القدس المحتلة- في العام 1966 بدأت الفلسطينية انتصار سعادة أولى مراحل التعليم المدرسي في قريتها الجيب الواقعة شمال غرب القدس المحتلة. حينها لم يكن في القرية مدرسة لتعليم الإناث، فتلقت تعليمها الأساسي في بيت كان مخصصا كمدرسة، وهو “دار علي عبد العال”، وبعد أن أنهت الصف الخامس كان عليها الانتقال للدراسة في مدرسة “فاطمة الزهراء” خارج القرية.

المدرسة التي كانت تقع في منطقة وسط بين قرية انتصار و6 قرى أخرى، كانت فرصة الفتيات الوحيدة لإكمال تعليمهن حتى الصف التاسع، وهي كانت من المحظوظات التي تمكنت من ذلك.

ولكن الرحلة من البيت إلى المدرسة لم تكن سهلة عليها وباقي الفتيات اللواتي أكملن تعليمهن الأساسي، فكان عليهن قطع هذه الطريق على بعدها مشيا على الأقدام، هذا بالإضافة إلى الالتزام بالقواعد التي فرضت عليهن كإناث. فمدرستهن كانت ملاصقة لمدرسة “اتحاد الجيب” للذكور، لذا كان عليهن سلك طرق مختلفة بمواعيد مختلفة، فلم تلتق طوال فترة دراستها بطلبة مدرسة الذكور في الطريق أو محيط المدرسة.

الباحثة وسن قرمان في محاكاة رحلة الطلبة فترة الستينيات من البيت إلى المدرسة (الجزيرة)

تفاصيل وتاريخ

وطريق انتصار من بيتها لمدرستها كما تتذكره، لم تكن مجرد جغرافيا فقط وإنما اختزالا لتفاصيل الحياة الاجتماعية، وهو ما استطاعت الباحثة وسن قرمان تتبعه خلال بحثها “استعدادات من البيت للمدرسة” والذي كان جزءا من مشروع “الخريطة المغيبة” الذي أشرف عليه مركز المعمار الشعبي “رواق” لاستعادة سردية جغرافيا ريف القدس الاجتماعية والثقافية.

وعلى مدار عام كامل، ومن خلال مقابلات ومحاكاة لرحلة 18 من سكان القريتين عن الطرق التي تتبعوها خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من بيوتهم إلى مدارسهم، حاولت الباحثة تقديم فهم للتاريخ المشترك لهذه القرى.

وفي حديثها للجزيرة نت، قالت إنها استطاعت التعرف على بعض ملامح الهوية الاجتماعية والبيئية المرتبطة بالمعالم الجغرافية في ذلك الوقت، ومقارنتها مع ما هو موجود حاليا على الأرض ورصد التغيرات بسبب الجدار العازل والتدخلات الاحتلالية.

وتابعت قرمان “معظم من قابلتهم من قرية قلنديا تحدثوا عن توتة البلدة كجزء من ذاكرتهم، والتي كانت أهم معالم مدخل القرية الرئيسي، حيث يجتمع الطلبة للانطلاق للمدرسة، وبعد المدرسة للعب واللهو تحتها”.

ولكن الآن، ومن خلال الجولات التي قامت بها برفقة من قابلتهم، أصبحت هذه التوتة مكانا مهجورا بعد تغير مدخل القرية إثر بناء الجدار الذي يفصلها عن مدينة القدس.

وبعد إتمامها البحث التوثيقي جسدت قرمان نتائجه، وهي التي درست الفنون، من خلال عمل فني. حضرت فيه شجرة التوت وشجر الرمان والسرو الذي كان على أطراف الطرق الوعرة آنذاك واشتهرت به تلك المنطقة، وحقيبة المدرسة التي كانت عبارة عن كيس من قماش تحيكه الأمهات.

جزء من خريطة بلدة الجيب المصورة نتائج البحث الشفوي والتوثيقي -رواق (الجزيرة)

استعادة الجغرافيا

ومن خلال البحث الثاني حول “جغرافيا الفخّار في القدس بين الفراغ الريفي والمدني”، تحرت المعمارية دينا سقف الحيط على مدار عام، من عملها في قرية الجيب عن المادة الموجودة في أرض قرية الجيب الواقعة شمال غرب القدس المحتلة، والتي جعلتها أهم مراكز صناعة الفخار في فلسطين منذ العصر البرونزي قبل 1300 عام.

هذه الحرفة توقفت بعد وفاة آخر النساء اللواتي كن يصنعن هذه الأواني الفخارية في العام 2011، وفصل الاحتلال جبل “المطايين” مصدر الطين الذي تتميز به القرية خلف الجدار.

ولكن ما توصلت له الباحثة الفلسطينية في بحثها، أن الأهالي استطاعوا اكتشاف مصدر آخر لهذا الطين في القرية هو ما جعلهم يحيون هذه الحرفة بعد توقفها لأكثر من 10 سنوات.

وتناول البحث الثالث تاريخ وادي بيت حنينا وعلاقته مع سكان البلدة خارج الجدار وداخله، والذي قام على تنفيذه مجموعة “بلوك”، وهي مجموعة من المعماريين والفنانين المقدسيين، الذين بدؤوا مشروعهم بشكل عفوي من خلال جولات في الوادي فترة انتشار جائحة كورونا.

الباحثة دينا سقف الحيط في معرض نتائج بحثها عن الفخار في بلدة الجيب (الجزيرة)

وخلال هذه الجولات التقوا مع مواطنين وتحدثوا معهم ليكتشفوا الكثير عن تاريخ هذا الوادي الذي تحول لمنطقة مهملة ومهجورة حاليا، فقاموا بإعادة رسم هذا التاريخ من خلال رسم خريطة لكل جولة توثق التاريخ المحكي عن المكان.

وقالت المعمارية أريج الأشهب من المجموعة، إنهم تمكنوا من خلال هذا المشروع من رسم خرائط للمكان كما كان قبلا بواسطة ما استطاعوا جمعه من ذاكرة المواطنين، وكل ما يتعلق به من حكايات وموروث شعبي واجتماعي وأساطير اختفت مظاهرها بعد بناء جسر استيطاني في الوادي وعزله عن العالم.

وتابعت الأشهب للجزيرة نت “حسب ما رصدنا من أحاديث المواطنين فإن هذا الوادي كان من المناطق الحيوية المهمة لبلدة بيت حنينا التي قسمها الجدار، ولكن حاليا اختفت أهم معالمه الحيوية بعد بناء المستوطنات والطرق الاستيطانية”.

عودة: الاحتلال عمل على تهميشنا كوطن وشعب (الجزيرة)

إحياء الذاكرة

مشروع مجموعة “بلوك” والذي حمل اسم “وادي بيت حنينا من مركز حياة لهامش معزول” تعامل مع بيت حنينا كوحدة واحدة مُسقطا الواقع الجغرافي الحالي الذي خلقه الاحتلال بتقسيم البلدة وتغيير معالمها، وعزل قسم منها خارج الجدار، هو جوهر المشروع الذي يحاول تقديم ريف القدس الذي فصلته إسرائيل بالكامل عن المدينة وحرم جيلا كاملا من الفلسطينيين من العيش بتواصل جغرافي طبيعي.

الباحث في تاريخ القدس يعقوب عودة الذي تابع هذا المشروع، تحدث عن أهمية التركيز على الريف المقدسي المغيب بالكامل، وراء المخططات الاحتلالية التي حاول إعادة رسم خريطة القدس بريفها، وحصرها بالمدينة وحدودها داخل الجدار.

وبحسب عودة، فإنه وعبر سنوات، استطاع الاحتلال اختزال مدينة القدس التي كانت وحدة جغرافية ممتدة بما فيها المدينة وريفها، إلى المدينة داخل الجدار العازل.

وتابع عودة في حديثه للجزيرة نت “الاحتلال عمل على تهميشنا كوطن وشعب، وهو ما يحملنا مسؤولية محاربة هذا التهميش من خلال إحياء ذاكرة الجغرافيا الفلسطينية”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.