مقدمة للترجمة:

منذ اللحظة الأولى التي أُعلن فيها عن الزلزال الكارثي في جنوب تركيا وشمال سوريا، انطلقت التغطيات الحية في كل مكان وتابعها الملايين، ورغم تتابع المشاهد المؤلمة والقاسية، فإن ذلك لم يمنع الناس من المتابعة، بل في الواقع أصبح المواطن اليوم في أية دولة حول العالم يتوقع تغطيات حية ومستمرة للأحداث الكارثية، فما أهمية هذه التغطيات بالنسبة للجمهور؟ ولِمَ يُقبل الناس عليها بشكل كبير؟

 

نص الترجمة:

كان يوم 17 يناير/كانون الثاني عام 1991 هو نقطة التحول التي بدأ من عندها كل شيء. في ذلك الوقت، احتشدت مجموعة من مراسلي قناة “سي إن إن” (CNN) الإخبارية في أحد فنادق بغداد ليتناقشوا حول ما إذا كانوا سيبقون أم سيغادرون بعدما بدأ القصف الأميركي للعراق. فقد سبق وتفاوضت مؤسستهم الإخبارية قبل بضعة أشهر مع العراقيين على إنشاء خط اتصال خارج البلاد، وبربط هذه الخطوط بالأقمار الصناعية، بدأت تُبَث التغطية الحية في جميع أنحاء العالم، وباتت هذه الدورة الإخبارية المُعتَمِدة على مقاطع الفيديو الحيّة المستمرة على مدار 24 ساعة إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها الثقافة العامة.

 

سرعان ما اكفهرت الأجواء، وازداد حينذاك تلهف الناس في جميع أنحاء العالم إلى التغطيات الفورية لويلات الحرب وما تخلّفه وراءها من قصف للمباني العامة، وحوادث إطلاق النار في المدارس، وأعمال الشغب. وفي بعض الأحيان قد تستغرق هذه الأحداث شهورا حتى تتكشف فصولها، كما هو الحال مع الغزو الروسي لأوكرانيا على سبيل المثال. وبقدر ما ستكون الكارثة عظيمة، سيستمر المراسلون وجمهورهم في متابعة الأحداث لحظة بلحظة.

أضف إلى هذه القائمة حالات الطوارئ المتعلِّقة بالطقس. في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، كان الإعصار إيان يشق طريقه من بورتوريكو إلى ولايتَيْ فلوريدا وكارولينا الأميركيتين. تمكَّن مشاهدو التلفاز من متابعة تلك الأحداث من خلال قنوات البث، وخاصة قناة “Weather Channel” التي تأسست عام 1982، وخاضت خلال سنواتها الأولى غمار معركة ضد الشكوك والسخرية منها. لكن يبقى السؤال الأهم هنا: هل يرغب الناس حقا في متابعة التغطية المتعلِّقة بأخبار الطقس على مدار 24 ساعة، وخاصة تلك المُتعلِّقة بمناطق بعيدة للغاية عن المناطق التي يقطنونها؟

 

إنهم يرغبون في المزيد من التغطيات

الدافع الكامن وراء سعينا الحثيث لمتابعة مشاهد الدمار، ربما يكون نابعا في الأصل من مخاوف أعمق (وأقل نبلا) من مجرد التعاطف مع الضحية. (شترستوك)

اكتشف الباحثون أن الجواب في الحقيقة هو “نعم”، يرغب الناس في فعل ذلك، لأنه كما هو الحال مع الأخبار الأخرى، نحن نتخيل أنفسنا موجودين هناك في خضم الأحداث، نشاهد المراسلين الذين تهب عليهم الرياح مرتدين أحذيتهم الخاصة، ولا بد أن يتصدر المشهد أيضا لقطات للأشجار المقتلعة، والمباني المنسحقة تحت وطأة هذه الكوارث، والسيارات التي تطفو في كل مكان، ويجب ألا تخلو الصورة من الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل والحيوانات الأليفة وهم يُنقَلون إلى بر الأمان. ربما ظاهرة كهذه تجعلنا نبدأ في اجترار أفكارنا وتأملاتنا لنتساءل من جديد: هل تُثير مشاهد الشقاء البشري أو التدهور البيئي في نفوس الناس أحيانا نوعا ما من الشعور بالرضا؟ إذا كان الأمر كذلك، فما السبب وراء هذا يا تُرى؟

 

نحن هنا لا نتحدث بالطبع عن الأفراد المتأثرين تأثرا مباشرا بهذه الأحداث المروعة، كغزو وقصف البلاد، أو مواجهة كوارث الطبيعية كالأعاصير وما شابه، لأن الدراسات النفسية للكوارث تؤكد بطبيعة الحال آثارها المباشرة وطويلة الأمد، إذ يُعاني الناجون من ندوب جسدية ونفسية قد يربضون في كنفها دهورا، لأن المشاهد التي رأوها تترسب في أعماقهم وتستمر في مطاردتهم، فضلا عن الذنب الذي يُثقل كاهلهم لأنهم نجوا عندما لم يتمكن الآخرون من ذلك. أما بقيتنا فنوجد على نقاط مختلفة حول ما سنسميه “دائرة الانخراط”، بعض مَن يقعون على هذه الدائرة لديهم أصدقاء وعائلة يواجهون مع الأسف هذه الكوارث بصورة مباشرة، كما أن عددا هائلا منهم تداهمهم مخاوف بشأن ما إذا كان سيحيق بهم المصير الذي حاق بالضحايا وتطولهم يد الكارثة. لذا تجدهم يراقبون الأحداث ساعة بساعة والقلق يفتك بأعصابهم، ليعلموا أين ستستقر جيوش العدو (في حالة الحرب)، أو أين ستتخذ العاصفة وجهتها التالية.

كلما حظينا بموقع جغرافي أبعد عن الكارثة، تأكدنا أننا لن نلمس آثار الكارثة إلا من خلال عواقبها المتتالية من نقص البنزين، وتأخير المنتجات، وعرقلة خطط السفر، وما شابه ذلك من أمور. لكن مع ائتلاف كل هذه الأحداث، تهتز جوارحنا، ونبدأ في التساؤل عما يحيق بهؤلاء “الذين يُشبهوننا”، وما إذا كان علينا أن نفعل أي شيء لمساعدتهم في هذه الأزمة التي يكابدونها. هذه المشاعر التي تُخامرنا نحوهم هي ما يجب أن تستحوذ علينا، والتلفاز هو أيسر وسيلة للحفاظ على الشعور بالآصرة التي تربطنا بهؤلاء الضحايا. لكن الدافع الكامن وراء سعينا الحثيث لمتابعة مشاهد الدمار، كرؤية مبنى فور هدمه، أو عائلة محاصرة على سطح منزل غمرته المياه، ربما يكون نابعا في الأصل من مخاوف أعمق (وأقل نبلا) من مجرد التعاطف مع الضحية.

 

مشاعر الخوف والشفقة تطهر النفس

تستدر التغطيات الحيّة تعاطفنا وشفقتنا على هؤلاء الأبطال المجهولين الذين يتصارعون مع قوة عاتية، ونستمد الإلهام من جهودهم المستميتة التي يبذلونها في سبيل الهروب من مصيرهم المؤلم وإعادة تأسيس حياتهم.
تستدر التغطيات الحيّة تعاطفنا وشفقتنا على هؤلاء الأبطال المجهولين الذين يتصارعون مع قوة عاتية، ونستمد الإلهام منهم. (رويترز)

وفقا لنظرية “المأساة” أو “التراجيديا” الشهيرة لأرسطو، فإن الجمهور يستمد ارتياحا معينا من المشاهد التي تُثير مكامن الخوف والشفقة في القلوب، كأن يشاهدوا بطل الرواية -الذي يكون شخصا بارزا وطموحا وفخورا بنفسه- مُحاصَرا في ظروف خارجة عن نطاق سيطرة الجميع. يخامر الجمهور ساعتها شعور بالحزن يساعدهم على تطهير نفوسهم، لأنهم بعد التخلص من تلك المشاعر يغادرون المسرح وهم يدركون جيدا أنهم -رغم وفاة البطل- لا يزالون يتمتعون بفرصة متجددة للعيش.

بالطبع تختلف الكوارث في التغطيات الحيّة، لأنها ببساطة تدور حول أناس حقيقيين وليست شخصيات درامية، إنهم بشر عاديون يشبهون المُشاهِد إلى حدٍّ كبير ونتقاسم معهم المخاوف ذاتها. تستدر التغطيات الحيّة تعاطفنا وشفقتنا على هؤلاء الأبطال المجهولين الذين يتصارعون مع قوة عاتية، ونستمد الإلهام من جهودهم المستميتة التي يبذلونها في سبيل الهروب من مصيرهم المؤلم وإعادة تأسيس حياتهم. في لحظات كهذه، تحوم بعض التساؤلات في رأسنا على غرار: كيف كنا سنواجه مثل هذه التحديات لو شاء القدر وطالتنا يد الكارثة بدلا منهم؟ ويراودنا شعور لا ينفك يهمس إلينا بأننا كنا هذه المرة محظوظين كفاية لنجاتنا من الصعوبات التي يواجهها الآخرون الآن.

 

خارج نطاق المألوف

Ramadan al-Suleiman shows a picture on his mobile of pupils playing in his nursery before the quake, as he stands on the rubble of his damaged nursery after the earthquake, in rebel-held town of Jandaris, Syria February 12, 2023. REUTERS/Khalil Ashawi
تلعب التغطيات الحيّة دورا حتميا في تغيير طريقة تفكيرنا إزاء حياتنا، فأقل شيء قد تقدمه إلينا هو جعلنا ننظر بعين تتلمس مواضع الامتنان بكل ما يحيط بها. (رويترز)

تسير حياتنا العادية وفق نسق من الروتين اليومي الذي نكتشف في كثير من الأحيان أننا عالقون فيه، ومع ذلك نقبل هذه المسؤوليات بصدر رحب، فالذهاب إلى العمل، وتربية الأطفال، وتنظيف المنزل، جميعها تكاليف ندفعها من أجل حياة مستقرة ومقبولة. لكن مَن منا لا يتمنى شيئا أكثر إثارة؟ في ضوء ذلك، يوفر لنا مقدمو الترفيه فرصا لتأجيج مشاعرنا. في نهاية هذا الأسبوع يلعب فريقنا الرياضي المفضل، ومساء الخميس يُعرض برنامج تلفزيوني متوقع، وهناك أيضا الحفلات الموسيقية والأفلام والمهرجانات والإجازات، وكلها نشاطات هدفها إضفاء بعض الإثارة إلى الحياة.

 

لكن رغم مشاعر المتعة أو الرضا التي تبثها فينا هذه الأنشطة، فإنها تغدو هي الأخرى مع الوقت أنشطة روتينية نمارسها بمحض إرادتنا، على عكس الكوارث التي تمثل انفصالا تاما عن أي شيء له علاقة بشؤون الحياة العادية. تتوقف حينها العادات السائدة، وتنقلب المفاهيم المعتادة عن المكان والزمان، وتهجرنا معاني الأشياء التي تصلنا بالحياة العادية. في لحظات كهذه، ندرك أن ما نخوض غماره الآن لم يكن ضمن خياراتنا، بل هو شيء خارج إرادتنا، وعلينا تحمُّل عواقبه.

لكن مرة أخرى، نحن لا نناقش وضع الضحايا المنسحقين تحت وطأة الأحداث السياسية أو البيئية، لأن أزمتهم ذات أبعاد أعمق وأشد تعقيدا، لكننا نقصد هنا بقيتنا الذين يتابعون الأحداث من بعيد ويشعرون بأن كارثة كهذه تفصلهم فصلا غريبا وبعيدا عن كل ما هو مألوف بالنسبة إليهم. لكن في النهاية يتبدى الفارق بين مَن هم غارقون في خضم المأساة ومَن يشاهدونها من بعيد إلى أن يكتفوا، ليبقى لهم الخيار فيما بعد، فإما الاستمرار في المتابعة، وإما تغيير القنوات واستئناف حياتهم.

 

ومع ذلك تلعب التغطيات الحيّة دورا حتميا في تغيير طريقة تفكيرنا إزاء حياتنا، فأقل شيء قد تقدمه إلينا هو جعلنا ننظر بعين تتلمس مواضع الامتنان بكل ما يحيط بها، وتبدأ في إحصاء النِّعَم التي تغمرنا، وكثيرا ما نستشعر في ظروف كهذه قيمة الحياة ومدى غرابتها في عدم قدرتنا على التنبؤ بما قد تحمله إلينا، لذا نشرع في إعادة التفكير في طريقة حياتنا وما إذا كان علينا الاستمرار بالوتيرة ذاتها التي تبنيناها طوال الوقت. ولا يقتصر التفكير على حياتنا فقط، بل تسوقنا متابعة الأحداث -على نطاق أوسع- إلى الرغبة في مساعدة هؤلاء الضحايا المنكوبين والتفكير في كيفية فعل ذلك.

 

تُلقي الأحداث الصعبة الضوء على ما تنطوي عليه بواطن البشر من صفات نبيلة، ففي أوقات الكوارث نميل إلى انتقاد المسؤولين السياسيين والجهات الحكومية إذا تباطؤوا في الاستجابة، ونعدّهم المسؤولين عن تفاقم الأزمة، بينما نركِّز اهتمامنا في الغالب على شجاعة السكان المحليين من ضباط الشرطة، ورجال الإطفاء، والطاقم الطبي، وغيرهم من المستجيبين الأوائل الذين يتسابقون نحو منطقة الخطر في الوقت الذي يفر فيه الآخرون. أما الأكثر إلهاما بينهم فهم المواطنون العاديون، أولئك الأقدر على الإحساس بمعاناة الآخرين، فيندفعون في سبيلهم بقوة غريزة مُستحكمة ليركبوا شاحناتهم وقواربهم وينقلون الآخرين إلى بر الأمان، حتى المراسلون في مواقف كهذه يتبدى نبلهم إذا قرروا ألا يرتدعوا عن سبيلهم المحفوف بالمخاطر لنقل صورة صادقة. لذا تبقى العبرة التي يمكن أن نتلمَّسها في ثنايا الأحداث هي أننا “سنتجاوز هذه الظروف ونعيد بناء حياتنا”، فمَن ذا الذي لا يجد إلهاما في ذلك كله؟!

 

إعادة بناء الأواصر

Donations collected in Turkiye's Edirne for quake-hit Southern regions- - EDIRNE, TURKIYE - FEBRUARY 12: People collect packages as part of aid campaign in Edirne, Turkiye to be sent for the victims of the devastating earthquakes after 7.7 and 7.6 magnitude earthquakes hit multiple provinces of Turkiye on February 12, 2023. Early Monday morning, a strong 7.7 earthquake, centered in the Pazarcik district, jolted Kahramanmaras and strongly shook several provinces, including Gaziantep, Sanliurfa, Diyarbakir, Adana, Adiyaman, Malatya, Osmaniye, Hatay, and Kilis. Later, at 13.24 p.m. (1024GMT), a 7.6 magnitude quake centered in Kahramanmaras' Elbistan district struck the region. Turkiye declared 7 days of national mourning after deadly earthquakes in southern provinces.
الشعور بالالتزام المشترك يُنعِش ضمائر الناس الذين غالبا ما تجعلهم الحياة اليومية منغمسين في المساعي الأنانية. (الأناضول)

فرضت الحياة الحديثة على البشر أن ينصب اهتمامهم على أنفسهم وأفراد عائلتهم، أما الجيران فلا تربطهم بهم إلا أوهى الصلات. لكن الكوارث تغيّر من ذلك تماما، يخرج الجميع إلى الشوارع، تتبادل العائلات المساعدات والخدمات، وتَفتح منازلها للآخرين. ويحظى كبار السن والمقعدون بالنصيب الأكبر من قلق الناس، ويبدأ كل واحد من الجيران يسأل الآخر إن اطمئن على السيدة المسنة جارتهم، وهل لديها مَن يعتني بها. حتى الغرباء بمَن فيهم مشاهدو التلفاز يشعرون بالتواصل والارتباط مع هؤلاء الضحايا. يتابع الجميع مشهد وصول المسؤولين، سواء المحافظ أو الرئيس، إلى الموقع المنكوب، وسائل الإعلام الوطنية موجودة، يندفع أوائل المستجيبين من الدول الأخرى ويتصدرون المشهد. مرة أخرى، تتضح الرؤية أكثر، هؤلاء الضحايا أناس مثلنا جميعا، لكنهم يواجهون خطرا شديدا الآن، ولا تعتمد نجاتهم على جهودهم الخاصة فحسب، بل تعتمد أيضا على دعمنا المتضافر لهم. هذا الشعور بالالتزام المشترك يُنعِش ضمائر الناس الذين غالبا ما تجعلهم الحياة اليومية منغمسين في المساعي الأنانية.

نحن الذين ننظر إلى الكوارث من بعيد لا يسعنا إلا أن نختبرها من وراء الشاشات، ومثل أي جمهور، نرغب في رؤية مشاهد تحفيزية وسماع تعليقات صادقة تلامس قلوبنا، وقد نعيد تكرار أشد المشاهد تأثيرا في نفوسنا، نتوقع من المراسلين -وهم الممثلون الرئيسيون للحدث- أن يكونوا منخرطين للغاية في الحدث وشديدي التفاعل ومفعمين بالحيوية، وبمجرد أن تستدير الكاميرا إليهم، لا بد أن يكونوا قادرين على التحدث بأريحية دون عناء أو تردد. في النهاية، نرغب من هؤلاء الوسطاء أن يقودونا خلال الأزمة إلى نتيجة مُرضية مفادها أن الأشخاص المُعرَّضين للخطر سوف يتجاوزون ذلك كله ويستأنِفون سيرهم في الحياة. لعلنا نستمر في متابعة ذلك رغبة منا في أن يوافينا المراسلون بأخبار قادرة على تنظيم أحزاننا ونقلنا إلى أوقات أسعد.

——————————————————————————

هذا المقال مترجم عن Psychology Today ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.