لا يمكن للطبيب الغزي استقدام زوجته من القطاع للإقامة معه في القدس، وليس من ضمان لعدم تعثر استصدار تصاريح دخوله للقدس بمهنة طبيب مقيم في المدينة، وهو مضطر إلى التعامل مع مستقبل مهني مجهول وظروف غير طبيعية لا يعيشها الأطباء في بلدان العالم الأخرى، بسبب واقع الاحتلال.

القدس المحتلة- في قسم العمليات بمستشفى المقاصد بالقدس، ينشغل اختصاصي التخدير الطبيب ثائر أبو عامر بالمهمة الأولى في الجراحات، ولا يغادر المكان سوى سويعات قليلة كل أسبوع.

وصل أبو عامر إلى القدس عام 2016 بعد أشهر من إنهاء مسيرته التعليمية في تخصص الطب العام بجامعة الأزهر في غزة، وخضع لامتحان ثم مقابلة قبل على إثرهما للتخصص في مجال التخدير بالمقاصد الذي يُعدّ المستشفى التعليمي الأول في فلسطين.

الجزيرة نت رافقت الطبيب ثائر أبو عامر ورفيقه القادم من غزة أيضا خالد الشوّا، في يوم عمل لهما بالمستشفى واطلعت على مسيرتهما التعليمية والمهنية المحفوفة بالمتاعب من القطاع المحاصر إلى القدس.

اختصاصي التخدير الطبيب الغزي ثائر أبو عامر في غرفة العمليات خلال تخدير طفل تحضيرا لعملية قلب مفتوح (الجزيرة)

تجربة ثرية في بعد قسري

ولد ثائر أبو عامر عام 1990 لأم مصرية وأب فلسطيني لاجئ من قرية “يبنا” المهجرة عام 1948 والتابعة لقضاء الرملة، وفي غزة ترعرع وتلقى تعليمه المدرسي والجامعي قبل أن يغادرها إلى العاصمة المقدسة لإكمال مسيرته بتخصص التخدير.

وبمجرد وصوله، فوجئ أبو عامر بالحالات المرضية المعقدة التي تصنف بالخطرة والخطرة جدا التي تصل إلى مستشفى المقاصد من كل المحافظات الفلسطينية كونه المستشفى الفلسطيني التحويلي الأكبر.

وقال إنه تعلّم وما زال يوميا لأن المستشفى يجري مختلف أنواع العمليات الجراحية، ولذا فقد تمكّن من ممارسة كل أنواع التخدير اللازمة لأي عملية ولكل الفئات العمرية.

ويضيف أن “مسيرة التخصص استمرت 5 أعوام، ومع نهايتها اتخذت إدارة مستشفى المقاصد قرارا بتوظيفي في منصب طبيب تخدير مقيم.. لم تكن بداية الطريق مفروشة بالورود في ظل البعد القسري عن عائلتي وزوجتي وطفلي ماجد الذي تمر أشهر من دون رؤيته، لكنني أعلم أن خدمتي لهؤلاء المرضى هي أسمى ما يمكن أن أقدمه، وهذا ما يعزّيني في غربتي”.

4-الطبيب ثائر أبو عامر مع أطباء وممرضين بمستشفى المقاصد يقول إنهم عائلته الثانية(الجزيرة نت)
ثائر أبو عامر (وسط) مع أطباء وممرضين بمستشفى المقاصد يقول إنهم عائلته الثانية (الجزيرة)

ويتنقل أبو عامر بين القدس وغزة بموجب تصريح “دورة تدريبية” يجدده الاحتلال كل 3 أشهر، لكن في ظل الوضع الأمني المتذبذب في فلسطين بشكل عام وغزة بشكل خاص يطول غيابه عن عائلته في القطاع المحاصر.

ولا تسمح إسرائيل لسكان قطاع غزة بدخول المناطق الفلسطينية الأخرى سواء القدس أو الضفة الغربية أو الأراضي المحتلة عام 1948، إلا في حالات محدودة جدا، كما يُمنع أهالي هذه المناطق من دخول قطاع غزة إلا بتصاريح قليلة ونادرة.

ويقول الطبيب أبو عامر “عندما تندلع الحرب في غزة أو يُغلق حاجز بيت حانون (إيريز) لأي سبب كان ينقطع الأمل في الوصول إلى الأهل في القطاع.. وكذلك كان الحال مع وصول جائحة كورونا وما رافقها من إغلاقات دامت أشهرا.. أشعر بانسلاخ عميق عن بيئتي وعائلتي ويعوضني الجو العائلي بين طاقم العاملين في المستشفى جزئيا عن ذلك”.

حلم كل طبيب

يجزم الشاب الغزّي أن أي طبيب فلسطيني لا يمكنه تفويت فرصة التخصص والعمل في مستشفى المقاصد بالقدس؛ نظرا للتجربة العملية المهمة التي تصنع منه طبيبا ملمّا يمكنه التعامل مع الحالات الصعبة في أي زمان ومكان.

وقبل أشهر أتيحت لأبي عامر فرصة العمل في مستشفى إسرائيلي، لكنه تراجع عن توقيع العقد رغم إجراء مقابلة معه وقبوله، “لأن فرصة العمل في مستشفى المقاصد بالقدس لا تُعوّض” حسب رأيه، رغم الالتزامات المالية الخانقة له ولعائلته في غزة.

ولا يمكن لهذا الطبيب استقدام زوجته -التي تعمل طبيبة في غزة أيضا- للإقامة معه في القدس، ولا يمكنه ضمان عدم تعثر عملية استصدار تصاريح دخوله للقدس بمهنة طبيب مقيم في المدينة، ومن ثم فهو مضطر إلى التعامل مع مستقبل مهني مجهول وظروف غير طبيعية لا يعيشها الأطباء في بلدان العالم الأخرى.

في الدقائق المعدودة التي يستريح فيها ثائر بين عملية جراحية وأخرى ينتهز الفرصة للسؤال عن طفله (ماجد) والاطمئنان على وصوله إلى المنزل من المدرسة. وخلال حديثنا معه، لم يهتز صوته بألم سوى عند حديثه عن طفله الوحيد وبُعده عنه.

الطبيب الغزي خالد الشوا أثناء عمله في مستشفى المقاصد بالقدس (الجزيرة)

بين القدس وغزة

في ممرات المستشفى يلتقي ثائر يوميا بصديقه الطبيب خالد الشوّا القادم من مدينة غزة أيضا والذي أوشك على إنهاء مسيرة تخصصه في مجال الجراحة العامة.

وُلد الشوا عام 1992 والتقى على مقاعد الدراسة في جامعة الأزهر بأبي عامر، ولم يعلما حينئذ أنهما سيكونان رفيقين خارج غزة وبعيدا عن الأهل.

يقول الشوا إن أقسى ما يمر عليه هو الأعياد والمناسبات الاجتماعية التي لا يمكنه حضورها في غزة، ورغم محاولات عائلته لملاءمة مناسباتهم مع أوقات وجوده في القطاع فإن هذه الترتيبات لا تنجح دائما.

وعند سؤاله عن أسمى أمنياته، قال “أن أعمل في القدس نهارا وأعود إلى منزل عائلتي في غزة ليلا لتناول الطعام والنوم ثم العودة لمكان عملي في اليوم التالي.. يبدو هذا روتينا طبيعيا في كل دول العالم، لكنها أمنية لي كطبيب غزّي”.

وفي كل تصعيد إسرائيلي على قطاع غزة، تنقلب حياة الطبيبين الشابين. وعن هذا يقول خالد “في أيام الحرب كنت أبقى في غرف العمليات 10 ساعات متواصلة أحيانا، وكنت كل دقيقة أريد التأكد أن عائلتي بخير”.

8-أخصائي الجراحة العامة الطبيب الغزي خالد الشوا في مستشفى المقاصد(الجزيرة نت)
اختصاصي التخدير ثائر أبو عامر (يسار) في مهمة عمل بمستشفى المقاصد (الجزيرة)

ودّعنا هذا الطبيب الهادئ بعد نداء عبر مكبرات الصوت عن وجود حالة طارئة عليه التوجه لمعاينتها، لكن ليس قبل أن يعبّر وصديقه عن سعادتهما بالتجربة، لأن أجمل ما في مسيرتهما العلمية والمهنية هذه وجودهما في القدس وعلى مقربة من المسجد الأقصى المبارك الذي يحلم كل غّزي بزيارته.

وحسب مدير عام مستشفى المقاصد الخيرية الطبيب عدنان فرهود، في حديث للجزيرة نت، فإن نحو 600 طبيب فلسطيني أنهوا تخصصاتهم المختلفة في برنامج الإقامة التخصصي بالمستشفى، و30 طبيبا من هؤلاء قدموا من قطاع غزة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.