نابلس- “أما آن الأوان للمناضل الفلسطيني بعد 17 عاما من الاعتقال في ظروف وحشية أن يمتلك جهاز ترانزستور (راديو) وأن يحصل على الصحف والمجلات المسموح بها، كذلك الحال بالنسبة للكتب، لا نطالب بالاطلاع على أكثر مما توافق عليه الرقابة العسكرية بما يعني ذلك من تعتيم، ولكن لكم أن تستنتجوا حجم الحصار الثقافي المفروض على إنسان الثورة الفلسطينية”.

أقتبس ذلك النص من كتاب “كباسيل” للكاتب الصحفي الفلسطيني والأسير المحرر، عمر نزال، كونه يحوي أحد مطالب الحركة الأسيرة داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي في بيان وجهته للجماهير الفلسطينية عند شروعها في الإضراب عن الطعام عام 1984.

كان الراديو واحدا من 22 أداة اتصال للأسرى دوّنها نزال في كتابه الجديد “كباسيل.. منافذ الاتصال والتواصل لدى الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي”، وهو خلاصة دراسة علمية جاءت في 188 صفحة من القطع المتوسط.

ويتحدث الكتاب -الذي قدم له الكاتب والأسير المحرر وليد الهودلي، وصدر مؤخرا عن دار طباق للنشر بمدينة رام الله، وأعلن إشهاره بمدينة جنين- عن وسائل تواصل الأسرى بين بعضهم بعضا ومع العالم الخارجي، وأيضا وسائل الاتصال المنظمة التي تقيدها إدارة السجون.

رسم تعبيري عن تواصل الأسرى خلال زيارة ذويهم، في أحد المعارض الفنية التي تحكي معاناة الأسرى بنابلس (الجزيرة)

سر الأسرى وإرادتهم

الكبسولة تجمع -لغةً- على كبسولات، لكن الأسرى اصطلحوا على تسميتها “كباسيل”، وهي رسالة تكتب بخط متناهي الصغر لتتسع لأكبر كم من المعلومات على ورق رقيق يحصل عليه بصعوبة، ثم تغلف بالنايلون وتكوى بالنار، لتصير أشبه بكبسولة الدواء شكلا وحجما.

وتسلم الكبسولة، التي كانت -ولا تزال- الأكثر شيوعا وأهمية لدى الأسرى، للأسير المنوي الإفراج عنه ليبتلعها أو يدخلها كالحقنة الشرجية، ليتم تهريبها خارج السجن، ثم يخرجها عبر التبرز ويسلمها بعد تنظيفها جيدا للجهة المعنية.

وبمقدمة طويلة تحمل في طياتها تفاصيل دقيقة، يمهد لنا الكاتب قبل الحديث عن فحوى موضوعه بالتشويق والسرد حول عمليات الأسر التي بدأها الاحتلال الإسرائيلي منذ احتلاله فلسطين عام 1948، والتي استندت إلى نظام العسكرة الذي يتيح لكل ضابط عسكري الاعتقال من دون إجراءات قضائية على خلفية التظاهر أو توزيع منشورات وطنية أو حتى بداعي حمل جريدة.

ثم يذهب نزال للحديث عن تشكل حالة الوعي بعد عام 1967، وبدء الأسرى بمطالبة إدارة السجون الإسرائيلية بإحضار الصحف وأجهزة الراديو، كصحيفة القدس الفلسطينية التي كانت متاحة آنذاك.

ورغم تنامي مطالب الأسرى وتحت ضغط الاحتجاجات والإضرابات بتنويع إدخال أدوات الإعلام والاتصال من الصحف والكتب والراديوهات، فإن الاحتلال كان يحظر كثيرا منها ويعد الاطلاع عليها وحيازتها خرقا للقانون يعاقب عليه الأسير.

لكن هذا لم يمنع “تهريب” بعضها كالراديو الذي منعته إسرائيل وجعلت بثه مقتصرا على إذاعتها الرسمية “صوت إسرائيل” عبر مكبرات الصوت فقط التي نشرتها بين أقسام السجن حينئذ.

فعالية للتضامن مع الأسير عمر نزال والصحفيين عند اعتقاله عام 2016 (الجزيرة)

الاتصال بكل أشكاله.. تحدثوا مع الجدران

وبين 4 فصول، يوزع نزال كتابه؛ جعل في أولها الإهداء والتقديم والإطار العام للدارسة، ثم عالج في فصليه الثاني والثالث أبرز منافذ الاتصال للأسرى؛ فأدرج تحت فصل “الإعلام المنظم” الصحف الورقية والإذاعات والقنوات التلفزيونية والمضامين الإعلامية والصحافة الاعتقالية التي كان نزال نفسه أحد تلامذتها في حقبة الثمانينيات، والتي تحدث عنها مطولا في دراسته.

في حين تناول الفصل الثالث “منافذ الاتصال البيني” أي بين الأسرى أنفسهم، ومنها تواصل حدوده جدران السجن وآخر طارئ في “البوسطة” (آلية نقل الأسرى) و”المعبار” (سجن الترحيلات) والمحاكم، وثالث تواصل قلمي ورابع رسائل بينية.

وفي فصله الرابع، استعرض نزال وسائل اتصال الأسرى مع الخارج أو “الاتصال الكيفي” بمسمى آخر، ومنها الصليب الأحمر والمحامون وجلسات المحاكم وزيارات الأهالي والرسائل تحت الرقابة، والأخرى خارج الرقابة، والأعمال اليدوية، والأثير، والأسرى المحررون والمعتقلون الجدد، و”الغزال” (الهاتف)، و”سفراء الحرية” (أطفال النطف المهربة).

ثمة عناوين أخرى تتفرع لتحكي بشكل أوسع عن منافذ الاتصال، فتحت عنوان “نقاط بلا حروف” أدرج نزال 3 أدوات لاتصال الأسرى فيما بينهم، كالكلام المرمز، وهي مصطلحات خاصة بالأسرى لا يريدون للسجان معرفتها ككلمة “غيمت” وتعني (تفتيش مباغت) و”بسطر” (بسطار) وتعني ارتداء الأحذية لمواجهة خطر ما.

ويشرح الأسير المحرر قدورة فارس -في مقابلة له- بعض الكلمات التي يتواصل بها أسرى بعينهم، مثل “لنع” وتعني لجنة نضالية عامة، و”قف” ويقصد بها قيادة الفرع، ويقول “كنا نختار كلمات معينة ونضع لها تفسيرا، ويكون لدى كل مسؤول أو مكلف تفسير وفك لهذه الشيفرة”.

وهناك “لغة الإشارة” وتستخدم عندما يتاح التواصل البصري ويمنع الحديث بين الأسرى، إضافة إلى طريقة “الدق” عندما تنعدم الخيارات الأخرى للتواصل، وتستخدم بين الأسرى المعزولين بنغمات وضربات معينة، وقد يكون الدق جماعيا من الأسرى للتحذير من خطر ما.

ويذكر نزال -على لسان قدورة فارس- “3 دقات بمعنى مرحبا، أو دقتين متتاليتين ودقة منفصلة لتعطي معنى آخر، أحيانا ننجح في الفهم وأحيانا لا، حسب الخبرة والفراسة”.

الغزال.. آخر صرعة

وأفرد الكاتب نزال مساحة أكبر للحديث عن منفذ “الغزال” (الاتصال الهاتفي) الذي كان الحصول عليه ضربا من الخيال، ويذكر أنه في منتصف التسعينيات بدأت محاولات تهريب الهواتف. ومع غياب التوثيق الدقيق لأول نجاح بإدخالها للسجون، “فالمؤكد أن عام 1997 استخدمت هذه الهواتف لدى أسرى حزب الله، حيث ضبطت إدارة السجون هاتفا لديهم عام 1999، تبين أنهم كانوا يستخدمونه منذ عامين”.

ولم يفوّت نزال في كتابه تناول معلومات أخرى مهمة، كالحديث عن السجون وعددها -الذي اقترب من 50 معتقلا- وأعداد الأسرى وطرق العقاب كالعزل، واحتياجات الأسرى إلى أبسط مستلزماتهم عبر “الفورة” (ساحة التنفس) و”الكنتين” (دكان السجن).

وأنتج نزال “كباسيل” في دراسة علمية منهجية هدفت إلى تقييم علاقة الأسرى بوسائل الإعلام المتاح الوصول لها بالسجن. واستخدم في دراسته أدوات البحث العلمي، معتمدا على جانبين: أولهما كيفي ويتمثل في لقاء 16 من الأسرى والأسيرات الجدد والقدامى داخل السجن وخارجه، من أمثال بشير الخيري وعائشة عودة وعدنان أبو تبانة، والجانب الثاني كمي، بالاستناد إلى استمارة بحثية تناولت عينة عشوائية مكونة من 56 أسيرا، إضافة إلى 46 مرجعا بحثيا علميا.

الاتصال انتصار

وشرع نزال -كما روى للجزيرة نت- في إنتاج معظم دراسته داخل سجن عوفر الإسرائيلي قرب مدينة رام الله بالضفة الغربية، خلال الاعتقال الأخير له عام 2016، فقد اعتقل 13 مرة بدأت عام 1977 وقضى بموجبها عدة سنوات جلها في الاعتقال الإداري.

ولعل صعوبة الكتابة وتوزيع الاستبانة وتناقل المعلومات بين الأسرى ونقلها للخارج، حيث يمنع الاحتلال ذلك، كان من أصعب ما واجه نزال، إلا أن حاجة الأسير إلى الاتصال بكل أدواته لقهر السجان الإسرائيلي أزالت العراقيل وخففت المعاناة.

ويقول نزال “أراد الاحتلال باعتقال الفلسطينيين ليس عزلهم فحسب، بل قتلهم معنويا ونفسيا وتحطيمهم وتجريدهم من إنسانيتهم، وبالتالي حرمانهم من الاتصال كحاجة بشرية. في المقابل، توحد الأسرى وأبدعوا، بابتكار أشكال عديدة للتواصل فيما بينهم ومع الخارج، لإفشال سياسة الاحتلال، وهكذا ينتصر الأسير”.

و”كباسيل” دراسة علمية شاملة ومتخصصة في موضوع الاتصال ومنافذه، ولم يسبق لأحد أن تناولها، ويزيد من أهميتها الزخم في المقابلات مع الأسرى والبحث العلمي وتغطيتها لفترة زمنية ممتدة منذ عام 1967 حتى الآن، “وهو ما سيجعلها أداة مرجعية لكل الدارسين والباحثين”، وفقا لنزال.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.