دفعت التصريحات التي أدلى بها عدد من المسؤولين الأتراك وفي مقدمتهم الرئيس أردوغان حول العلاقة مع النظام السوري إلى انطباع بأن أنقرة قد عدلت عن فكرة العملية العسكرية التي تلوح بشنها في الشمال السوري منذ شهور.

إستراتيجية تركيا في سوريا

بعد تردد ملحوظ والتخوف من “الاستدراج للمستنقع السوري” لسنوات، أطلقت تركيا عمليتها العسكرية الأولى “درع الفرات” في أغسطس/آب 2016 في الشمال السوري، ثم أتبعتها بعدة عمليات أخرى.

كان واضحا مع هذا المتغير أن أولوية أنقرة في الملف السوري تحولت لمنع تشكل كيان سياسي على علاقة بحزب العمال الكردستاني، المنظمة الانفصالية الإرهابية، على حدودها الجنوبية، لا سيما بعد إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي عن مناطق الإدارة الذاتية في شمال سوريا ونكوص العمال الكردستاني عن عملية التسوية مع تركيا واستئنافه العمليات العسكرية.

قطعت عملية “درع الفرات” التواصل الجغرافي بين “الكانتونات الكردية” في الشرق والغرب، فكانت ضربة قاصمة لفكرة “الدويلة الكردية” أو “الممر الإرهابي” وفق توصيف أنقرة، ثم أتت عملية “غصن الزيتون” مطلع العام 2018 لتنهي وجود وحدات حماية الشعب في منطقة عفرين شمال غرب سوريا وتبعد الكيان السياسي المنشود عن إمكانية الوصول للبحر المتوسط.

في 2019، أطلقت أنقرة عملية “نبع السلام” ضد قوات سوريا الديمقراطية بهدف إبعادها عن الحدود التركية لعمق 30 كيلومترا وتأسيس منطقة آمنة هناك، وهي العملية التي أنهتها أنقرة بتفاهمات مع كل من موسكو وواشنطن لتحقيق هذا الهدف.

وعليه، وباستثناء عملية “درع الربيع” نهاية فبراير/شباط 2020 التي استهدفت قوات النظام السوري إثر مقتل العشرات من الجنود الأتراك بقصف جوي، فإن كل العمليات العسكرية التركية الكبيرة استهدفت منع قيام كيان سياسي معادٍ لها ومرتبط بالمنظمات الانفصالية ثم بإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري.

كما أن أنقرة اعتمدت في السنوات القليلة الأخيرة مبدأ الحرب الاستباقية ومواجهة “الإرهاب في عقر داره” في كل من سوريا والعراق، بحيث يكون تقويض إمكانات المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب ضمانة لعدم قدرتها على تشكيل تهديد للأراضي التركية.

ومنذ 2019 تلح أنقرة تلح على كل من واشنطن وموسكو، وخصوصا الأخيرة، لتنفيذ التزاماتهما بإبعاد مسلحي قوات سوريا الديمقراطية إلى عمق 30 كيلومترا بعيدا عن الحدود التركية، وما زال الرئيس التركي يلوح بعملية جديدة لاستكمال المهمة.

أكثر من مرة كرر أردوغان ذلك التهديد، لكن تصريحاته نهاية مايو/أيار الماضي حملت نبرة مختلفة وقُرئت بشكل أكثر جدية لدرجة أن الكثيرين اعتقدوا أنها مسألة أيام فقط وتبدأ أنقرة العملية، خصوصا أن التصريحات أتت قبل أيام فقط من اجتماع مجلس الأمن القومي التركي، الذي ألمح بيانه للعملية كذلك.

والسبب الرئيسي في ذلك أنها -أي التصريحات- أتت على هامش الدور التركي المتنامي بالنسبة لروسيا والغرب على حد سواء بعد الحرب الروسية الأوكرانية وانشغال روسيا بالحرب وتراجع اهتمامها -ولو ظاهريا ومؤقتا- بالملف السوري.

تركيا لا تثق بأي طرف آخر في ملف بالغ الأهمية والحساسية كهذا، خصوصا بعد تجربة السنوات الأخيرة في سوريا، وتفضل دائما أن “تقطع حبل خلاصها بنفسها” وفق تعبير الرئيس التركي

هل ألغيت؟

أكدت أنقرة أكثر من مرة إتمام الاستعدادات العسكرية واللوجستية للعملية، مما يعني أن عدم إطلاقها حتى اللحظة مرتبط أكثر بمواقف الأطراف الأخرى المنخرطة في سوريا وسعي تركيا لإقناعهم بها، وهو ما أسميه “شبكة الأمان السياسية” للعملية”.

وقد بدا أن قمتَيْ طهران الثلاثية وسوتشي الثنائية لم تفلحا في إقناع إيران وروسيا -وهي الأهم- بالعملية. بل إن التصريحات التركية المتتالية عن العلاقة مع النظام السوري، والتي فهم منها أن أنقرة على وشك الدخول في حالة حوار معه، أتت بعد عودة أردوغان من سوتشي مباشرة.

بل إن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قال صراحة إن بلاده ستقدم الدعم السياسي للنظام في حال عمل على إبعاد مسلحي قوات سوريا الديمقراطية عن الحدود. فهل ألغت أنقرة عمليتها العسكرية واستعاضت عنها بالتعاون مع النظام؟

يمكن القول إن العملية التركية قد أجلت كثيرا وإنها تواجه صعوبات تتعلق بإقناع مختلف الأطراف المعنية، روسيا وإيران والولايات المتحدة على أقل تقدير، بها، لكن من الصعب توقع إلغائها تماما.

صحيح أن تركيا لم تفلح حتى اللحظة، فيما يبدو، في إقناع روسيا وإيران بضرورة العملية وأحقيتها، لكنهما أيضا لم تفلحا في إقناعها بإلغائها، ومؤشر ذلك في حديث أردوغان عن العملية وضرورتها وأهدافها في قمة طهران وبعد انتهائها وقبل أيام كذلك.

ذلك أن العملية التي تتحدث عنها أنقرة ليست حدثا منفردا أو محطة مستقلة، وإنما حلقة في إستراتيجية متكاملة -سبق تفصيلها- من الصعب تخيُّل تخليها عنها، وإلا تعرضت الإستراتيجية بكاملها للفشل أو التعثر على أقل تقدير.

فتركيا لا ترى في وجود المجموعات الانفصالية في الشمال السوري خطرا على وحدة الأراضي السورية وتهديدا أمنيا لأراضيها هي من الخارج وحسب، وإنما أيضا تهديدا لوحدة الأراضي التركية نفسها على المدى البعيد لارتباط الملف الكردي في مختلف دول المنطقة، وبالتالي فهو خط أحمر حقيقي بالنسبة لها.

كما أن تركيا لا تثق بأي طرف آخر في ملف بالغ الأهمية والحساسية كهذا، خصوصا بعد تجربة السنوات الأخيرة في سوريا، وتفضل دائما أن “تقطع حبل خلاصها بنفسها” وفق تعبير الرئيس التركي. النظام السوري تحديدا لا يحظى بثقة تركيا في هذا السياق بسبب تبادله الأدوار والمواقع في أكثر من مرة سابقة مع قوات سوريا الديمقراطية، لتجنيب الأخيرة الاستهداف من قبل القوات التركية وبما أضاف تعقيدات ميدانية للعمليات التركية السابقة. هذا فضلا عن الصدام المباشر بين القوات التركية وقوات النظام أكثر من مرة، وقد كان أوضحها في عملية “درع الربيع” قبل عامين.

ومن الجدير ذكره أن التوصيف الأقرب للدقة للموقف التركي المستجد من النظام السوري هو الانفتاح على فكرة الحوار معه، وليس انقلابا كاملا في الموقف منه، إذ لا قرائن حتى اللحظة على تبدل إستراتيجية أنقرة أو أولوياتها بالكامل، وبالتالي فهي أقرب لمرحلة اختبار بطيئة ومتدرجة وغير مضمونة النتائج.

وبالتالي، يمكن القول إن تركيا منفتحة على فكرة تأجيل العملية ومحاولة تحقيق أهدافها، لا سيما إبعاد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية عن حدودها، عبر العلاقات مع روسيا وحلول قوات النظام هناك. لكن ذلك لا يعني التخلي بالكامل عن فكرة العملية أو إلغائها تماما، وإنما محاولة استفراغ الجهد في مسار بديل محتمل، لا سيما أنه يخدم أكثر من هدف، بما في ذلك عودة المقيمين السوريين في تركيا والعلاقات مع كل من روسيا وإيران والضغط على الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين.

وإلا فإن المعطيات الميدانية تقول إن أنقرة ما زالت ملتزمة برؤيتها وإستراتيجيتها في سوريا، وإن يدها ما زالت على الزناد كما يقال. وليس أدل على ذلك من استمرار استهدافها لمراكز وشخصيات محسوبة على قوات سوريا الديمقراطية والعمال الكردستاني، بل إنها استهدفت أكثر من مرة قوات للنظام السوري رغم الحديث عن الحوار وإمكانية التعاون.

ولذلك، فإن ما حصل حتى اللحظة هو تعليق العملية إفساحا للمجال لخيارات أخرى “يمكن” أن تحقق أهداف العملية دون جهد عسكري مباشر، وبالتالي فإن فشل هذا المسار سيعيد أنقرة للمربع الأول وربما بحجة أقوى في مواجهة روسيا تحديدا، من وجهة النظر التركية. ولعل تصريحات الرئيس أردوغان قبل أيام فقط، في ذكرى معركة ملاذكرد، قرينة إضافية على أن بلاده لم تلغ تماما فكرة العملية وأنها ما زالت خيارا قائما متى اكتملت شروط إطلاقها ونجاحها.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.