في العصور الوسطى الأوروبية شاع مفهوم “الحب اللطيف” المستند على العاطفة والنبل والفروسية، وبدأ هذا النوع من الحب في الأصل كخيال أدبي تمت كتابته للترفيه عن النبلاء، ولكن مع مرور الوقت، تغيرت هذه الأفكار حول الحب وجذبت جمهورا أكبر وشكلت ثورة في الفكر والشعور، كان لها صدى في جميع أنحاء الثقافة الغربية.

وفي القرن الـ12، اعتبر الحب الرومانسي قيمة تستحق الحفاوة والاحتفال ويمكن تتبعها في أغاني وقصائد وشعر تلك الحقبة، وبالطبع يمكن -عبر إلقاء نظرة سريعة على الفنون والآداب الحديثة- التأكد من أن ذلك الإرث لا يزال حاضرا في زمننا.

وأشار مؤرخون لأدب العصور الوسطى إلى أن تأثيرات الثقافة العربية -ولا سيما في الأندلس وصقلية وحقبة الحروب الصليبية- كانت حاضرة بقوة في تطور ثقافة الحب اللطيف، وشكّلت القصائد العربية المترجمة للغات الأوروبية إلهاما كبيرا ولا سيما في تطور مفاهيم مثل “الحب من أجل الحب” و”تمجيد المحبوب” و”نبل الحب” الذي عبّر عنه الفيلسوف ابن سينا باعتباره رغبة لا تحقق أبدا.

الازدهار الاقتصادي وإثراء الحب

لكن بخلاف تلك التأثيرات التاريخية، يشير باحثون إلى عوامل اقتصادية أثرت ثقافة الحب الغربية، فبين المحراث الثقيل والحب اللطيف علاقة سببية شرحتها دراسة فرنسية نشرت أخيرا، ومفادها أن الازدهار الناجم عن استخدام هذه التقنية وفّر المناخ الملائم لتكثيف تناول أدب العصور الوسطى ومشاعر العشق، وربط البحث تاليا بين التنمية الاقتصادية وموضوع الحب عبر الثقافات والعصور.

وسبق للفيلسوف السويسري دوني دو روجمون (1906-1985) أن لفت إلى الحضور المكثف لموضوع الحب في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، فيما لاحظ المؤرخ الفرنسي جورج دوبي (1919-1996) أن هذه الظاهرة تزامنت مع حركة توسع حضري ومع نشاط زراعي لافت في منتصف حقبة العصور الوسطى، أي من القرن الـ11 إلى القرن الـ13.

وكان الفيلسوف الفرنسي دي روجمون، أحد الذين نوهوا بالأصول الأدبية والتاريخية لثقافة الحب اللطيف الأوروبية المستمدة من العالم العربي وآسيا الصغرى، وهي التأثيرات التي طبعت الشعر والرواية التراجيدية وفنون الأوبرا.

ويشرح المؤلف الرئيسي للدراسة، عالم الأنثروبولوجيا المعرفية البروفيسور نيكولا بومار أن “تحولا طرأ في القرن الـ12، إذ إن عدد السكان الذين كان البقاء هاجسهم شهد تراجعا قبل سنة 1000 ميلادي، لكنه زاد 3 أضعاف في غضون 300 عام. كذلك تغيرت نفسية الناس، فما لم يكن ممكنا من قبل، وهو الاستثمار في العلاقة الزوجية، بات ممكنا، وهذا يظهر في الأدب”.

وتبرز قصة “تريستان وإيزولت” في القرن الـ12 بإنجلترا أو قصيدة “لو رومان دي لا روز” خلال القرن الـ13 في فرنسا، مفهوم الحب بشغف، الذي يمجد قيم الإخلاص والتعلق العاطفي واعتبار الحبيب مثاليا.

لكن هذه الظاهرة ليست محصورة بحقبة زمنية واحدة ولا ببقعة جغرافية محددة، بل شهدتها أيضا اليونان القديمة، وعرفتها السلالات الصينية، وعاشها العالمان العربي والفارسي، وحتى الياباني، وفقا للدراسة، التي نشرت مؤخرا في “هيومن نيتشر بهيفور” (Nature Human Behavior).

حب مستحيل

وتغطي الدراسة، التاريخ الأدبي على امتداد 3500 عام، من مصر القديمة إلى بداية العصر الحديث عام 1800. ويستند العمل إلى مجموعة من الدراسات الأكاديمية، وورش العمل مع المتخصصين في هذا الموضوع، وقاعدة بيانات تتكون من 3 آلاف نص من موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية عن روايات أدبية، ومجموعة بيانات تقيس التنمية الاقتصادية بمعايير مثل معدل التوسع الحضري.

بساط مزخرف ومزدان بالرسوم من أوائل القرن الـ15 يظهر رجلا يقدم قلبه لسيدة (شترستوك)

واستنتج نيكولا بومار أن هناك ارتباطا بين العاملين، “إذ نعلم أن المستوى الاقتصادي يزداد في الوقت نفسه الذي تزداد فيه أهمية الحب الرومانسي”، ولكنه أقر بأن “هذا لا يوضح ما إذا كان الأول هو سبب الثاني”.

وكانت الأعمال الروائية اليونانية والرومانية القديمة، على سبيل المثال، أكثر رومانسية في بداية عصور وفترات الازدهار، مقارنة بالمرحلة اللاحقة التي شهدت انهيار الإمبراطورية الرومانية، حتى قرابة سنة 500 عندما تم عزل آخر أباطرتها من قبل قبائل الجرمان الأوروبية.

أما المواضيع الأدبية فتصلح لأزمنة وأمكنة مختلفة، ومنها الحب الممنوع أو المستحيل، والحب من النظرة الأولى، والانتحار من اليأس، والاتحاد الأبدي. ويلاحظ الباحث أن القصة واحدة لكن “عقلية الناس تغيرها”.

ولكن عندما يحضر موضوع الحب بقوة، ماذا يكون السبب؟

يستبعد معدو الدراسة نظرية وجود “ثقافة وطنية” في هذا المجال، مستشهدين باليونان التي تناوبت فيها الحقبات غير الرومانسية والرومانسية مرتين على مدى أكثر من 20 قرنا.

النقل الثقافي

كذلك لا صحة لنظرية النقل الثقافي، على ما يتضح مما عرفته قصة “تريستان وإيزولت” التي أدى التناقل إلى إفراغها من محتواها العشقي وإلى غلبة القيم الأخلاقية عليها في روسيا التي كانت أفقر بكثير خلال القرن الـ15.

وتتبع القصة الحزينة -التي تتم مقارنتها بحكايات قيس وليلى وروميو وجوليوت- قصة أمير يتيم يسافر لأيرلندا ليطلب يد أميرة لعمه الملك، لكنها تقع في حب الشاب الرسول بدلا من الزواج بعمه الملك.

ويعتبر فريق “بومار” أن السبب الحقيقي يكمن في ازدهار المجتمع، كذلك الذي وفره اعتماد المحراث الثقيل في أوروبا بعد عام 1000 ميلادي، مما أسهم في انتشار زراعة التربة الطينية التي تتميز بخصوبتها وقدرتها على التحمل. وعاد استخدام هذه التقنية بمنفعة أكبر على المناطق الشمالية من أوروبا التي شهدت ارتفاعا كبيرا في معدل التوسع الحضري، سجلت في موازاته زيادة في حضور موضوع الحب في النتاج الأدبي لتلك الحقب الزمنية.

فالازدهار يوفر للناس حاجاتهم الأساسية، كالحصول على ما يكفي من الطعام والعيش في أمان، “فتتغير نفسياتهم”، على ما يلاحظ الباحث. ويضيف “ما لم يكن ممكنا من قبل، مثل الاستثمار في العلاقة العاطفية، سيصبح ممكنا، وسيظهر في الأدب”.

فبعد التحرر من قيود توفير أساسيات الحياة، يمكن للزوجين الانصراف إلى تأمين ذريتهما، ويعتبر موضوع الحب “أداة عاطفية” تسهم في توثيق العلاقة بين الزوجين وترسيخ هذا الاستثمار.

وبالتالي، فإن تقديس الكنيسة الزواج الأحادي، والاتحاد الدائم، شكلا استجابة تكيفية للتحول في البيئة المجتمعية؛ فأوامر الكنيسة، على سبيل المثال، لم تكن سوى صدى لطريقة تفكير الناس، ولم تكن سببا لها، تقول الدراسة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.