“بعد انتهاء القصف الجوي والمدفعي وبدء الحرب البرية حقًا، أعتقد أن كييف تسقط في 96 ساعة فقط”، هذا ما خلص إليه 3 من كبار ضباط المخابرات الأميركية في 24 فبراير/شباط 2022. أما قائد الأركان الأميركي الجنرال مارك ميلي فقدم تقديرًا أقصر لسقوط العاصمة الأوكرانية: 72 ساعة فقط.

وبعد 6 أشهر من هذه الحرب، لم تسقط العاصمة ولم تصد القوات المسلحة الأوكرانية الهجوم الروسي على مدينة ومقاطعة كييف فحسب، بل حررت أيضًا مقاطعات جيتومير، وتشيرنيهيف، وسومي بأكملها؛ بالإضافة إلى أجزاء مهمة من مقاطعة خاركيف.

منذ عام 2014، كان القادة السياسيون الأميركيون والألمان لا يتوقعون الكثير من القوات المسلحة الأوكرانية، ويبالغون أحيانا في تقدير الفاعلية العسكرية الروسية؛ فخلال “غزو” شبه جزيرة القرم نصحت كل من إدارتي الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما والمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل كييف بعدم جدوى المقاومة العسكرية، والاعتماد على العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية الغربية لاستعادتها.

أحد أسباب عدم دقة توقعات المسؤولين الأميركيين هو التركيز المكثف على ما فعله الروس؛ بما يشمل إصلاحاتهم العسكرية بعد الأداء العسكري المحرج في جورجيا، وإعادة تنظيم الجيش في ما يعرف “بمجموعات الكتائب التكتيكية”، والانتصارات الكبيرة التي حققتها تكتيكات حرب الهجينة. ولكن تم إيلاء القليل من الاهتمام نسبيًا للتكيفات والابتكارات والإنجازات الأوكرانية منذ الهجوم المضاد الأول في دونباس خلال صيف 2014 وما بعده.

فمنذ عام 2015، خضع كل لواء مشاة ومدفعية ومدرعات تقريبًا (باستثناء وحدات القوة الجوية) لـ3 برامج تدريب خاصة على الأقل تحت إشراف مدربين أميركيين وبريطانيين وكنديين. وتم قطع الدورات التدريبية فقط لجولات قتالية في دونباس، ثم التناوب والعودة لتدريب أكثر تقدمًا بعد اكتساب الخبرات في الميدان.

وفي عام 2016، حضرت احتفالية الذكرى السنوية لثورة الميدان-الأوروبي في كييف، ورحب أحد الأصدقاء المنظمين بقوله “مرحبا بك في (ميدان) التحرير الشمالي”. كان كريما في الترحيب؛ فقد تم القضاء على ثورة ميدان التحرير قبل ذلك بسنوات، وكانت الثورة البرتقالية (الأخت الأكبر والأهدأ لثورة الميدان-الأوروبي) أكبر بنحو 7 سنوات من “الربيع العربي”. ولكن الأهم من ذلك أنه قيل لي “ما حدث في القرم لن يتكرر مرة أخرى؛ سنقاتل حتى آخر رجل تراه أمامك”. ولم يكن الضباط والمتطوعون يلقون فقط خطابات تحفيزية، فـ11 من أصل 14 فردا من القوات المسلحة الذين قابلتهم عام 2016 وبعد ذلك قُتلوا أثناء مقاومة قوات الاحتلال الروسية عام 2022، أما الباقون الثلاثة فجرحوا في المعارك.

رغم شدة وصلابة المقاومة الأوكرانية، كانت النتيجة الرئيسية للمرحلة الثانية سقوط مقاطعة لوغانسك؛ وهي المقاطعة الوحيدة التي سقطت بالكامل منذ ضم شبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014

بحلول مايو/أيار 2019، تباطأت الاستعدادات العسكرية لأوكرانيا إلى شبه توقف، مما أعطى فرصة أخرى للدبلوماسية (بعد الإخفاقات الفعلية لنتائج مفاوضات مينسك1 ومينسك2)، وكان هذا تأخيرًا في الاستعداد الدفاعي، وليس قتلا بطيئا له كما فُهِم وقتها.

وبحلول فبراير/شباط 2022، وفقًا لعقيد في قوات الدفاع عن الأرض (قوات الاحتياط) كانت فصيلة الاحتياط المؤلفة من 27 جنديًا احتياطيا في مقاطعة كييف مسلحة بـ11 صاروخًا موجهًا مضادًا للدبابات، بما في ذلك “جافلين” الأميركي و”لاو” البريطاني؛ والاثنان من أدق وأخطر مضادات الدروع على الإطلاق. بعبارة أخرى: قوة احتياط شديدة التسليح كما ونوعا.

تعكس معركة هوستومول (نحو 40 كيلومترا شمال غرب مدينة كييف) جزئيًا نتائج سنوات التدريب والتجهيز، حتى تحت آثار مفاجأة وصدمة وشدة الهجوم الروسي الأولى. استطاع جنود الاحتياط الأوكرانيون صد هجوم قوات النخبة الروسية المحمولة جوًّا (عناصر من لواءي الهجوم الجوي 11 و31). وبشكل عام، انتهت المرحلة الأولى من هذه الحرب (فبراير/شباط وأبريل/نيسان 2022) بفشل في تحقيق الهدف الإستراتيجي لقوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ احتلال كييف.

الهجمات المضادة في المرحلة الثانية

في المرحلة الثانية من الحرب (أبريل/نيسان-يوليو/تموز)، قلّت تكتيكات المناورة العميقة والتسلل السريع وطوابير المدرعات الطويلة على الطرق الرئيسية، وغيرها من السمات المميزة للمرحلة الأولى، وبدت الحرب خلال هذه المرحلة -في بعض الأحيان- أقرب إلى ما يعرف “بالحرب الجالسة” بدلا من “الحرب الخاطفة”. ومع ذلك، استمرت مبارزات المدفعية، والمناورات القصيرة، والتهديدات المبطنة بالتحول لتكتيكات غير تقليدية-إشعاعية في محطة الطاقة النووية إنرغودار، واستمرت كذلك ضربات المسيرات العميقة، وحرب الأنصار غير النظامية خلف خطوط الاحتلال، خاصة في مدينة ميليتوبول، ومقاطعة خيرسون وجمهورية القرم.

ورغم شدة وصلابة المقاومة الأوكرانية، كانت النتيجة الرئيسية للمرحلة الثانية سقوط مقاطعة لوغانسك؛ وهي المقاطعة الوحيدة التي سقطت بالكامل منذ ضم شبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014. وحيث إنه لم تسقط أية مقاطعة أخرى صار التوطيد السياسي للاحتلال الروسي إشكالية كبيرة. فببساطة، لا يمكن للقوات الروسية إجراء “استفتاءات” لضم مقاطعات أوكرانية بينما هي لا تسيطر عليها عسكريًا.

يقودنا هذا إلى الهجوم المضاد الأوكراني الذي بدأ أواخر الشهر الماضي. حتما كان على أوكرانيا محاولة تحرير إقليم خيرسون -أو على الأقل أجزاء منه- قبل الشتاء لعدة أسباب:

أولاً: كان سيناريو التوطيد السياسي من خلال “استفتاء” منظم روسيا في خيرسون -كما في شبه جزيرة القرم سابقا- يلوح في الأفق منذ فترة طويلة، حتى لو لم تسيطر القوات الروسية على المقاطعة عسكريا.

ثانيًا، نفذت القوات الأوكرانية إستراتيجية “دفاع في العمق” ناجحة في الشمال، مبنية على مبادلة الأرض بالوقت والاستنزاف. هذه الإستراتيجية لا تبدو فعالة في الجنوب. ونظرًا لكم التسليح والتدريب والتمويل المقدمين من حلفاء أوكرانيا، تريد القوات المسلحة الأوكرانية إثبات قدرتها على استعادة الأراضي قبل الشتاء، وهو موسم سيؤدي إلى تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا. وبالتالي قد تتغير أهداف أوروبا من دعم جهود التحرير إلى دعم وقف إطلاق النار والحفاظ على الوضع الراهن مرة أخرى، مثل حالة شبه جزيرة القرم.

وثالثًا: تعد خيرسون ذات قيمة جغرافية وإستراتيجية لجهود التحرير الشاملة، نظرًا لقربها من شبه جزيرة القرم. وتسيطر خيرسون على بعض إمدادات الكهرباء والمياه لشبه الجزيرة المحتلة، وهي تقرب المدفعية الأوكرانية من مراكز قيادة أسطول البحر الأسود، والمطارات، ومستودعات الأسلحة والذخيرة، والأصول البحرية الروسية المتواجدة في القرم (العديد منها أصول للبحرية ولقوات مشاة البحرية ولقوات الدفاع الجوي الأوكراني نُهبت في فبراير/شباط ومارس/آذار 2014).

وأخيرًا، استعادة خيرسون ستسمح بالتحكم في مدخل نهر دنيبرو من الجنوب مما يكسر الحصار النهري الروسي (ويبقى الحصار البحري قائم جزئيا في البحر الأسود).

 المرحلة الثالثة: نتائج محتملة؟

لا يزال من السابق لأوانه التنبؤ بنتائج الحملة الجنوبية المعقدة (وكذلك الشمالية-الشرقية في خاركيف وشمال دونباس)، ولكن سفير أوكرانيا في دولة قطر أندري كوزمينكو قال لي مؤخرًا “قواتنا تضرب المعدات العسكرية والبنية التحتية الروسية على طول الجبهة بأكملها. يتم استهداف خطوط الإمداد اللوجيستية ومستودعات الذخيرة ومراكز القيادة الروسية (بهدف) تقويض قدراتها بشدة على مواصلة هذه الحرب”.

ويبقى أن نقرر أن هذه أول مناورة هجومية أوكرانية بالأفرع والأسلحة المشتركة منذ بداية الحرب، ويمكن القول -نظرًا لحجمها على امتداد أكثر من 500 كيلومتر- منذ استقلال أوكرانيا عام 1991. ورغم تدريبهم بشكل شبه حصري على المناورات الدفاعية، حققت القوات الأوكرانية كثيرا من التقدم في خيرسون وخاركيف مؤخرا في مواجهة خطوط الدفاع الروسية و”مليشيات الانفصاليين”.

وإذا تمكنت أوكرانيا من دفع القوات الروسية إلى الضفة الشرقية لنهر دنيبرو في خيرسون فقط، فقد يمثل ذلك لحظة تغير قواعد اللعبة في الحرب. ورغم التحديات وتعقيد الموقف، يرى كوزمينكو أن “أوكرانيا ستنتصر في هذه الحرب”، ويقول “نحن نناضل من أجل حريتنا ودولتنا. فما الذي يقاتل الروس من أجله؟”

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.