بطل قصتنا اليوم غريب نوعا ما؛ دولة لم يكن أغلب سكانها من ضمن المليارات الخمسة التي يجمعها حب كرة القدم في العالم، على الأقل حتى وقت قريب، دولة كان أهلها يُفضِّلون كرة قدم من طراز مختلف؛ فلا هي كرة ابتداء، ولا هي تُلعب بالقدم. أما قصتنا ذاتها فهي عن بوادر التغير في المزاج الجمعي لأهل ذلك البلد، الذين بدأ عشق كرة القدم يتسرب إليهم بالفعل. (1)

 

هناك العديد من الإشارات التي تدل على ذلك. منذ عام 2008 تحديدا، لم يكن يتابع كرة القدم أكثر من 7% من الشعب الأميركي، وكانت رياضة الهوكي حينها تستقطب متابعين أكثر، ولكن تضاعفت هذه النسبة في الفترة ما بين 2008-2013. بالإضافة إلى ذلك، ازدادت أعداد مشجعي دوري كرة القدم الأميركي للمحترفين (MLS) بنسبة 34% عما كانوا عليه، وازداد عدد الفرق من 12 فريقا في 2005 إلى 27 فريقا في 2021، وتمكن من تخطي هوكي الجليد في الشعبية وعدد المتابعين. (1)

 

لم ينتهِ الأمر هنا، بل تطورت شعبية اللعبة لتصبح رابع أعلى لعبة في الولايات المتحدة من حيث المتابعة، على بُعد 8% فقط من كرة القاعدة (Baseball). ربما يتساءل البعض؛ لماذا لم تكن كرة القدم بتلك الشعبية الجارفة في الولايات المتحدة؟ وفي الحقيقة، هناك عدة إجابات عن هذا السؤال وليس إجابة واحدة.

 

كانت نهاية كأس العالم 1994 هي نقطة ولادة دوري كرة القدم الأميركي للمحترفين (MLS)، ولكن كان المُنتج الذي يتم تقديمه للجمهور آنذاك أردأ من أن يتلهف أحدهم لمتابعته، خصوصا عندما تُقارنه بكرة القدم التي شوهدت قبل أشهر في صيف 1994. الأمر كأنك تشاهد لعبة أخرى! كانت الملاعب خاوية تماما من الجماهير، عانى الدوري في بداياته من مشكلات مالية ضخمة وخسائر بملايين الدولارات، لدرجة أن ملاك الأندية تعرضوا للإفلاس. المشكلة الأكبر لم تكن في سوء المنتج الأميركي، بل في حقيقة أنه المنتج الوحيد المتاح! (2)(5)

 

تلك لم تكن مزحة بالمناسبة، فلم يكن هناك حقوق بث تلفزيوني لعرض الدوريات الأوروبية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية من الأساس، فعلى سبيل المثال، عُرضت مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز مباشرة لأول مرة عام 1996، بمعدل مباراة واحدة فقط في الأسبوع من مباريات السبت الممتاز. قبل ذلك، كان وجود البريميرليغ في أميركا عبارة عن برامج تلفزيونية تعرض لقطات مختارة من الجولة بشكل أسبوعي. بحلول عام 2002، كانت “Fox sports”، صاحبة حقوق البث آنذاك، تعرض ثلاث مباريات فقط من مباريات كل جولة، وكان موسم 2006-2007 من الدوري الإنجليزي الممتاز هو أول موسم تُعرض كل مبارياته في الولايات المتحدة الأميركية على الإطلاق. (3)

 

لذا، احتاج الدوري الأميركي إلى فترة كبيرة من الزمن حتى يستطيع استقطاب النجوم من الدوريات الأوروبية الكبرى، ولكن سرعان ما بدأت شعبيته تزداد أكثر فأكثر بانضمام لاعبين من أمثال ديفيد بيكهام وتييري هنري وغيرهم لاحقا. لعب ذلك الأمر دورا كبيرا في زيادة شعبية اللعبة في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى البث التلفزيوني لأكبر الدوريات الأوروبية الذي استقطب العديد من المشجعين الجدد لمتابعة اللعبة والاهتمام بتفاصيل حياة النجوم الكبار ومتابعتهم أسبوعيا، ما يعني أن المنتج المحلي أصبح أقوى من ذي قبل، والمنتج الأوروبي الأقوى والأعلى جودة أصبح مُتاحا للجميع. (2)

 

علّمني الصيد ولا تعطني سمكة

ربما ساهم استقطاب النجوم الكبار لدوري كرة القدم الأميركي للمحترفين في زيادة شعبيته، لكن علينا أن نطرح سؤالا هنا؛ هل ستظل بلاد العم سام دائما مجرد مُستقطب للاعبين الأوروبيين الكبار في نهاية مسيرتهم الكروية؟ لماذا لا يصنعون النجوم بأنفسهم إذن؟ تملك العديد من الأندية الأوروبية أكاديميات على أعلى مستوى ممكن من الجودة، وهذا ما لم تكن تملكه الأندية الأميركية، الأمر الذي لم يدم طويلا. (2)(4)

 

مع نهايات العقد الأول من الألفية الجديدة وبداية العقد الثاني، بدأت أندية الدوري الأميركي للمحترفين بضخ مبالغ ضخمة لتطوير أكاديمياتها وأنظمة استقطاب المواهب والكشافة، وأصبح هناك تركيز أكبر على إنتاج المواهب وتطويرها بشكل سليم من الفئات السنية الأصغر، وقد ساهم ذلك في إنتاج جيل كامل من المواهب الأميركية الشابة، بجودة ربما لم يسبق لها الوجود في تاريخ كرة القدم الأميركية! (2)(4)

 

انظر حولك، لا يوجد أي دوري من دوريات أوروبا الخمس الكبرى إلا ويحتوي على عدد لا بأس به من المواهب الأميركية الشابة التي تطورت بالكامل في أكاديميات أميركية المنشأ. تشهد الولايات المتحدة ثورة غير مسبوقة في هذا الصدد، فلم يعد الدوري مجرد مستقطب للنجوم، بل أصبح أحد مناجم التصدير للمستوى الأعلى من اللعبة، وهو ما أنتج بالضرورة إحدى أقوى نسخ المنتخب الأميركي عبر تاريخه، والأهم أن وراء ذلك المنتخب مشروعا حقيقيا، وليست مجرد لحظات تفوق مؤقتة على سبيل المصادفة.

 

رابط جيسي مارش العجيب

حسنا، لا يزال الأميركيون حديثي عهد بكرة القدم، ومن المؤكد أن تاريخ مشاركات الفريق الأميركي ليس الأبرز من بين الـ32 فريقا في مونديال قطر؛ فباستثناء أول نسخ البطولة تاريخيا عام 1930، التي تأهل فيها إلى نصف النهائي، لم يتخطَّ الفريق دور الـ16 في باقي النسخ التسع التي لعبها. لم يكن التاريخ رحيما ببلاد العم سام في المونديال الأخير، حيث فشلوا في التأهل للبطولة من الأساس في روسيا.

 

ومع ذلك، كانت هناك آمال كبيرة أن يتغير الأمر في مونديال قطر، وفي الحقيقة، نجح فريق غريغ برهالتر في تقديم انطباع جيد، ولاقى استحسان العديد من النقاد والمحللين، رغم الخروج مجددا من دور الـ16 أمام هولندا. يعتمد الفريق على أساليب شبيهة جدا لما نراه من الأميركي جيسي مارش مع ليدز يونايتد؛ فالفريق يضغط وحدةً واحدة وكأنهم في مجموعة، وضغطهم -على حد تعبير مارش بذاته- لا يترك مسافة متر واحد بينهم وبين لاعبي الخصم، بل يهاجمون الكرة وحاملها بالتبعية، وبما أن أسلوب ضغطهم جماعي بهذا الشكل، فهناك فرصة كبرى لنجاحهم في أنماط الضغط تلك. (6)

إحدى لقطات الضغط العالي للاعبي ليدز يونايتد على لاعبي تشيلسي – المصدر: مواقع التواصل.
إحدى لقطات الضغط العالي للاعبي ليدز يونايتد على لاعبي تشيلسي - المصدر: مواقع التواصل.
إحدى لقطات الضغط العالي للاعبي ليدز يونايتد على لاعبي تشيلسي – المصدر: مواقع التواصل.
إحدى لقطات ضغط لاعبي ليدز يونايتد على لاعبي تشيلسي - المصدر: مواقع التواصل.
إحدى لقطات ضغط لاعبي ليدز يونايتد على لاعبي تشيلسي – المصدر: مواقع التواصل.

يمكننا رؤية ما يشبه ذلك -ولو بحدة أقل نوعا ما- في مباراة إنجلترا في دور المجموعات، بضغط هيكلي منظم ومترابط، وبشكل يتأرجح بين 4-4-2 و4-3-3؛ حيث إن حاجي رايت وتيموثي ويا كانا يتبادلان التغطية والضغط على ديكلان رايس، والجناحان، كريستيان بوليسيك وويستون ماكيني، كانا يتقدمان للضغط على الأظهرة في حال استلامهم للكرة.

أدوار تيموثي ويا وحاجي رايت في الضغط المتوسط للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل
أدوار تيموثي ويا وحاجي رايت في الضغط المتوسط للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل
أدوار تيموثي ويا وحاجي رايت في الضغط المتوسط للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل
أدوار تيموثي ويا وحاجي رايت في الضغط المتوسط للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل
أدوار رباعي منتخب أميركا في الضغط المتوسط في التغطية على رايس والضغط على الأظهرة - المصدر: مواقع التواصل
أدوار رباعي منتخب أميركا في الضغط المتوسط في التغطية على رايس والضغط على الأظهرة – المصدر: مواقع التواصل
أدوار كريستيان بوليسيك وويستون ماكيني في الضغط المتوسط للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل
أدوار كريستيان بوليسيك وويستون ماكيني في الضغط المتوسط للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل

كان برهالتر متفطنا أيضا لما قد يفعله غاريث ساوثغيت في اللعب بجود بيلينغهام بصفته محورا ثانيا بجانب ديكلان رايس، لذا فإنه قام بمطالبة ويا ورايت بأن يتكفلا بكلا اللاعبين الإنجليزيين في التغطية عليهما وحجب مسارات التمرير إليهما، وكل تلك التحركات والتوظيفات من أجل محاولة منع منتخب الأسود الثلاثة من التدرج من العمق، وإجبارهم على اللجوء للأطراف، واستغلال الزيادة العددية هنالك؛ حيث إن الضغط على الأطراف يسمح للفريق باستغلال خط التماس بصفته مدافعا إضافيا.

أدوار تيموثي ويا وحاجي رايت في الضغط المتوسط للمنتخب الأميركي على ديكلان رايس وجود بيلينغهام - المصدر: مواقع التواصل
أدوار تيموثي ويا وحاجي رايت في الضغط المتوسط للمنتخب الأميركي على ديكلان رايس وجود بيلينغهام – المصدر: مواقع التواصل
لجوء المنتخب الإنجليزي للتدرج عبر الطرف الأيسر من الملعب - المصدر: مواقع التواصل.
لجوء المنتخب الإنجليزي للتدرج عبر الطرف الأيسر من الملعب – المصدر: مواقع التواصل.
ضغط المنتخب الأميركي وحدةً واحدة أمام ويلز - المصدر: مواقع التواصل.
ضغط المنتخب الأميركي وحدةً واحدة أمام ويلز – المصدر: مواقع التواصل.
ضغط المنتخب الأميركي وحدةً واحدة أمام ويلز - المصدر: مواقع التواصل.
ضغط المنتخب الأميركي وحدةً واحدة أمام ويلز – المصدر: مواقع التواصل.

بالطبع يمتلك الأميركيون أسلحة أخرى بجانب الضغط في المراحل الدفاعية. بوجه عام، على المدرب والفريق أن يفكرا دفاعيا أثناء الحيازة وليس فقط وقت فقدان الكرة؛ تحسبا لفقدان الكرة من الأساس، ولهذا يوجد ما يسمى بالدفاع الوقائي. أهم عوامله هو أن ينظم الفريق ذاته حسب تنظيم الخصم، مثلما نرى في الزيادات العددية والرقابة الوقائية على خيارات التحولات للخصوم أثناء حيازة الفريق للكرة، وهو ما يجيده الأميركان حسبما رأينا في مباراتي إيران وإنجلترا، ولا نستطيع أيضا نسيان أحد أهم الأسلحة الخاصة بكلٍّ من مارش والمنتخب الأميركي؛ الضغط العكسي.

دفاع أميركا الوقائي أمام المنتخب الإنجليزي في منتصف ملعب أميركا - المصدر: مواقع التواصل
دفاع أميركا الوقائي أمام المنتخب الإنجليزي في منتصف ملعب أميركا – المصدر: مواقع التواصل
دفاع أميركا الوقائي أمام المنتخب الإيراني - المصدر: مواقع التواصل
دفاع أميركا الوقائي أمام المنتخب الإيراني – المصدر: مواقع التواصل
فشل لأحد تحولات المنتخب الإنجليزي عند قطع الكرة بسبب الهيكل الوقائي للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل
فشل لأحد تحولات المنتخب الإنجليزي عند قطع الكرة بسبب الهيكل الوقائي للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل
فشل لأحد تحولات المنتخب الإنجليزي عند قطع الكرة بسبب الهيكل الوقائي للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل
فشل لأحد تحولات المنتخب الإنجليزي عند قطع الكرة بسبب الهيكل الوقائي للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل
فشل لأحد تحولات المنتخب الإيراني عند قطع الكرة بسبب الهيكل الوقائي للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل
فشل لأحد تحولات المنتخب الإيراني عند قطع الكرة بسبب الهيكل الوقائي للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل
فشل لأحد تحولات المنتخب الإنجليزي عند قطع الكرة بسبب الهيكل الوقائي للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل
فشل لأحد تحولات المنتخب الإنجليزي عند قطع الكرة بسبب الهيكل الوقائي للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل
إحدى محاولات الضغط العكسي للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل.
إحدى محاولات الضغط العكسي للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل.
إحدى محاولات الضغط العكسي للمنتخب الأميركي - المصدر: مواقع التواصل.
إحدى محاولات الضغط العكسي للمنتخب الأميركي – المصدر: مواقع التواصل.

اكتشفت بلاد العم سام في النهاية أن كرة القدم في أعيننا ليست بيضة، ولا تُلعب بالأيدي، ولا ينطح فيها اللاعبون بعضهم بعضا كالثيران، وهم الآن في رحلة لاستكشاف ذاك العالم، ومواكبة التطور الذي يحدث به كل ثانية، وهم ناجحون فيما يفعلونه حتى اللحظة، ونستطيع رؤية ذلك في جودة الأفراد الذين يمثلون الفريق الوطني، وفي أسلوب اللعب الدفاعي المتقن، الذي يظهر جليا في إحصائية الأهداف المتوقعة المستقبلة دون احتساب ركلات الجزاء؛ حيث إن أميركا هي سابع أقل فريق من حيث تلك الإحصائية بين فرق الدورة أجمع. (7)

 

نستطيع القول إن الأمر لم يتوقف عند ذلك أيضا، خاصة إذا شاهدتم مباراة أميركا أمام هولندا، التي تخلى فيها الطواحين عن هويتهم التي تميزهم عن غيرهم؛ خوفا من السرعات التي يتميز بها لاعبو المنتخب الأميركي في التحولات السريعة في المساحات، التي تظهر جليا في تقرير ديفيد سامبتر على موقع “ذي أثلتيك” (The Athletic)، الذي قارن فيه بين 8 منتخبات من الـ16 الذين تأهلوا للدور الثاني، ووجد أن أميركا هي ثاني أكثر فريق بين هؤلاء الثمانية قياما بالمرتدات، وهذا ما أدركه فان غال بالتأكيد، ولم يرد المخاطرة بسببه في رأينا. (8)

 

لم تكمل أميركا مشوارها في المونديال، وربما لن تكون قصتها الكروية قصة تتحاكى بها الأجيال القادمة عن الفريق الذي لم يكن من الكبار في عالم الكرة، ولكنه تحوَّل إلى اسم يصارعهم ويتغلب عليهم، ولكننا هنا لنقص القصة على مَن لم يرَ، أو لم يستمع، قصة اكتشاف هوليود للعبة الشعبية الأولى في العالم.

————————————————————————

المصادر:

1- أشهر 5 رياضات في أميركا – Wolfgang

2- تطور كرة قدم الصغار في أميركا – Medium

3- تاريخ بث الدوري الانجليزي الممتاز على التليفزيون الأميركي

4- ثورة كرة القدم الأميركية – atbnetwork

5- التطور المستمر لكرة القدم المحلية في الولايات المتحدة

6- فيديو لجيسي مارش يتحدث عن كيفية ضغط فرقه – Youtube

7- إحصائيات جميع فرق المونديال – Fbref

8- ما تقوله لنا الإحصائيات المتقدمة عن دور الـ16 في المونديال – The Athletic

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.