تطلب الطبيبة النفسية الدكتورة كونستانس من إحدى مريضاتها أن تحكي لها عن موقف هجومها على رجل وترمقها بنظرة من نظارتها بشكل جاد تتابع ما ستحكيه. تتوقف المريضة عن الحكي وتهب واقفة من سرير المرضى وتتهم الطبيبة بأنها تسخر منها، وتقول إنها لا تحب وجه الطبيبة المتجمد المتعجرف، وتستمر في الصراخ في وجهها حتى يأتي العاملون في المستشفى ليخرجوها. يدخل حينئذ زميلها الدكتور فلوريت ويحاول مغازلة الطبيبة قائلا إنها لن تستطيع أن تعالج المرضى وهي من دون تجربة عاطفية، فترد عليه الدكتور كونستانس بأنها تعلم أن أسلوبه المهذب يخفي رغبة جنسية جامحة، فهي تؤمن بالعلم والنظريات فقط في فيلم “المسحورة” من إخراج ألفريد هيتشكوك عام 1945.

يعد هذا العمل أحد الأفلام التي تظهر تأثر المخرج البريطاني الأميركي ألفريد هيتشكوك بمدرسة التحليل النفسي الخاصة بسيغموند فرويد. وهو تأثر كتب عنه كثير من الأطباء النفسيين ونقاد السينما، ولم يكن هيتشكوك وحده الذي تأثر بمدرسة التحليل الفرويدي ونقلها على الشاشة بل تبعه آخرون. وبذلك وجدت هذه المدرسة طريقها إلى عقول وأجيال مختلفة في الغرب -وربما في العالم- محمولة على الشاشة الفضية.

المفاجأة أن فرويد نفسه لم يكن يحمل أي تقدير للسينما، ووصل به الأمر ربما لدرجة الازدراء؛ فقد تزامن عروض الأخوين لومير السينمائية في باريس أواخر القرن 19 مع نشر فرويد مؤلفاته. وجاءته عروض من منتجين أميركيين وألمان وقتئذ من أجل إنجاز أعمال سينمائية تدور حول التحليل النفسي، وقابلها كلها بالرفض.

لقد كان فرويد شغوفا بالفن لكنه كان يحمل قناعة مفادها أن تجريداته في علم النفس لا يمكن أن تتحول إلى عمل فني يحترم نفسه. وحاول كثيرون قراءة موقف فرويد من السينما من عدة زوايا؛ منها انتماؤه اليهودي الديني الذي يرى في اقتراب الصورة من الإنسان أو من روحه أمرا محرما، وهو الأمر الذي يقودنا لجوهر علاقة السينما بالحضارة الحديثة التي تتمحور بشكل رئيسي حول الصورة والبصر.

يصف المفكر المغربي الدكتور طه عبد الرحمن الحضارة الحديثة بأنها حضارة طغيان الصورة، وأن صانعي آلة التصوير منذ القرن 16 كانوا متأثرين بثقافة الصور الوثنية، ورفع حاسة النظر إلى مرتبة تعلو على جميع المدركات بشكل أدى إلى “طغيان البصر”، وأصبح هناك نهم لاستهلاك الصور بشكل فيه نهم بلا إشباع. فعلميا هي ثقافة الميكروسكوب والتليسكوب، وفنيا هي حضارة الكاميرا؛ وبالتي أفرزت هذه الحضارة 3 تحديات أخلاقية كبرى هي: التفرج والتجسس والتكشف.

هذا التمحور حول الصورة في كل شيء يتناقض -حسب عبد الرحمن- مع جوهر وفلسفة الحضارة الإسلامية التي تتمحور حول البصيرة وليس البصر؛ فالتراث الإسلامي والأدبيات الإسلامية حافلة بالحث على غض البصر ليس عن المحارم وحسب بل عن فضول النظر وإلى ما في يد الغير، كما تحث على الاهتمام بالبصيرة والباطن وليس الظاهر فقط.

في إطار ذمه فكرة الواقع والواقعية البصرية، ينتقد عبد الرحمن فكرة تلفزيون الواقع قائلا إنه يزعم إعادة بناء الواقع مما يحيل المتفرج إلى متلصص أو متجسس بشكل يتناقض مع الحياء الإيماني الذي يدعو إليه الدين

من المتفرج والمتلصص إلى المشاهد

يركز الدكتور طه عبد الرحمن في نقده ثقافة الصورة الحديثة على ثورة الإعلام والاتصال، ولا يقترب كثيرا من السينما. غير أن تنظيره المهم عن هذه الثقافة يحمل بشكل غير مباشر إخراجا جزئيا للسينما من هذه المنظومة ومساحة تقاطعات معها، والأهم أنه يقدم بعض الحلول لتلافي الآثار السلبية لثقافة الصورة الحديثة.

تركز رؤية عبد الرحمن لطغيان الصورة حول السيل المتدفق الذي يلاحقنا يوميا من الصور في الأخبار ووسائل الإعلام والترفيه ووسائل التواصل الاجتماعي، الذي أثر في المشاهد بشكل أبعد من فكرة الإدمان وحوّل سلوكه من مجرد متفرج إلى متجسس. ومن الغريب أن التحول في الغرب من تسلط الكنيسة إلى العلمانية جعل الحياة الدينية شأنا خاصا لا دخل للحياة العامة فيه، وفي المقابل أصبحت حياة مشاهير المصوَّرين كلأ مباحا، إن لم يتدخل فيه الناس سارعوا هم بكشفه للناس قبل أن تنتقل هذه الآفة لبقية الجمهور الذي غدا باحثا عن بلوغ هذا المقام السامي للشهرة؛ فأضحى يكفي الآخرين مؤنة التجسس ويكشف ما استطاع من حياته الخاصة؛ تارة للتباهي وأخرى لجمع المال.

السينما في هذا الجانب مختلفة لأنها بطبيعتها جمالية انتقائية مصنوعة على يد محترفين والذهاب إليها اختياريا مما يضع مسافة بينها وبين تخمة الصور اليومية الأخرى. هذا بخصوص السينما التقليدية في دور العرض وليس منصات العرض الرقمية التي أصبحت تشارك التلفزيون الوسيط؛ مما جعلها في سلة وسائل الإعلام نفسها من حيث التدفق البصري المستمر.

وفي إطار ذمه فكرة الواقع والواقعية البصرية، ينتقد عبد الرحمن فكرة تلفزيون الواقع قائلا إنه يزعم إعادة بناء الواقع مما يحيل المتفرج إلى متلصص أو متجسس بشكل يتناقض مع الحياء الإيماني الذي يدعو إليه الدين. وهناك بعض المنطق في هذا الرأي إذا طبقناه على برامج معينة في تلفزيون الواقع التي تضع كاميرات مراقبة للمشاركين ترصد حياتهم بشكل فج. أما سينمائيا فلا يمكن التسليم بهذا الرأي، لأن دور الفن بشكل عام هو إعادة هندسة الواقع كالمجاز والاستعارة المكنية في الشعر واللغة بشكل عام.

الفيلسوف والمفكر العربي "طه عبد الرحمن"
الفيلسوف والمفكر العربي “طه عبد الرحمن” (الصحافة المغربية)

وكعلاج لهذه الآفات البصرية الأخلاقية، يقترح عبد الرحمن أن ينتقل مستهلك هذه الصور من مجرد رتبة المتفرج العادي إلى رتبة المشاهد وفق علاقة ائتمان يشعر بموجبها بأنه مؤتمن على بصره وعلى هذه الصور وليس مالكا لها يطلق فيها بصره كيفما شاء. وذلك حتى يصل لمرحلة المشاهدة وعدم منازعة “الإله” الذي اسمه “المصور”، ويدرك أن بلوغ كنه الصورة لا يتم إلا بمعرفة المصور الأعلى، وهي معرفة أدناها العلم به بواسطة أسمائه الحسنى. وهنا تبدو الصورة مهما تزينت لا تمثل إلا ظاهر الأشياء، وهناك حاجة لمعرفة الباطن، وهذه المعرفة لا تتم من دون البصيرة التي تظهر حقائق الأشياء والإيمان هو الذي يدرب هذه البصيرة.

تطبيق هذه الوصفة العلاجية على الحالة السينمائية ليس سهلا ولكنه ليس مستحيلا؛ فما ذكره عبد الرحمن في هذا المقام هو سلوك المشاهد بشكل عام، ويتبقى لنا سلوك صانع الصورة من مخرج وفريق عمل كبير وكيف يصنع عملا ينجو به من فخاخ آفات حضارة البصر.

لقد كان الكاتب الراحل عباس محمود العقاد يقول إن الشعر الأوروبي غير ممتع بذاته، لذلك احتاج دوما إلى موسيقى مصاحبة. أما الشعر العربي فلديه موسيقى داخلية هي القافية والعروض تغنيه عن أي مؤثر موسيقي خارجي. وهنا يحتاج المخرجون لسبر أغوار الثقافة العربية والإسلامية والإنسانية بشكل عام وفق منهج استنطاق المكنونات الجمالية وليس الإبهار البصري وحسب.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.