أوضحت -في المقال السابق– أن الصياغة التي قدمها سيد قطب لمفهوم الجهاد تركت أثرًا بالغًا في ما سُمي “المشروع الجهادي” المعاصر. وقد قلت: إن الأثر الذي أحدثه سيد في جماعات العنف برز في ثلاثة أمور: صياغة الأسس الفكرية للتيار الجهادي المعاصر وهو ما عالجه المقال السابق، وبقي أمران آخران أعالجهما في هذا المقال، وهما: أثر سيد في تكوين منظري جماعات العنف، وكيف أن عددًا من الدارسين الغربيين التقطوا هذا الأثر أيضًا. وكما قلت سابقًا: إن هذه الملامح الثلاثة يعضد بعضها بعضًا؛ الأمر الذي يؤكد وضوح أفكار سيد ووضوح تأثيرها فيما سمي “المشروع الجهادي”، بغض النظر عن اعتذاريات القطبيين، ولكن قبل أن أعالج هذين الأمرين سأناقش مقدمة نظرية في سعة تأثير سيد واختلاف درجات المتأثرين به.

سعة تأثير سيد واختلاف المتأثرين به

صاغ سيد -كما سبق- منهجًا فكريًّا حركيًّا آتى أُكُله بانفعال طيف واسع به، شمل حركات المقاومة وجماعات العنف معًا. بل إن فكر سيد قد شكل مَعينًا للفكر الحركي عامة، سواءٌ الإخوان المسلمون أم السرورية أم جماعات العنف. ومع ذلك، لم يُحدث فكرُه الأثر نفسه في جميع المتأثرين به كما هو واضح من تنوع طيف المتأثرين به ممن سبق. ويمكن تفسير تفاوت درجة تأثير سيد في مَن تأثروا به بأمرين على الأقل:

  • الأول: تفاوت قراء سيد في ميولهم وطبائعهم، وفي مدى تعمقهم في نصوصه من جهة، ومدى استيعابهم لها من جهة أخرى.
  • الثاني: تنوع أشكال الانفعال؛ فالانفعال ليس مسألة ميكانيكيّة، ومن ثم لا يقتصر على مدلولات النص وحدها، وإلا لزم أن يُحدث كل نص التأثير نفسه في كل قارئ، وهذا غير واقعي. فنصوص سيد شاسعة، وكلّ طرف يقتبس منها بحسب اهتماماته من جهة، وبحسب طاقته من جهة أخرى. هناك من يقرأ فكرة فينقلها من الورق إلى الحركة، وهناك من يقف عند حدود التأثر الفكري النظري دون أن يترجمه إلى عمل؛ ولاسيما أن سيدًا نفسه لم يمارس العنف في حياته، رغم ثوريته.

وخلاصة الأمرين السابقين أن تفاوت التأثير وتنوعه لا يرجع -بالضرورة- إلى قوة الفكرة الثورية ووضوحها أو خفوتها فقط، فثمة عوامل أخرى تبثّ في الفكرة الحياة، كالعيش في سياق ملائم، والنوازع الشخصية، وتوفر الإمكانات، إلى غير ذلك. ألم يقل سيد نفسه -في سياق تنظيره للانتقال من فقه الأوراق إلى فقه الحركة- إن الحركة هي التي تولّد المعنى؟ إن نصوص سيد -وخصوصًا في النسخة الثانية المزيدة والمنقحة من الظلال- صريحةٌ لمن قرأها بعناية وتيقظ واستقصاء أيضًا.

أما التأويلات التي أولع بها الاعتذاريون فهي مقحمة من خارج نصوص سيد: كالبحث في نواياه ومقصوداته بناء على الظن أو الخبرة الشخصية به لا بنصوصه، وكإيراد شهادات عمن عايشه في سجنه تستند إلى محادثات خاصة، وككونه كان يصلي الجمعة خلف فلان أو علان للاستنتاج أنه لم يكن يكفّره، إلى غير ذلك. إن العامل الحاسم أو نقطة البداية هنا هي نصوص سيد التي يقرؤها عموم الناس والأسس الفكرية التي بناها من خلالها، وهي تفيد معاني صريحةً لها مقتضياتها وإلزاماتها، مع العلم بأن سيدًا -كما قررت في مقال سابق- لم ينشغل بالحكم على الأفراد بإيمان أو كفر، ولم يكن ذلك ضمن أولوياته؛ فهذه نقلة قام بها من تأثروا به من منظري العنف.

وبسبب هذا التنوع في درجة التأثر وتنوعها من جهة، وبسبب شخصيته الجدلية (سواء قبل انضمامه للإخوان أم بعده) من جهة أخرى، ستبقى علاقة سيد بالتنظيم الإخواني الخاص (أو ما عُرف بتنظيم 1965) إشكالية، وسيبقى دوره أو أثره في الانشقاقات التي حدثت في الستينيات داخل تنظيم الإخوان جدليًّا. فلطالما اختلفت الأنظار والشهادات في ذلك بين مثبت ونافٍ، ومن ثم قيل: إن تنظيم الإخوان غصّ بفكر سيد، فلا هو قدَر على هضمه ولا هو قدر على لَفْظه، كما أن موقع سيد بين حسن البنا ويوسف القرضاوي -رحم الله الجميع- سيبقى موضوعًا للدرس والتحليل.

فهل مثّل الثلاثة مشاريع متباينة أو متكاملة؟ في رأيي أن مشروع القرضاوي كان على النقيض من مشروع سيد، كما أن من يقارن بين سيد والبنا يجد أن سيدًا شخصية كبيرة ومستقلة أقرب إلى أن يكون نظيرًا للبنا لا تابعًا له، ولاسيما أنه استطاع أن يملأ الفراغ الفكريّ داخل حركة الإخوان المسلمين قبل أن يأتي القرضاوي فيما بعد ليؤسس مشروعه على نقد فكر سيد مع تقديم البديل عنه في الوقت نفسه، لجهة التكفير والحاكمية والجاهلية والجهاد والاجتهاد وغير ذلك.

أثر سيد في منظري الجهاد والعنف

لا يأخذ التأثر شكلاً واحدًا ولكن أصرحها الاقتباس المباشر مع المتابعة، ومن أشكال التأثر أيضًا التطابق في الأفكار أو البناء عليها والتقدم بها خطوة إلى الأمام وإن لم يقع التصريح بالنقل، وقد تناولت هذين الشكلين فيما سبق، ويعنيني هنا شكل آخر من التأثر يتمثل في النموذج (model) الذي يُحتذى، فلم يقدم سيد تنظيرًا فكريًّا فقط، بل شحنه بالعاطفة والوجدان الأدبي ثم رواه بدمه، فقدّم القدوة للجهاديين على مستويين: المستوى العقدي (القائم على الحاكمية)، والمستوى العملي الحركي حيث دفع حياته ثمنًا لأفكاره. والتأسي بهذا النموذج يمكن أن يأخذ أحد شكلين: الأول: تبني المنهج الفكري (الأقوال والأفكار) متابعة أو اقتناعًا، والثاني: الاقتداء بشخص سيد نفسه (السيرة) الناتج عن معايشة مباشرة له أو لأفكاره.

وإذا كانت قيادات ما سمي تنظيم 1965 أقرب إلى الشكل الثاني (التأثر بالمعايشة)، فإن بعض منظري الجهاد والعنف اللاحقين سلكوا المسلك الأول (التأثر بالنموذج الفكري)، ومنهم: صالح سرية (ت. 1976) وشكري مصطفى (ت. 1978) وعبد الله عزام (ت. 1989) وفتحي الشقاقي (ت. 1995) وأيمن الظواهري (ت. 2022) وأبو قتادة الفلسطيني وغيرهم. صحيح أن بين هؤلاء فروقًا ولكن يجمعهم مشروع تطبيق الجهاد في السياق المعاصر (سواء ضد الأنظمة أم ضد الغرب)، بل إن تأثير سيد امتد ليشمل بعض رموز الثورة الإسلامية الإيرانية، ولعلي أفرد هذا بمقال لاحق.

لنبدأ بصالح سرية وهو صاحب أول تطبيق فعلي للعنف في مصر عام 1974 من خلال “تنظيم الفنية العسكرية”. يرى سرية أن مِن خير التفاسير لمعرفة “التفسير الحق” للقرآن كتاب “في ظلال القرآن” في طبعاته الأخيرة، وهي الطبعة التي تضمنت أفكار الحاكمية والجاهلية والتكفير كما سبق. أما عبد الله عزام (رائد “الجهاد الأفغاني”) فيقول: “وجهني سيد قطب فكريًّا، وابن تيمية عقديًّا، وابن القيم روحيًّا، والنووي فقهيًّا.هؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياتي أثرا عميقا”، ولهذا كان عزام يلهج بذكر سيد في خطبه وكتبه.

وكان أيمن الظواهري (ت. 2022) -بحسب ما نقل عنه أبو قتادة الفلسطيني- قد عاش شبابه “منفعلاً بما كتبه سيد قطب” إلى أن التقى شبابًا مثله وأسسوا تنظيم القاعدة، كما أن الظواهري قد أعطى -في كتابه “فرسان تحت راية النبي”- مكانة مركزية لسيد في الفكر الجهادي على المستويين العقدي والعملي. وكذلك أبو قتادة كان شديد الاحتفاء بفكر سيد؛ يقول: إن “الحركات الإسلامية توقفت عمومًا في التقدم نحو الأفضل، ومن الأمثلة الصريحة على ذلك صنيع الإخوان المسلمين؛ فقد كان سيد قطب -رحمه الله تعالى- هو النتيجة الجيدة والموقع المتقدم بعد حسن البنا”. أما فتحي الشقاقي (مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين) فقد اعتبر أن سيدًا وعلي شريعتي ومالك بن نبي يشكلون “مثلثاً خطيرا في الفكر الإسلامي الحديث”، وكان كتاب “معالم في الطريق” من ضمن ما استند إليه الشقاقي في “الصياغة الثورية للفكر الإسلامي”.

تؤكد هذه المعلومات المكانة الفعلية التي شغلها سيد لدى هذه الرموز في العمل الجهادي (بمعناه الواسع)، كما تؤكد السمة الثورية البارزة في فكر سيد التي ألهمت هؤلاء وشكلت نموذجًا يُحتذى، وهي السمة التي تنبه لها الشقاقي وأفاد منها في الصياغة الثورية للفكر الإسلامي. كان أبو مصعب السوري -إذن- دقيقًا حين قرر أن سيدًا وضع الأسس الفكرية للمشروع الجهادي كما بيّنا في المقال السابق.

كتاب الظلال هنا مرجعيّ لجهة أنه مثّل الصياغة الكاملة والشاملة للمنهج الحركي المؤسس على النص القرآني المرجعي، وهو “التفسير الحق” بحسب صالح سرية، كما أن كتاب “معالم في الطريق” الذي شكل ما يشبه المنهاج العملي مستلٌّ من الظلال مع إضافات وتعديلات، وبفضل هذا التنظير تشكلت البنية الفكرية عند عزام حين قال إن سيدًا وجّهه فكريًّا، أو إنه شغل الموقع المتقدم بعد البنا في البناء الفكري الحركي كما قال أبو قتادة، وذلك بأن سيدًا ملأ الفراغ الفكري عند الإخوان المسلمين من جهة، ووضع أسس المنهج الحركي والجهادي من جهة أخرى، ومن ثم كان موقعه الفكري متقدمًا بعد البنا بحسب أبي قتادة.

هذا التوجيه الذي قدّمه سيد لعزام، وذلك الانفعال الذي ولّده في الظواهري، وتلك الثورية التي ألهمت الشقاقي، كل ذلك يوضح عمق الأثر الذي تركه سيد في “المشروع الجهادي” بشقيه: الصراع مع الغرب والاستعلاء بالإسلام، والصراع مع الأنظمة القائمة التي شكلت أساس الجاهلية وعقبة أمام الحاكمية.

اقتبس صالح سرية -في “رسالة الإيمان” التي كتبها سنة 1973- عن سيد أن قوانين الحكم والتشريعات هي “الفرض الأول؛ لأنها أساس التوحيد والشرك في هذا العصر”، ومن ثم خلَص إلى القول: “إن كل الأنظمة -وكذلك كل البلاد الإسلامية التي اتخذت لها مناهج ونظماً وتشريعات غير الكتاب والسنّة- قد كفرت بالله واتخذت من نفسها آلهة وأربابا؛ فكل من أطاعها مقتنعاً بها فهو كافر”، وكان قد أحال إلى سيد صراحة. وكان أبو قتادة قد بيّن أيضًا أن أول الأسس لشرعية عمل الحركات “الجهادية السلفية” هو أن دار الإسلام “قد انقلبت إلى دار كفر وردة؛ لأنها حُكمت من قبل المرتدين، ولأن الكفر قد بسط سلطانه عليها من خلال أحكامه ودساتيره”، وأنها هي “الطائفة المنصورة”، وهذا عينه مضمون ما نجده لدى قطب في كتبه.

كما أن الفكرة المركزية التي يقوم عليها كتاب محمد عبد السلام فرج (ت. 1982) -صاحب الدور البارز في اغتيال السادات- هي البدء بجهاد الأنظمة الكافرة، وأن “الأحكام التي تعلو المسلمين اليوم هي أحكام الكفر”، على حد قوله في كتاب “الفريضة الغائبة” الذي كتبه 1981، وتحدث فيه عن تكفير الأنظمة وجهادها، ومفاصلة المجتمع، و”دعوة الناس إلى الإسلام” وغير ذلك مما نجده لدى سيد. والأمر نفسه نجده في إصدارات “الجماعة الإسلامية” المصرية فيما يخص الجهاد وتحكيم الشرع والمواجهة مع الأنظمة، ونحو ذلك نجد عند جماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى، الذي قيل إنه كان قريبًا من سيد في السجن وجاء كتاب “دعاة لا قضاة” الذي وُقّع باسم حسن الهضيبي (ت. 1973) للرد على أفكاره وجماعته، وكل ذلك يدعم مقولة أبي مصعب السوري في نسبة الفضل إلى سيد في وضع الأسس الفكرية للمشروع الجهادي.

سيد وإرث الجهاد المعاصر في كتابات الباحثين الغربيين

وقد تنبه عدد من الباحثين الغربيين إلى هذا الأثر الذي تركه سيد في المشروع الجهادي، منهم أوليفيه روا، وجون إسبوزيتو، وبول بيرمان، وبروس لورانس وغيرهم. يقول أوليفيه روا: “هذا التطرف في استغلال الجهاد: حديثُ العهد؛ إذ يعود إلى سيد قطب وإلى الجماعات المصرية في السبعينيات التي انتمى إليها محمد عبد السلام فرج الذي اعتبر الجهاد فرضًا من فروض الإيمان”. وبعد أن يسرد جون إسبوزيتو ثلاثة “عرابين” للجهاد المسلح -هم حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب- يَعتبر سيدًا الشخصية الرئيسية في تطور الجهاد المسلح، وأن دفاعه عن الجهاد القتالي أثر في أعداد كبيرة من الذين توجهوا إلى العنف فيما بعد، ومن بينهم أسامة بن لادن ونشطاء تنظيم القاعدة؛ رغم أن أيًّا من هؤلاء العرابين الثلاثة لم يمارس العنف بنفسه.وهذه الخلاصة تؤكد الموقع الفكري المتقدم الذي شغله سيد بعد البنا وفق منظور أبي قتادة.

أما بول بيرمان فقد التقط أن سيدًا رفض الفكرة العلمانية القائمة على الفصل بين المقدس والدنيوي أو المدنس، وأنه تجب محاربتها بالجهاد الذي سيعيد كل شيء إلى حاكمية الله، ثم يستنتج أن أسامة بن لادن كان تلميذًا فكريًّا لسيد. وقد تنبه بروس لورانس -أيضًا- إلى كثرة اقتباس الجهاديين المعاصرين عن سيد فقال: “يعتبر سيد قطب الأيديولوجي الذي غالبًا ما يُستشهد به بالنسبة للتشدد الإسلامي أو الأصولية”.

وضع سيد -إذن- الأسس الفكرية للمشروع الجهادي، وأسهم مساهمة بارزة في صياغة فكر ووجدان بعض منظري جماعات العنف؛ إذ قام مشروعهم على الأفكار الرئيسية التي صاغها سيد في الظلال وإن فارقوه في بعض تفصيلاتها. ولشدة وضوح أفكار سيد ووضوح تأثيرها أقر بها قادة ما سمي المشروع الجهادي وأكدتها اقتباساتهم عنه ومطابقتهم أفكاره، والدفع بها إلى أقصاها، كما أدركها عدد من الدارسين الشرقيين والغربيين. ولا يؤثر في هذا الاستنتاج تفاوتُ درجات المتأثرين بفكر سيد؛ لأن التأثر تتنوع أشكاله، ولا يخضع -فقط- لمدلولات النص، بل لا بد من تفاعل جملة عوامل تنضم إلى النصّ، وهذا لا يعني أن نص سيد لم يحمل تلك المضامين؛ بل هي بناؤه الفكري المتماسك والواضح والذي شكّل ما سمي المنهج الحركي، والله أعلم.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.