مقدمة الترجمة:

أصدرت وزارة الدفاع الأميركية تقريرا في 29 نوفمبر/تشرين الثاني تحذر فيه من تصاعد وتيرة التجارب الصاروخية التي تجريها الصين، إذ أجرى جيش التحرير الشعبي الصيني تجارب صاروخية العام الماضي أكثر من عدد التجارب التي أجرتها دول العالم مجتمعة. في الوقت نفسه، لا تزال بكين تدّعي أحقيتها في السيادة على كامل أراضيها، في إشارة واضحة إلى تايوان. فهل ستُقْدم الصين في أي وقت قريب على خطوة عسكرية؟ وكيف تستعد تايوان لمثل هذا الغزو المحتمل؟ هذا ما يناقشه “بن رودِس”، نائب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، في تقريره المنشور في مجلة “الأتلانتيك” الأميركية.

 

نص الترجمة:

تقع مكاتب الرئاسة التايوانية في مجمع فخم مترامي الأطراف بنته الإدارة الاستعمارية اليابانية في مطلع القرن العشرين. يُعَدُّ ذلك بمنزلة تذكير، في وجه الخطاب العدائي الصادر عن الحزب الشيوعي الصيني، بأن تايوان لم تكن تخضع لسيطرة بكين منذ ما يزيد على مئة عام. حينما وصلتُ إلى مكاتب الرئاسة في سبتمبر/أيلول لإجراء حوار مع الرئيسة “تساي إنغ ون”، خطر لي أن ذلك البرج الضخم ربما يصبح مستهدفا في حال شُنَّ غزو على البلاد.

 

“تساي” هي أول امرأة تتولى منصب الرئاسة التايوانية، وتقضي حاليا عامها السادس في الإدارة. وقد تقابلنا في غرفة فسيحة مُزيَّنة بأزهار الأوركيد وساعة حائط عتيقة. وكانت “تساي” نشيطة وودودة وعملية، وجرت بيننا محادثة قصيرة بينما هَمَمْنا بالجلوس على كرسيين متقابلين. اتسمت “تساي” بثقة متحفظة، ثم أخبرتها عن رغبتي في معرفة كيفية سير الأمور عندما بدا أنها تواجه تهديدا متصاعدا في الفترة الأخيرة، لا سيما بعد “الغزو الوحشي” لأوكرانيا على يد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”. فقد تكون “تساي”، أو أي قائد تايواني آخر مستقبلا، هي النسخة التايوانية للرئيس الأوكراني “فولوديمير زلينسكي”، وستقف حينها في مواجهة الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، أو النسخة الصينية لبوتين في ذلك السيناريو. تقول تساي: “واقعيا، قد يحدث ما جرى لأوكرانيا لنا، ولذا علينا أن نستعد”.

الرئيسة التايوانية “تساي إنغ ون” (Getty)

لقد وضع القدر كلًّا من تايوان وأوكرانيا في مواقف متشابهة. فكلتاهما لهما جارة عظمى كانت تحكمهما كمُستعمرة في وقت سابق، وقد مرت كلتاهما بتحولات ديمقراطية، ومن ثمَّ أصبحتا تُشكِّلان خطرا أيديولوجيا على المستبدين الذين طالما طمعوا في أراضيهما. ومثلما جعل بوتين مشروعه السياسي متمحورا حول محو سيادة أوكرانيا، فإن “شي” تعهَّد بتوحيد الصين وتايوان، ولو بالقوة. ويتطلب الوضع الراهن من “تساي” تحقيق توازن حذر: الاستعداد للحرب مع السعي إلى تجنُّبها.

 

تختار “تساي” كلماتها بعناية، وتُبدِي رضى عن الدور الذي كلَّفها به التاريخ، كما أنها واعية تماما بمخاطر المشهد. لقد طوَّر الشعب التايواني البالغ قوامه 24 مليون نسمة ثقافته الخاصة المنفتحة والمميزة، وأنشأ مؤسساته الديمقراطية على مرّ السنين، ولدى “تساي” موقف جريء تجاه الصين وجيش التحرير الشعبي، فقد أوضحت لي أن الشعب التايواني لن يقبل التخويف، وأن بكين عليها ألا تخطئ في تقدير عزيمته: “إذا أراد جيش التحرير الشعبي الإقدام على تحرُّك جذري، فيجب على ’شي‘ أن يفكر مرتين”.

 

بالطبع ستكون أي حرب مع الصين غير متكافئة بالمرة. فقد أشارت “تساي” إلى أن الهيئة التشريعية في البلاد وافقت مؤخرا على مضاعفة موازنة الدفاع، إذ إن تايوان في طريقها حاليا لإنفاق أكثر من 19 مليار دولار أميركي في مجال الدفاع عام 2023. هذا وتنفق الصين أكثر من 200 مليار دولار أميركي على البند نفسه سنويا، وهو ما أثار دعوات لتغيير أولويات تايوان الدفاعية. فبدلا من بناء معدات تقليدية ضخمة (طائرات ودبابات وغواصات)، حثَّ الخبراء العسكريون تايوان على التركيز على ما يُسمَّى القدرات غير المتماثلة (الأسلحة المضادة للسفن والصواريخ الأرض-جو ومخزونات الأسلحة الصغيرة والذخائر)، التي أفادت أوكرانيا في صدِّ الغزو الذي تشنه دولة أكبر منها. وجنبا إلى جنب مع قوات احتياطية مدنية أكبر، قد يرفع ذلك من تكاليف أي غزو تشنه الصين ارتفاعا كبيرا. وقد أُطلق على هذه الإستراتيجية اسم مستعار في أوساط المؤسسات الدفاعية حول العالم هو “إستراتيجية القُنفذ”.

 

في غضون ذلك، تصاعد سلوك الصين التهديدي. فقد عبَّر المسؤولون الصينيون مرارا عن رؤيتهم بتبعية مضيق تايوان كاملا للصين، وأنه وضع نافذ في نظرهم، ولذا تخترق الطائرات الحربية الصينية باستمرار منطقة الدفاع الجوي التايوانية. ففي أثناء التدريبات العسكرية التي أُجريت بعد زيارة “نانسي بيلوسي”، رئيسة مجلس النواب الأميركي، إلى تايوان؛ ضربت الصين صواريخ فوق المجال الجوي التايواني وطوَّقتها بسفن حربية في مناورة هدفها التلويح بحصار محتمل مستقبلا، وهو أمر ليس هيِّنا بالنسبة لجزيرة تستورد كامل احتياجها من الطاقة تقريبا. ما من حرب حتمية، لكن إن حدث واندلعت فستكون لها تداعيات ستغير العالم، فقد تُقتل هذه الديمقراطية المزدهرة في تايوان، أما الحزب الشيوعي الصيني فإما أن يزداد جرأة وإما أن تتزعزع أقدامه. وبالنظر إلى هيمنة تايوان على صناعة أشباه الموصلات واضطراب العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فإن الاقتصاد العالمي ربما يعاني صدمة أكبر بكثير من تلك التي أحدثتها الحرب في أوكرانيا. ولعل الولايات المتحدة تنجر إلى أول صراع عسكري مباشر مع قوة عظمى مسلحة نوويا.

 

تايبيه.. الحرية بدون الاستقلال

TAIPEI, TAIWAN - SEPTEMBER 29: A CH-47 hoists a Taiwan flag fly across the city during a rehearsal ahead of Taiwan National Day celebrations on September 29, 2022 in Taipei, Taiwan. The U.S. Vice President, Kamala Harris, said the Biden administration intends to deepen America’s unofficial ties with Taiwan during a speech from the deck of a U.S. warship in Japan. (Photo by Annabelle Chih/Getty Images)
اندفعت الصين في أكثر من مرة متجاوزة الخط الأوسط في المياه بين تايوان والصين، وتصاعد عدد المرات الذي وصلت فيه طائراتها إلى منطقة الدفاع الجوي التايوانية (غيتي)

ظلت صفة تايوان الرسمية غير محسومة طيلة عقود، فلم تكن تلك الدولة مستقلة ولا هي جزءا من جمهورية الصين الشعبية. وقد عاش سكان تايوان واقعا هشا يصنعه الدبلوماسيون باستمرار، حيث قضى العُرف الدولي على تايوان بالآتي: ألا تعلن الجزيرة الاستقلال، وألا تشن الصين غزوا، وألا تعلن الولايات المتحدة بصورة قاطعة إذا ما كانت ستنخرط في صراع حال اندلاعه.

 

أما نوع الدعم الذي تحتاج إليه تايوان حاليا لدرء الصراع أو الدفاع عن نفسها حال اندلاعه فهو محل نقاش متزايد في تايبيه وواشنطن. وقد كانت المرة الأخيرة التي واجه فيها مضيق تايوان أزمة عسكرية عام 1995، قبيل أول انتخابات رئاسية ديمقراطية في تايوان، إذ أطلقت الصين صواريخ بهدف الاختبار، وأجرت تدريبا تجريبيا لغزو برْمائي. وردَّت الولايات المتحدة حينها بإرسال مجموعة من حاملات الطائرات وغيرها من القطع البحرية إلى المنطقة، مستعرضة تفوقها العسكري الهائل. بيد أن الأمور تغيَّرت منذ ذلك الحين، إذ تمتلك الصين حاليا أكبر قوة بحرية في العالم، بأكثر من 350 سفينة وغواصة. وبالنسبة لقوتها الصاروخية فإن ترسانتها من الصواريخ الأرضية الأضخم في العالم، وستظهر في أي حرب تندلع مع تايوان.

 

أيَّد الأدمرال “لي تشي مينغ”، قائد الجيش التايواني بين عامي 2017-2019، التحوُّل إلى القدرات العسكرية غير المتماثلة، وكرَّر مرارا تحذيراته بأن تايوان لا تُسرِع في استعداداتها على نحو كافٍ، بيد أن تحذيراته لا تؤخذ بجدية. وعلى غرار مسؤولين آخرين تحدثت معهم وما زالوا في مناصبهم بالحكومة، ينظر الأدميرال إلى الرد الصيني على زيارة بيلوسي بوصفه خطوة جديدة في سعي الصين نحو تأسيس “وضع طبيعي جديد”. وقد اندفعت الصين في أكثر من مرة متجاوزة الخط الأوسط في المياه بين تايوان والصين، وتصاعد عدد المرات الذي وصلت فيه طائراتها إلى منطقة الدفاع الجوي التايوانية. إن الصين تنخر باستمرار في السيادة التايوانية، ومن ثمَّ ستمتلك تدريجيا بحكم الأمر الواقع السيادة على مجالها الجوي ومياهها.

US House Speaker Nancy Pelosi in Taiwan- - TAIPEI, TAIWAN - AUGUST 3: (----EDITORIAL USE ONLY - MANDATORY CREDIT - "TAIWANESE PRESIDENTIAL OFFICE / POOL" - NO MARKETING NO ADVERTISING CAMPAIGNS - DISTRIBUTED AS A SERVICE TO CLIENTS----) US House Speaker Nancy Pelosi meets Taiwan’s President Tsai Ing-wen in Taipei, Taiwan on August 3, 2022. US House Speaker Nancy Pelosi met with Taiwan’s President Tsai Ing-wen Wednesday after visiting the island nation's legislature amid persistent warnings by Chinese officials. Tsai conferred Taiwan’s civilian award the Order of the Propitious Clouds with Special Grand Cordon on Pelosi.
رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي” ورئيسة تايوان “تساي إنغ ون” في تايبيه (الأناضول)

يفرض هذا “الوضع الطبيعي الجديد” تحديات على تايوان والولايات المتحدة. فقد تتفوَّق قوة الصين العسكرية التقليدية على دفاعات تايوان الجوية والبحرية، وأيضا قد تتحرك الصين بسرعة لمنع الولايات المتحدة من دخول الجزيرة، ومن ثم قطعها عن العالم الخارجي بحرا وجوا. يقول “لي تشي مينغ” إنه من ناحية سياسية، تُعَدُّ رسالة الصين إلى الولايات المتحدة وتايوان بسيطة: “يمكنني أن أفعل ما يحلو لي في تايوان، وما من شيء يمكن أن تفعله الولايات المتحدة حيال الأمر”. ورَدَت هذه الرسالة بصراحة ووضوح في وثيقة بيضاء أصدرتها بكين في أغسطس/آب ونصت على ما يلي: “أولا، تايوان جزء من الصين”، و”ثانيا، جهود الحزب الشيوعي الصيني لتحقيق التوحيد الكامل للصين راسخة”، و”ثالثا، التوحيد الكامل للصين عملية لا يمكن إيقافها”.

 

يُشير الأدميرال إلى اثنين من السيناريوهات المحتملة. ينطوي الأول على نهج يهدف للإخضاع تُطوِّق فيه الصين تايوان وتضغط عليها، وربما حتى تستولي على الجزر البعيدة ومن ثم تشن ضربات صاروخية. وينطوي السيناريو الثاني على غزو شامل. ومع الأخذ في الاعتبار أن الصين غالبا ما ستعاني من العواقب الدولية ذاتها في حال شنت حرب استنزاف أو في حال شن غزو صريح، فقد عبَّر “لي تشي مينغ” عن قلقه من احتمالية أن تقرر بكين أن سيناريو الغزو منطقي أكثر. ويزداد الأدمرال “لي” إحباطا من مشتريات تايوان المستمرة لأنظمة الأسلحة الضخمة، مثل الطائرات والسفن، ويجادل بأن الأمر لا يستحق محاولات مواكبة التفوق العسكري الصيني في الأسلحة التقليدية. ولنضرب مثالا واحدا على ذلك: في حال اندلعت الحرب، يمكن للصواريخ الصينية تدمير المدارج في تايوان، ما يجعل تلك الطائرات باهظة الثمن هي والعدم سواء.

 

يقول الأدمرال “لي” إن تايوان ربما تعجز عن صدِّ الغزو، لكن يمكنها منع الصين من إخضاع البلاد. ويستلزم ذلك سلب الصين قدرتها على السيطرة على مساحات المعركة، حيث إن الصينيين لم يحاربوا منذ عدة عقود، كما تمتلك تايوان مزايا جغرافية منها وفرة الجبال وقلة الشواطئ المناسبة لعمليات إنزال برْمائية. أما أسلحة مثل الصواريخ المضادة للسفن، والأسلحة المضادة للدبابات، والصواريخ الأرض جو المحمولة، والطائرات المسيرة، والمدفعيات بعيدة المدى، بالإضافة إلى الأسلحة الصغيرة، فيمكنها جميعا إلحاق الدمار والفوضى بقوات الصين، بالإضافة إلى تخريب سلاسل الإمداد الضرورية لمواصلة جهود الاحتلال. ويشير الأدميرال إلى أن السكان المدنيين في تايوان يجب تدريبهم وتنظيمهم في قوات دفاع إقليمية، بحيث تُوَاجَه أي محاولة للاحتلال بمقاومة على أوسع نطاق ممكن: “ما دامت الصين فشلت (عسكريا)، فإن تايوان تُعَدُّ الفائزة بالحرب”.

 

اتضحت فوائد هذا النهج أكثر بعد “العملية العسكرية الخاصة” المفجعة التي شنتها روسيا على أوكرانيا. ويتطلب هذا النهج تحولا مستمرا في عقيدة تايوان الدفاعية، وهو تحوُّل شجَّعت عليه إدارة بايدن، وتجلَّى في صفقة بيع الأسلحة الأميركية إلى تايوان في سبتمبر/أيلول بقيمة 1.1 مليار دولار أميركي، التي تضمَّنت عددا كبيرا من صواريخ “هاربون” المضادة للسفن، وصواريخ “سايدْوينْدِر” الأرض-جو والجو-جو.

بأسلوبها المدروس والتدريجي، وجَّهت “تساي” جزءا من الإنفاق الدفاعي في هذا الاتجاه، وعبَّرت عن دعمها لتدريب المدنيين على مهارات غير عسكرية مثل “الدفاع المجتمعي والإسعافات الأولية والوعي المعلوماتي”. وبالنظر إلى أن الصين تُعَدُّ الوجهة التجارية والاستثمارية الأكبر بالنسبة لتايوان، تعمل “تساي” على تنويع الاقتصاد التايواني لجعله أقل اعتمادا على السوق الصيني، وقد أطلقت محادثات تجارية جديدة مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى السعي نحو التجارة والاستثمار في جنوب شرق آسيا. كما أنشأت “تساي” وزارة للشؤون الرقمية وعزَّزت الدفاعات السيبرانية لصد الاختراق الصيني وحملات التضليل المستمرة. وفي تذكير ذي مغزى، تحدثت الرئيسة التايوانية بصراحة عن هيمنة جزيرتها على صناعة أشباه الموصلات المتطورة -إذ تنتج تايوان 90% منها- وهو ما تطلق عليه “درع السيليكون”، فأي حرب ستَحِد من إمدادات هذه الصناعة تستدعي الوبال والخراب على بكين.

 

الدرس الأوكراني

بالطريقة التي ابتلع بها “شي” هونغ كونغ، فقد أثبت أن من المستحيل تكرار النهج نفسه مع تايوان. بيد أن مصير أوكرانيا يُثبت أن الجار القوي لديه المزيد من الخيارات المتطرفة. إن المزيد من القادة في المنظمات المدنية والصحافة يتعلمون التحدث بالإنجليزية حتى يستطيعوا التواصل على نحو أفضل مع العالم الخارجي (على غرار ما فعل الأوكرانيون منذ فبراير/شباط الماضي)*. هذا ويظل السيناريو الأفضل بالنسبة لتايوان تجنُّب الحرب والحفاظ على الوضع الراهن المتسم بالغموض، وهو ما يتطلب انضباطا كبيرا على صعيدَيْ التصريحات الرئاسية والمعاملات الاعتيادية مع العالم الخارجي.

 

لقد وُلِدَت الرئيسة “تساي” في ظروف متواضعة، وتمتد جذور عائلتها عميقا في تايوان، إذ تنحدر جدتها لأبيها من إحدى قبائل السكان الأصليين للجزيرة، وهي قبيلة “بايوان”. وتخرجت “تساي” في كلية الحقوق، وعملت أستاذة في القانون بالجامعة لفترة، وبدأت حياتها السياسية بتقلُّد مناصب حكومية مختلفة في التجارة والعلاقات مع الصين حتى انضمت إلى الحزب الديمقراطي التقدمي عام 2004. وقد عملت على تماسك واستمرار الحزب بعد فضائح فساد، وقادته نحو الفوز في انتخابات الرئاسة عام 2012، بعد خسارة سابقة بفارق ضئيل.

Taiwan's President Tsai Ing-wen speaks at the pre-election campaign rally ahead of mayoral elections in Taipei, Taiwan, November 12, 2022. REUTERS/Ann Wang
عملت “تساي” على تماسك واستمرار الحزب الديمقراطي التقدمي بعد فضائح فساد، وقادته نحو الفوز في انتخابات الرئاسة عام 2012، بعد خسارة سابقة بفارق ضئيل (رويترز)

تحدثت “تساي” عما تعلمته من أوكرانيا. أحد هذه الدروس ببساطة هو الحاجة إلى دعم دولي للدفاع عن نفسها أو حتى ما هو أفضل من ذلك؛ تجنب الحرب من الأساس: “تساعد البلدان الغربية أوكرانيا، لا سيما الولايات المتحدة. ما نراه في حرب أوكرانيا هو اجتماع دول غربية مع بعضها لمساعدة أوكرانيا في القتال”. ولكن لأن تايوان جزيرة، فسيكون من الصعب التزوُّد بالإمدادات في حال وقوع أعمال عدائية، ولذا فإن تايوان تحتاج إلى الدعم من الآن. لم تدخل الولايات المتحدة الحرب بعد الغزو الروسي، لكنها قدمت لأوكرانيا أسلحة ضرورية وإمدادات ومساعدات لموازنة الدولة.

 

ثمَّة درس آخر من أوكرانيا هو أهمية الشخصية الوطنية، تقول “تساي”: “تحتاج إلى أن يكون لديك قائد جيد، لكن الأهم هو عزيمة الشعب للدفاع عن نفسه، وهو ما أظهره الشعب الأوكراني”. تُعَدُّ هذه العزيمة أساسية لمثل هذه النقلة النوعية التي يدعو لها الأدميرال “لي”. إن أي بلد كلما أعدَّ لمقاومة غزو مُحتَمَل، خاطر بإصابة شعبه بالذعر، وزادت التحديات التي يُدرك أن عليه مواجهتها. ولذا تحتاج تايوان في رأيه إلى ضمان توفير أنظمة الأسلحة الصغيرة والمحمولة لمواجهة أي هجوم تشنه الصواريخ الصينية، علاوة على خطط للتأكد من أن الحكومة ستكون قادرة على التواصل مع شعبها في حال تعطَّلت أشكال التواصل التقليدية، بالإضافة إلى أولوية حماية البنية التحتية الحيوية، وصدِّ الهجمات السيبرانية، وتخزين الغذاء والمياه، وإلغاء مركزية شبكات الكهرباء.

 

مع ارتفاع احتمالية اندلاع الحرب، تغيرت أيضا مواقف التايوانيين. فقد أظهر استطلاع رأي بعد غزو أوكرانيا انخفاض نسبة التايوانيين الذين يتوقعون إرسال الولايات المتحدة قوات في حال اندلاع الحرب من 57% إلى 40%، بينما قال 73% إنهم سيقاتلون للدفاع عن أنفسهم. وبالنظر إلى الفارق الذي شكَّلته السنوات الثمانية التي قضاها الأوكرانيون في التدريب، يعتقد كثيرون أنه يجب رفع مستوى التدريب في تايوان. ومع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة لديها اتفاق رسمي يقضي بمساعدة تايوان في الاستعداد للدفاع عن نفسها؛ فإن تدريب التايوانيين سيكون استجابة منطقية تتماشى مع الالتزامات الأميركية الحالية. في المقابل، قد ترجح التدريبات العسكرية المشتركة دورا للجيش الأميركي يتعدى مجرد تجهيز تايوان للدفاع عن نفسها.

Military training in Taiwan- - HSINCHU, TAIWAN - MARCH 25: Soldiers attend the Taiwanese army special command training session at a camp base in Hsinchu, Taiwan on March 25, 2022.
جنود يحضرون دورة تدريب قيادة خاصة للجيش التايواني في قاعدة معسكر في هسينشو ، تايوان (الأناضول)

يمكن للولايات المتحدة أيضا اتخاذ خطوات غير عسكرية. فعليها بذل كل ما تستطيع لتعميق وتنظيم الانفتاح الدبلوماسي مع الصين حول تايوان، أي تجنب حادثة يترتب عليها تصعيد، بالإضافة إلى إدارة التوترات. وتستطيع الولايات المتحدة أيضا توسيع علاقاتها التجارية مع تايوان لتقويتها في وجه الضغط الصيني، ولتضمينها أكثر في سلاسل توريد آمنة. وبما أن الولايات المتحدة تتبنى الصناعة الأميركية المحلية لأشباه الموصلات، فيمكنها إقامة شراكة مع تايبيه لتجنب إضعاف تايوان. كما يمكن للولايات المتحدة العمل على المستوى الدبلوماسي لزيادة تعاون تايوان مع بلدان ديمقراطية أخرى في قضايا عملية تمتلك تايوان خبرة فيها، مثل الصحة العامة والأمن السيبراني ومكافحة التضليل المعلوماتي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن توضح الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات للصين العواقب الاقتصادية بالغة الأثر -بما فيها العقوبات- التي قد تنهال عليها بمجرد اتخاذ أي خطوة للاستيلاء على تايوان بالقوة.

 

أوضح وزير الخارجية التايواني “جوزيف وو” ضرورة أن تواجه تايوان عُزلتها الدبلوماسية عن طريق تعزيز الديمقراطية، كما أحرز تقدُّما ونجاحات في أوروبا، حيث أظهرت بعض البلدان رغبة في رفع التعاون مع تايوان. وقد حدثني قائلا: “التعاون قائم بيننا، لا سيما مع بلدان وسط وشرق أوروبا، فهي بلدان حكمها الشيوعيون ومن ثمَّ تدرك الصعوبات التي ينطوي عليها التهديد من دولة سلطوية”. ليتوانيا مثلا واجهت رد فعل غاضبا من الصين بعد أن سمحت الأولى لتايوان بافتتاح مكتب دبلوماسي لها في العاصمة “فيلنيوس”. ولعل هذه خطوة صغيرة، لكنها ترفع من الروح المعنوية في تايوان. وبحسب ما قالته لي “شاو بي-كيم”، الممثلة الدبلوماسي لتايوان في واشنطن: “إذا أخبرت الناس في شوارع تايوان أنك ليتواني، فستلقى تقديرا كبيرا في التعامل معك”.

 

ومع ذلك، فإن هذه الانتصارات الصغيرة لا تبرز سوى حجم التحدي. فقد استخدم “وو” بنفسه مصطلح الحرب المعرفية لوصف طبيعة الضغط الشامل الذي تمارسه الصين على تايوان: “إنهم يستخدمون الصواريخ، والطائرات الحربية، والسفن المقاتلة، والتضليل المعلوماتي، والهجمات السيبرانية، والإكراه الاقتصادي”. وفي خطوة مقلقة، حظرت الصين مئات من المنتجات الواردة من تايوان: “لقد زعموا أن محاصيل المانجو لدينا ثبت بالتحليل إصابتها بكوفيد-19. لا أعتقد أن من الممكن إجراء تحليل ’بي سي آر‘ للمانجو (متهكِّما)، وبسبب الضغط الصيني انخفض عدد البلدان التي تربطها بتايوان علاقات دبلوماسية إلى مستوى غير مسبوق يتمثل في 14 بلدا فقط”، هكذا تحدَّث وزير الخارجية التايواني.

 

الدفاع التايواني في عالم الإنترنت

CHIANG MAI, THAILAND - Oct. 28,2018: Man holding HUAWEI with LINE apps on screen. LINE is a new communication app which allows you to make free voice calls and send free messages.
“لاين” موقع التواصل الاجتماعي المنتشر في تايوان (شترستوك)

في واحدة من الليالي الأخيرة التي قضيتها في تايبيه، قابلت امرأة في مطلع الثلاثينيات من عمرها تُدعى “بيليون لي”، وهي مديرة مساعدة في “كوفاكتس”، منظمة متخصصة في التحقق من صحة المعلومات وتعزيز محو الأمية الرقمية. تعمل “كوفاكتس” بالاعتماد على شبكة من المصادر الخارجية مكونة من أكثر من 2000 متطوع، وأجرت المنظمة 90 ألف عملية تحقق من المعلومات تقريبا، معظمها من خلال “لاين”، موقع التواصل الاجتماعي المنتشر في تايوان. وقد سألتها عن السرديات التي تروجها بكين وصاحبت غزو أوكرانيا، وبدت سرديات تآمرية شبيهة بتلك الصادرة عن موسكو. وقالت “بيليون لي”: “انتشرت سردية تقول إن الولايات المتحدة كانت تطور أسلحة بيولوجية في أوكرانيا، وإن تايوان ستكون التالية لو استمرت في شراء الأسلحة الأميركية. وتداخلت هذه السرديات مع أخرى سمعت عنها من تايوانيين آخرين مفادها أن أوكرانيا أثبتت أن الأميركيين لا يوفون بوعودهم، فلم يرسل الأميركيون قوات للدفاع عن شعب أبيض في أوكرانيا، ومن ثمَّ فلن يرسلوا قواتهم أبدا للدفاع عنكم”. كما أشارت “لي” إلى أن جيلها تطورت لديه مناعة مضادة لمثل هذه الحملات. بيد أن الصين تركز على السكان الأصغر سِنًّا أيضا من خلال تطبيقات صينية مثل “تيكتوك”.

 

بعد عشاء سريع تناولنا فيه طبقا من “شعيرية (نودلز) السوبا” (طبق آسيوي)، مشينا مسافة قصيرة وصلنا فيها إلى زقاق صغير يُفضي إلى شارع رئيسي مزدحم، حيث قابلنا الشاب “جونسون ليانغ”. أخرج “ليانغ” مفتاحا معدنيا كبيرا لفتح باب مكتب مشترك للعمل، وخلعنا أحذيتنا ودخلنا غرفة اجتماعات خلفية. قدمت “لي” كعك القمر، بينما أوصل “ليانغ” الحاسوب المحمول بجهاز العرض الضوئي الذي عرض أمامنا شاشة حاسوبه المحمول على حائط أبيض. أوضح الاثنان أنهما عملا على تطوير أداة تُمكِّن المدققين في صحة المعلومات من مقارنة الصور والبيانات المنتشرة بمحتوى مشابه على الإنترنت، ما سيُسهِّل العملية الشاقة المتمثلة في تمييز الحقائق من الأكاذيب.

 

بينما كانوا يتحدثون عن عملهم؛ تفقدتُ آخر المعلومات التي جرى التحقق منها، وانطوت إحداها على خطاب طويل زُعِم أنه منسوخ عن تسجيل خاص للرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” وهو يتحدث مع دبلوماسيين في باريس، مُلقيا باللوم على الولايات المتحدة في كل مشكلات العالم. وقال ماكرون بحسب الخطاب المنسوب إليه: “علينا الاعتراف أن الصين وروسيا حققتا نجاحات كبيرة على مدار سنوات وتحت أشكال مختلفة من القيادة”. جلست هناك أقرأ رسالة تلو الأخرى، حيث نُشِرَت جميعها في غرف دردشة مغلقة، وهدفت إلى استمالة عقول التايوانيين نحو نظرة بكين للعالم (واتضح أن جميعها أحاديث مُفبركة)*.

 

خرجت أتمشى في شوارع تايبيه المكتظة بالبشر والإعلانات النابضة بالحياة. تزاحم المرتحلون يوميا ممن عملوا حتى وقت متأخر على القطار المُعلَّق. هناك جماعات من المراهقين تعلو ضحكاتهم على نواصي الشوارع، وجميعهم عاديون للغاية. ولكن مع ذلك، للحفاظ على حياتهم على هذا النحو، على تايوان أن تجد خليطا ما بين النهجين اللذين سمعت عنهما: الاستعداد للحرب مع محاولة تجنبها في آنٍ واحد، أي الحديث مع الصين دون الخضوع لها، والتقارب أكثر مع الولايات المتحدة دون التحوُّل إلى قطعة شطرنج على لوحة لعبة كبرى، والميل ناحية الديمقراطية الفتية دون السماح للانقسامات بإضعافها، وترسيخ هوية فريدة دون التحوُّل إلى بلد مستقل.

TAIPEI, TAIWAN - NOVEMBER 26: Taiwan President Tsai Ing-wen gives a speech at a press conference after casting her ballots in local elections amid tensions with China on November 26, 2022 in New Taipei City, Taiwan. Taiwan holds local elections to appoint mayors, councillors and magistrates in several counties on Saturday. The local elections are a litmus test for the popularity of the ruling DPP as young candidates including the grandson of Chiang Kai-shek, Chiang Wan-an, seek to turn the tide. (Photo by Annabelle Chih/Getty Images)
تؤكد الرئيسية التايوانية بالقول: “عندما نكون أقوياء، مرنين، وجديرين بالثقة، سوف يرى الناس قيمنا ويتأكدون أننا جديرون بالدعم” (غيتي)

حينما عدت إلى الفندق الذي أُقيم فيه، كان عليَّ النزول أربعة طوابق في مواقف السيارات حتى أتمكن من الدخول، وهو ما ذكرني بشيء قالته لي “إميلي وو”، الإذاعية التايوانية الشابة. تُجري تايوان تدريبات سنوية على الغارات الجوية، والآن أصبح الشعب يأخذها بجدية أكثر، وقد اعتُبِرت مواقف السيارات الموجودة تحت الأرض ملاجئ مثالية للناس. وقفت أنظر إلى المساحات الواسعة المهجورة نوعا ما في موقف السيارات من حولي، وهو مشهد اعتدت رؤيته، لكن اختلفت نظرتي له الآن.

 

قالت الرئيسة “تساي” في حواري معها: “ما أريد تحقيقه هو جعل تايوان أكثر قدرة على الصمود على الصعيدين الاقتصادي والعسكري”. من الممكن أن تنظر متخوفا إلى مثل هذا النوع من التحفيز التدريجي للمجتمع، مع الافتقار إلى انفتاح دبلوماسي على الصين، على أنه قوة دافعة خطيرة قد تدفع أكثر فأكثر باتجاه وقوع النزاع. لكن مع أسلوب “تساي”، شعرت أن ذلك الصمود يخدم أهدافا عديدة، فذلك المجتمع الذي يُرسِّخ لمحو الأمية الرقمية بين المواطنين ويجهزهم للطوارئ هو مجتمع أقوى، تماما مثلما سيكون الاقتصاد غير المعتمد كليا على سوق ضخم مجاور له. وحتى جهد بناء ديمقراطية وطيدة يلعب دورا في المشهد، فهو من جهة يعزز علاقة الدوائر المحلية بالحكومة، ومن جهة يساهم في قدرة تايوان على إبرام صداقات مع بلدان ديمقراطية أخرى.

 

في نهاية المطاف، وُلدت أجندة تساي تلك من رحم الضرورة. وتؤكد الرئيسية التايوانية بالقول: “عندما نكون أقوياء، مرنين، وجديرين بالثقة، سوف يرى الناس قيمنا ويتأكدون أننا جديرون بالدعم”. كان السؤال الأخير الذي طرحته على الرئيسة تساي هو ما إذا كانت قد رغبت يوما في أن تحكم بلدا عاديا يعاني من مشكلات طبيعية، بدا لوهلة أنها تقلب الفكرة في رأسها، لكن لم تسمح لنفسها بإبداء أي مشاعر وسرعان ما استدركت قائلة: “من المؤسف أن يكون لديك جار قوي، لكن ذلك يجعلنا أكثر قوة”.

—————————————————————————–

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: هدير عبد العظيم.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.