه مجددا للنادي ذاته بما يعادل 20 مليون يورو بعد موسم واحد فقط مع الفريق الأول. في حوار للماركا الإسبانية في 2018، توقع كوردون تألق لاعب المحور الإسباني رفقة الأتلتي وخلافته لبوسكتس في المنتخب لسنوات طويلة. (17) (18) (20)

باختصار؛ الرجل حقق قدرا لا بأس به من النجاحات في كل مكان وطئته قدماه تقريبا، وهذا ما يجعل الميل إلى “ديكو” مؤشرا خطيرا، كونه لم يعمل مديرا رياضيا من قبل، بل ولم ينتسب إلى أي عمل إداري داخل أي نادٍ في الواقع -باستثناء وظيفته الحالية مع برشلونة بصفته كشافهم الرئيس في البرازيل- في تكرار لمأساة إيريك أبيدال، وكأنه ليس مقدرا لبرشلونة أن يتعلم من أخطائه، وكأن كل تلك المنحنيات الخطرة المتتالية قد دفعته في دائرة مفرغة لا تنتهي من الصراع الأزلي في كرة القدم بين الثقة والكفاءة، الصراع الذي يعلم الجميع -خاصة في برشلونة- نتيجته مسبقا.

____________________________________________

المصادر:

  1. ماتيو أليماني؛ لماذا سيرحل عن برشلونة، ولماذا يعد الأمر مهما، ومَن سيخلفه؟ – The Athletic
  2. لماذا ومتى سيرحل ماتيو أليماني عن برشلونة؟ – AS
  3. ميسي وبوسكتس وأستون فيلا الأسباب الرئيسية لرحيل أليماني عن برشلونة – Barca News
  4. المدير الفني لبايرن ميونيخ يرغب في التوقيع مع نجم برشلونة – Everything Barca
  5. ماتيو أليماني؛ أستون فيلا يضع اللمسات الأخيرة على التعاقد مع مدير برشلونة الرياضي الراحل – The Athletic
  6. ماتيو أليماني وخوان لابورتا اختلفا حول عودة ميسي طبقا لتقارير صحفية – Forbes
  7. ماتيو أليماني سُئل عن عودة ليو ميسي – Sport
  8. انتخابات برشلونة.. إذا كان الكلام من فضة! – الجزيرة
  9. لابورتا رئيسا لبرشلونة.. إما معجزة أو لاشيء! – الجزيرة
  10. السبب الحقيقي لرحيل فيرّان ريفرتير عن برشلونة – Sport
  11. الفاشل الثري.. كيف حافظ مانشستر يونايتد على شعبيته رغم الإخفاق؟ – الجزيرة
  12. بيان برشلونة الرسمي بشأن رحيل ماتيو أليماني – FC Barcelona
  13. التعاقدات التي سيبرمها ماتيو أليماني قبل رحيله عن برشلونة – Everything Barca
  14. أليماني يأمل في الإبقاء على نجم برشلونة بعقد جديد قبل رحيله – Football Espana
  15. كشف التفاصيل عن عقد ديكو المحتمل مع برشلونة مديرا رياضيا خلفا لماتيو أليماني – Football Espana
  16. مصادر: برشلونة ينظر في إمكانية تعيين لاعبه السابق ديكو مديرا رياضيا خلفا لماتيو أليماني – ESPN
  17. المدير الرياضي السابق لريال بيتيس هو المرشح الأقوى لخلافة أليماني في برشلونة – One Football
  18. برشلونة يطرق باب أنطونيو كوردون – Be Soccer
  19. ساحر الانتقالات الذي أطاح بباريس مرتين – Optus Sport
  20. أنطونيو كوردون: “ليمار يملك كل الإمكانيات اللازمة ليصبح من الأفضل في العالم” – Marca


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.