تشتهر مدينة دمشق -أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ- بأبوابها السبعة التي شهدت أعمدتها العتيقة على أبرز التحولات التاريخية منذ عصر الإمبراطورية الرومانية وإلى غاية اليوم.

ويحتل بابها الشرقي مكانة مميّزة كونه كان ممرّا للعديد من الشخصيات المؤثرة في تاريخ المنطقة، وتعتبر الحكاية التاريخية التي تشير إلى مصادفة خروج بولس الرسول من هذا الباب مبشرا بالمسيحية إلى العالم في مثل اليوم الذي دخل فيه خالد بن الوليد دمشق فاتحا من الباب عينه بعد 6 قرون واحدة من أكثر الحكايات المثيرة حول تاريخ هذا الباب ومن مروا به داخلين أو خارجين من مؤثّرين وقادة، فما قصة هذا الباب التاريخي؟ وما حكاية بولس الرسول وخالد بن الوليد؟

باب الشمس.. زينة أبواب الهيكل

يشير المؤرخ الفرنسي جان بابليون في كتابه “إمبراطوريات سورية” إلى أن قادة الرومان سرعان ما أدركوا أهمية الموقع الإستراتيجي لمدينة دمشق بعدَ سيطرتهم عليها عام 64 ق.م، فانشغل حكامهم المتعاقبون في تجهيزها دفاعيا وعمرانيا ومعماريا بما يليق بمكانتها وموقعها الإستراتيجي ذاك.

وبنى الرومان أول ما بنوا سورا حجريا أحاط بدمشق من كل جوانبها بغرض حمايتها، والسيطرة على سكانها وتقييد حركتهم دخولا وخروجا خوفا من أن يثوروا على حكمهم الذي عُرف بالجور والطغيان.

مئذنة باب شرقي (أرشيفية-الجزيرة)

وطوّق هذا السور الحجري الضخم أرضا تبلغ مساحتها هكتارا ونصف الهكتار تقريبا -وهي ما تعرف اليوم بدمشق القديمة- وأنشأ الرومان للسور أبوابا ترمز كل منها لعيد من أعياد الهيكل السبعة الرومانية: باب السلامة (القمر)، باب الفراديس الكبير (عطارد)، باب توما (الزهرة)، باب شرقي (الشمس)، باب الجابية (المريخ)، باب الجابية الصغير (المشتري)، باب كيسان (زحل).

وبنيت المدينة الرومانية في دمشق وفق ما يعرف بـ “التخطيط الشطرنجي” وكانت الأبواب السبعة تشكّل المداخل الوحيدة للمدينة، قبل أن تأخذ الأخيرة شكلها المعاصر وتتوسع خارج حدود السور الروماني.

وفي حين فقدت المدينة القديمة بدمشق -بما في ذلك أبوابها- جزءا كبيرا من معالمها الرومانية، فقد ظلّ بابها الشرقي محتفظا بعمرانه وهندسته الرومانية بمدخل كبير في الوسط مخصص للقوافل، ومدخلين جانبيين صغيرين لعبور المارة.

بني الباب الشرقي في عهد الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس وابنه كركلا إبان حكمهما للمدينة خلال القرنين الثاني والثالث من الميلاد، وأصبح لدمشق في عهدهما مقومات المدينة، فتشكّلت فيها التجمعات الحضرية والقبلية وانتشرت فيها الأحياء العربية والآرامية والرومانية والنبطية.

واهتم الإمبراطوران الرومانيان بالعمارة والعمران، فاستجلبوا من مُدن الإمبراطورية أمهر البنائين والحرفيين لتشييد أبواب دمشق السبعة وتزيينها، وكان باب شرقي ثمرة هذا المشروع كما يروي خريستوف تيكسيدور في مؤلفه “الحياة الدينية في سوريا قبل الإسلام”.

ولما كانت الشمس تشرق من جانبه سُمي بباب الشمس، وحفر الرومان في أعلى بابه الكبير نقشا نافرا لقرص شمس متوهجة، غير أن خضوع الباب لعمليات الترميم على مر العصور أخفى معالم ذلك النقش.

ويقع هذا الباب شرق مدينة دمشق وينفتح على الشارع المستقيم -واحد من الشوارع الرئيسية بالمدينة القديمة- الذي يمتد على مساحة كبيرة وصولا إلى الباب الجنوبي للمدينة (باب الجابية).

شام مصطفى_سوريا_دمشق_لقطة للشارع المستقيم تبرز المحال ذات الطراز الدمشقي (أرشيف شخصي)
الشارع المستقيم يشتهر بالمحال ذات الطراز الدمشقي (أرشيفية-الجزيرة)

هرب من الباب الشرقي في سلة ليبشر العالم

عاش الصبي الكفيف طفولته في مدينة طرطوس الساحلية، وعندما بلغ مبلغ الشباب اقتاده أبوه إلى دمشق، فردَّ له القديس يوحنا الدمشقي بصره، فانتقل الصبي إلى المسيحية -وكان يهوديا اسمه شاؤول- فأعطاه القديس اسم بولس، وأصبح بولس الرسول أبرز المبشرين بالديانة المسيحية منذ نشأتها بحسب الروايات التاريخية.

وبدأ الشاب المبصر مهمته التبشيرية من دمشق عام 30 م، ولم يدن أهل المدينة بالمسيحية إلا بعد مرور قرنين على وفاة بولس الرسول، حيث تم إبطال عبادة جميع الآلهة الرومان، وأُمرَ بتدمير جميع المعابد الرومانية والأصنام وشيّدت عوضا عنها الكنائس، وتحول معبد جوبيتر الدمشقي إلى كنيسة القديس يوحنا المعمدان.

ولم يحل القرن الرابع من الميلاد إلا وقد أصبحت دمشق ضمن خارطة الدولة البيزنطية المسيحية، فأقام المسيحيون صلواتهم فيها، وشُيّدت أهم الكنائس الدمشقية التي ما تزال معظمها قائمة إلى يومنا هذا، ومن ضمنها: كنيسة داخل السور، كنيسة المريمية، كنيسة بولس الرسول التي يشاع أنها أقيمت حيث ألقى أصدقاء بولس به وهو مختبئ في السلة.

شام مصطفى_سوريا_دمشق_كنيسة المريمية بالقرب من منطقة باب شرقي (مواقع التواصل)_
كنيسة المريمية بالقرب من منطقة باب شرقي (مواقع التواصل)

وأما عن السلة، فتروي القصة أن بولس الرسول قد وقع ضحية لمؤامرة يهودية بعد مضي 7 سنوات على مهمته في نشر الديانة المسيحية بين سكان دمشق، وكانت مجموعة من اليهود عازمين على قتله، فأبلغوا حكام المدينة بما أتى منه، فعلم بولس بما يُدبر له وهرب متجها إلى منزل يوحنا الدمشقي -كان ذلك في سبتمبر/أيلول 37 من الميلاد- وبمساعدة اتباعه تمكن بولس من مغادرة المدينة مختبئا في سلة قش، فعبر وهو بداخلها الشارع المستقيم كاملا ثم خرج من باب شرقي إلى أورشليم ثم إلى آسيا الصغرى فأوروبا ناشرا المسيحية ومشيّدا الكنائس.

وتشير الروايات إلى أنه تم إعدام بولس عام 67 م على مقصلة في ساحة روما بأمر مباشر من الإمبراطور نيرون على خلفية اندلاع حريق روما العظيم، فكان نيرون كارها للمسيحيين واتهمهم بتدبير الحريق وعلى رأسهم بولس، وما كان من أمر الأخير إلا الهرب إلى إسبانيا ثم العودة إلى الشرق قبل أن يُقبض عليه هناك ويعاد إلى روما ويحكم عليه بقطع الرأس.

شام مصطفى_سوريا_دمشق_محل في باب شرقي على الطراز الدمشقي (أرشيف شخصي)
محل في باب شرقي على الطراز الدمشقي (أرشيفية-الجزيرة)

بعد 6 قرون.. خالد بن الوليد يدخل الباب فاتحا

وبعد حوالي 6 قرون من خروج بولس ناشرا للدين المسيحي من بوابة دمشق الشرقية، وتحديدا في الخامس من سبتمبر/أيلول 635، كانت جيوش المسلمين تحاصر دمشق من بابها الشرقي بقيادة خالد بن الوليد.

وبعد أن تمنعت دمشق بسورها الروماني الحصين، شدَّد المسلمون الحصار ليدفعوا الروم بقيادة توماس زوج ابنة الإمبراطور هرقل للاستسلام، فرفض الأخير معوّلا على تحصينات المدينة والتعزيزات القادمة من حمص لمساندته في مقاومة المسلمين.

غير أن خالد -بشجاعته ودهائه وحنكته العسكرية- تمكن بعد حصار لم يدم طويلا، ومعارك صغيرة انتهت جميعها بانتصار المسلمين، من إيجاد ثغرة مكنته من اختراق المدينة بمساندة قائد الجيش أبو عبيدة بن الجراح، ففتحت دمشق ودخلها المسلمون وعلى رأسهم خالد من بابها الشرقي.

وعرف باب شرقي عمليات ترميم لأعمدته وأبوابه على عهد الدولة الزنكية (1127-1250 م) وبنى نور الدين الزنكي في أعلى الباب مئذنة، وإلى جهة اليسار عند الخروج مسجدا وباشورة لتسيير شؤون التجار والمشترين.

وشهد سكان منطقة باب شرقي -ودمشق عموما- على عهد المسلمين تسامحا دينيا لافتا، فحافظ الخلفاء المتعاقبون على دور العبادة المسيحية واليهودية، وسمحوا لغير المسلمين بممارسة شعائرهم الدينية.

وما يزال باب شرقي واحدا من أبرز المناطق السياحية في دمشق القديمة، والتي يقصدها السياح لزيارة المساجد والكنائس ودور العبادة المختلفة إضافة إلى الطريق المستقيم الذي يضم مجموعة من المحال ذات الطراز الدمشقي الأصيل.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.