بيروت – وكأن قدر الشاعر العربي اليوم أن يعيش النكبات والهزائم والانكسارات وأن يتنقل من فاجعة لأخرى من فواجع العالم العربي، فهل يمكن للشاعر أن يقاوم شتى أشكال الألم فيجمعها في صور تحاكي وجوده الإنساني ويعيد التفكير والتأمل في الكون والحياة والموت؟ ومن يمنحه القدرة على إبداع نصوص نابعة من شراسة ما يحدث في العالم ومآسيه؟ كلها أسئلة لطالما خطرت في بال الأدباء والمفكرين.

هذه المشاهد الدامية التي يشهدها الشعراء في أوطانهم تفجر في داخلهم الرؤى التي تتحول إلى كلمات تعبر عن عالم خاص يبتدعونه فيترجمون أصوات المعذبين بلغة طيعة حرة لا يمكن أن تسجنها غصة، من هنا يتشكل أدب الفاجعة أو كتابة المأساة من خارج الحدث، ليبقى صدمة مستمرة عبر الزمان تدعو الأقلام إلى الكتابة واستعادة ما جرى.

ويميز المنظر الأدبي الفرنسي موريس بلانشو في كتابه “أدب الفاجعة” بين ما حدث وبين الكتابة عما حدث وإعادة صياغته بطريقة تعود للأديب، فالفاجعة اليوم لا تحدها حدود ولا ترتبط بثنائية الحرب والسلم وإنما تتجاوز هذه العلاقة نحو رؤية قلما انتبهوا إليها، وهي تقبض على ما لا يمكن أن يبنى إلا بوساطة الكتابة في تعدد أجناسها الأدبية.

فالشاعر مهما استطاع أن يؤكد انتصاره للمعنى الجمالي فهو لا يستطيع أن ينزاح بأي شكل عما تتركه الفاجعة في الاستعارات والمجازات لتكون أحيانا واقعا على الأرض، والسؤال هنا هو: كيف يمكن للغة أن تسعف الشاعر أمام هذه المأساة؟ وهل تكفيه استعارات العالم للتعبير عن هذا الفيض من الحزن أمام هول ما حدث؟ ينتصر الشاعر للحياة في عنفوانه وعمقه وقدرته على تطويع المعاني الكونية ما لم يقف شاخصا أمام ما يحدث، لكن يبقى عليه أن يبحث عن مفردات يستمدها من قعر الحدث وأن يقوم بإعمال مخيلته ويصور ببلاغته ما يحاكي الزمان والمكان.

سنتان على الفاجعة

مرت سنتان على انفجار 4 أغسطس/آب أو انفجار مرفأ بيروت، وقد ظلت الحقيقة مطمورة مع ضحايا ابتلع البحر أشلاءهم، وما زالت مباعث الوجع تلكز القلوب كلما مر اللبنانيون بجانب المرفأ أو بمحاذاة تمثال المغترب اللبناني أو بموازاة مركز إطفائية بيروت، هذه الأمكنة تعيد إلى ذاكرتهم صورا جمعت نفسها بنفسها ولم تلتئم في الوجدان، أما عن قوة التخطي فهي لن تتحقق إلا من خلال جلاء الحقيقة وتبريد القلوب، إنها القوة المستمدة من الحقيقة، كل ذلك تجسد في نصوص الشعراء الذين امتلكوا القدرة على التعبير عن مناطق الأسى لإنتاج الأثر.

مشهدية الرماد المفجعة والدمار وأشكال الموت هي نكبة حقيقية، بل هي صورة أو بروفة عن يوم قيامة مصغر على هذه الأرض، وهي ليست النكبة الأولى، فالمآسي والكوارث كثيرة في الدول العربية.

هذا الانفجار الذي غير ملامح المدينة وحول معظمها إلى ركام مهما أعاد اللبناني إعمارها لن تكفيه السنوات، وستبقى الصور البكر متشبثة في الذاكرة، ليأتي دور الشاعر في قدرته على استعادة الأحداث وصياغتها على أشكال عابرة لحدود الأجناس.

هذه الفاجعة -التي أصابت الأرواح- أربكت جيلا بأكمله، إذ إن صداها سيبقى ظلا يرافق اللبنانيين في المستقبل كلما تم ذكر اسم مرفأ بيروت أو حتى كلما مر الناس في هذه المدينة، وستظل الشظايا في كل وجدان، ولن تقوى لغة في طبيعتها أن تعبر وتحيط إحاطة تامة بالحدث من خلال أي نوع أدبي بهذه المأساة، إننا أمام صدمة يعجز التاريخ عن وصفها، فماذا نقول لأطفالنا عندما يكبرون؟ وما الذي سيكتبه التاريخ في ما بعد؟

ابتعدوا عن نافذتي

في قصيدتها الطويلة الثالثة “بيروت 4 آب/أغسطس 2020” في كتابها “ابتعدوا عن نافذتي” ترجمة هنري زغيب تكتب الشاعرة فينوس خوري غاتا من بلاد الاغتراب وبيروت ما زالت تسكنها وتزلزل قلبها كلما أصابتها كارثة:

لم يكن ما ينذر بالموت الآتي إلى بيروت

ولا أن تتشظى الأبنية

وتصَّاعد من تحت الأرض نداءات مذعورة

وتنجرف الأنقاض مع فتات الوليمة الأخيرة

شاخت الكتب

ولم يبق من الأحياء سوى صورهم معلقة على جدران

لو كانوا يعلمون لكانوا بجلودهم لفوا أطفالهم

لو كانوا يعلمون لزرعوهم في أرض أكثر ثقة ينمون مع عشبها

ولكانوا اندفنوا بأيديهم ليوهموا الموت بما هو أكثر منه موتا

لكانوا أقل ذهولا

ولقالوا لمن كانوا يمشون

إن الأرض هي التي تمشي تحت أقدامهم

فهل يكنس الموتى مع الأنقاض؟

وهل يرمون إلى البحر النابح على الأبواب؟

تستعير الشاعرة صورا شبيهة بتلك التي واكبت الحرب الأهلية اللبنانية، تكتب عن الأنقاض، الصور، الركام، اللعب مع الموت وإيهامه بحقيقة أخرى للهروب خوفا على الحياة، إنه الرحيل بالاستعارات إلى عالم أقل ضراوة وقسوة، كذلك تتجلى الانزياحات التي تجعل القصيدة تفرض نفسها بنفسها لتنضم إلى النصوص التي تعبر عن النكبات والكوارث.

تستمد الشاعرة مفرداتها من معجم الدخان والركام والأنقاض والدمار لتعبر عن هول هذه الفاجعة، ويمكن الحديث هنا أيضا عما كتبته عن غياب الإرادة والغبن اللذين فاجآ الضحايا وأهلهم، فلو كانوا يعلمون لتصرفوا بطريقة أخرى قبل أن تحل عليهم الكارثة.

إذن، تكتب فينوس خوري وكأنها الشاهدة الخارجة من تحت الأنقاض، تصف بدقة تفاصيل الحدث المتوحش عن بيروت التي لم يستطع حضنها أن يحميها، بيروت التي باغتها الموت على عجل فلم تتمكن من أن تحمي أضعف كائنات فيها، منهم الأطفال، فالمصير كان محتما والقرار كان مفروضا عليها، وهي خاضعة لسلطة الأقوى، لقرار التدمير فإذا بنا أمام مشهد جهنمي مسرحه النار والأشلاء والأنقاض والزجاج المتطاير، بل يمكننا القول إننا أمام مجزرة من نترات ونار، إنها شراسة الحدث ومصير جيل بأكمله، الكل يجر سيلا من الدماء وسط مشاهد مرعبة ما زالت محفورة في أذهان اللبنانيين.

عتاب غير يائس

وفي مقاله “الرابع من آب قبل شهر منه” يكتب الشاعر عقل العويط “ها أنا عند قبرك قبل شهر من الرابع من آب، مضى عامان يا بيروت، عامان لا أكثر، لا تزالين في أول القتل في أول الموت، وردتك لن تنبت وفق إيقاع الفصول، والشمس شمسك، لن تشرق بمنطق الليل والنهار، كل من يطلق وعودا كهذه يذر غبارا يؤلم جرحك والجروح، لن أكون مرائيا لأبشرك بحياة قريبة، لن أغامر باقتراح مشروع للقيامة، لست الإناء الكاذب لأعدك بيوم كيوم الأحد أو بمزيج طيب من النبيذ والخبز “بعد بكير، بعد بكير” يا بيروت، فلا يستوليَنّ عليك عتاب يائس ولا تلتهمنَّك رغبة انتحار”.

العويط الشاهد على الحدث بحكم عمله الصحفي في جريدة النهار اللبنانية وكونه يعيش في قلب المدينة كتب من الأعماق عن بيروت التي لطالما تميزت بالصبر، عن الأمل البعيد، وعن الوعود الكاذبة.

إنه يكتب من داخل الجرح، لقد قام بتشخيص المدينة بعظمتها لتصبح داخل قبر بعد كل ما حل بها من دمار وكأنه متشائم بعودتها القريبة إلى الحياة، ويعود الشاعر في إصداره الجديد “البلاد” ليدعو إلى محاسبة الخونة والحكام وتحميلهم مسؤولية ما يحدث.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.