مع وصول الرئيس “جو بايدن” إلى البيت الأبيض عام 2021، وبروز ملامح إستراتيجيته في تقليل الوجود العسكري الأميركي في الخارج، وهو ما يُعرَف بسياسة إنهاء “الحروب الأبدية”، تأكَّد الصوماليون من أن قرار الرئيس السابق “دونالد ترامب” بسحب القوات الأميركية من أراضيهم سيظل قائما. وسرعان ما تأكَّد هذا الشعور عندما سحبت واشنطن قواتها من أفغانستان وأنهت مهامها القتالية في العراق، ولذا فقد جاء قرار بايدن بإعادة القوات الأميركية إلى الصومال في منتصف مايو/أيار 2022 بمنزلة مفاجأة للعالم، وللصوماليين أنفسهم.

لقد تسبَّب سحب القوات الأميركية قبل نحو عام من الصومال في فرض مخاطر جديدة جعلت الأميركيين يُقِرُّون بأن الوجود المتناوب الذي حلَّ محل إستراتيجية الوجود الدائم لم يُحقِّق أهدافه، بل زاد من المخاطر الأمنية على القوات الأميركية أثناء دخولها وخروجها من البلاد، وعطَّل في الوقت نفسه تدريب القوات الصومالية نتيجة التغيير المستمر للمُدرِّبين الأميركيين.

الولايات المتحدة في الصومال

مع بداية عقد التسعينيات، وجد الصوماليون أنفسهم غارقين بالدماء نتيجة هجمات حركة الشباب والصراع الكبير على السلطة آنذاك، علاوة على مجاعة قاسية جعلت بلادهم تشغل عناوين الأخبار العالمية، التي عكفت على نشر صور مؤلمة للجياع من الأطفال والنساء والرجال، حيث مات منهم نحو 300 ألف شخص. أمام تلك الصورة القاتمة للوضع الصومالي، تحرَّك العالم وبذل الجهود لإيصال إمدادات الإغاثة إلى هناك تحت إشراف تحالف عسكري مُتعدِّد الجنسيات، فأطلق الأميركيون في ديسمبر/كانون الأول 1992 عملية “استعادة الأمل” بهدف توفير الأمن لوحدة الأمم المتحدة التي ذهبت لإنقاذ آلاف الصوماليين الذين أنهكهم الجوع. وبالفعل حين وصلت تلك القوات إلى الأراضي الصومالية، حاول مقاتلو العشائر المسلحون ببنادق “أك-47” مواجهة تلك القوات، لكن الجوع كما القوة العسكرية للأميركيين فرض أن يكون إخراج الطعام هو الأولوية بالنسبة لهم.

لم يكن سهلا إنكار أن الحملة جاءت أيضا لتخدم مصالح الولايات المتحدة وتُعزِّز نفوذها، حيث خلق النجاح المُبكِّر للمهمة الإنسانية رغبة بالانتقال من المهمة الفورية في إنهاء المجاعة إلى تخصيص الجهود لدعم بناء الدولة سياسيا، وتعزيز قدرتها على مقاومة التطرُّف المُتمثِّل في سطوة “حركة الشباب”، وهي مهمة لم تكن سهلة في البداية، حيث قاوم الصوماليون بشراسة محاولات فرض الديمقراطية من أعلى. وفيما يتعلَّق بالتعامل مع أمراء الحرب الصوماليين، اعتمد الأميركيون على إستراتيجية تسمى “نتف الدجاجة”، هدفت إلى القضاء ببطء على نفوذهم من خلال التعامل البطيء معهم.

وبالفعل، سرعان ما ظهرت بوادر نجاح تلك الإستراتيجية، إذ مع مرور الوقت تحسَّن اقتصاد الصومال، ونهض شيوخ القبائل لحل خلافاتهم دون استخدام السلاح، وفُتِحَت مراكز الشرطة والمحاكم لتنفيذ القانون، وعلى الجهة الأخرى أدَّت القوات الأميركية دورا مهما في تدريب ودعم وبناء القدرات الأمنية للقوات الصومالية، وعلى رأسها قوات النخبة الخاصة التي تولَّت عمليات مكافحة الإرهاب.

وبينما استمر وجود الأميركيين على أرض الصومال، اتضح أن أمراء الحرب كانوا ينتظرون الفرصة حتى يعضوا الأيادي التي أطعمتهم، فاستُهدِفت القوات الأميركية بعمليات هجومية، وكانت واحدة من أخطر تلك العمليات هي “بلاك هوك داون” أو “سقوط النسر الأسود”، فحين أرادت واشنطن قتل أمير الحرب “محمد فرح عيديد”، لُقِّنَت درسا قاسيا.

في أكتوبر/تشرين الأول 1993، قُتل 18 جنديا أميركيا في عملية وُصِفَت بأنها واحدة من أسوأ العمليات التي استهدفت قوات أميركية خارج البلاد، وجرت جثثهم المُمزَّقة في شوارع مقديشو على مرأى ومسمع العالم، وهي عملية دفعت بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى التصويت على عدم التدخُّل في الإبادة الجماعية التي بدأت في رواندا بعد أقل من أسبوعين من انسحاب آخر جنود الغرب من الصومال، رغم أنه كان بوسعها أن تُنقِذ مئات الآلاف من الأرواح. وقد أجبرت هذه العملية الرئيس الأميركي آنذاك “بيل كلينتون” على سحب جميع قوات بلاده من الصومال بحلول مارس/آذار 1994، تاركا للماليزيين المهمة العسكرية هناك.

بيد أنه منذ عام 2007، وعبر بوابة قوات حفظ السلام الأفريقي، أضحى هناك وجود عسكري سري للولايات المتحدة، حيث قدَّمت واشنطن الدعم اللوجيستي والخبرات العسكرية لتلك القوات، وبحلول عام 2011، وبعد هزيمة حركة الشباب أمام القوات الأفريقية والصومالية وخروجها من مقديشو، ازداد حجم التدخُّل العسكري الأميركي، مما أدى إلى تقليص نفوذ حركة الشباب في القرن الأفريقي. هذا وأرسل الرئيس السابق “باراك أوباما” عام 2014 مستشارين عسكريين إلى الصومال.

كذلك في عام 2017، وسَّع ترامب مهمة الجيش الأميركي في شرق أفريقيا، مما أعطى البنتاغون مزيدا من الصلاحيات لاستهداف مقاتلي الشباب، كما دعت خطة دولية تم التوصل إليها في العام نفسه إلى أن تعمل قوات الأمن الصومالية بصورة مستقلة بحلول عام 2021. ولكن قبل مغادرة منصبه بأيام، وبالتحديد في ديسمبر/كانون الأول 2020، قرَّر ترامب سحب غالبية القوات الأميركية المتمركزة في الصومال والبالغ عددها 750 جنديا، وأمر بنقلها إلى كينيا وجيبوتي، حيث موطن القاعدة العسكرية الأميركية الدائمة الوحيدة في أفريقيا، وذلك على أمل أن تحتفظ تلك القوات بالقدرة على دخول الأراضي الصومالية والقيام بالعمليات التي تراها مناسبة دون مخاطر كبرى على القوات الأميركية.

نفَّذت القيادة الأميركية في أفريقيا قرار الانسحاب فعليا في الشهر الأول من العام الماضي، ورافق اكتمال هذا الانسحاب تحذيرات عدة نظرا لتوقيته، فمن جهة كان الصومال على موعد مع انتخابات وطنية، ومن جهة أخرى كانت جماعة الشباب تعمل على تحسين مهاراتها في صنع القنابل وتواصل مهاجمة الأهداف العسكرية وحتى المدنية في العاصمة مقديشو. كما أن قرار تناوب القوات الأميركية داخل وخارج الصومال في مهام مُحدَّدة عُدَّ نظاما صعبا وغير فعال، وقوَّض في المُحصِّلة من الجهود الأميركية لمساعدة الصومال في محاربة حركة الشباب، ناهيك بانعكاس هذا القرار على “داناب”، وهي قوة صومالية يرعاها الجيش الأميركي منذ تأسيسها عام 2013، ورغم أنها ما زالت القوة الضاربة الرئيسية لمكافحة الإرهاب، فإنها تحمَّلت ضريبة الانسحاب.

سحب القوات والمخاطر الجديدة

مع منتصف مايو/أيار الحالي، بدأت تتكشَّف خطة إدارة بايدن التي استجاب فيها لطلب وزارة دفاع بلاده بإعادة إنشاء قاعدة عمليات بالصومال، حيث تُخطِّط واشنطن لتدشين “وجود عسكري أميركي صغير ومستمر”، يبدأ بالاعتماد على جنود القوات الموجودة بالفعل في المنطقة ونقلهم إلى أراضي الصومال. وقد رحَّب المشرِّعون الأميركيون بهذا القرار وكذلك الصوماليون، تزامنا مع عودة حسن شيخ محمود” إلى رئاسة الصومال التي شغلها بين عامَيْ 2012-2017، إذ تغلَّب محمود على الرئيس الحالي “محمد عبد الله محمد”، المعروف باسم فرماجو، في ثلاث جولات من التصويت البرلماني آخرها في مايو/أيار الماضي، وذلك بعد أن تعطَّل إجراؤها أكثر من عام بسبب سيطرة حركة الشباب على مساحات شاسعة من البلاد، وأيضا بسبب الاقتتال الداخلي الطويل داخل الحكومة، إذ اندلعت اشتباكات مُسلَّحة في شوارع العاصمة مقديشو في إبريل/نيسان 2021 عندما رفض السياسيون محاولة فارماجو تمديد ولايته عامين آخرين.

الرئيس المنتهية ولايته محمد عبد الله فرماجو (يمين) مع الرئيس حسن الشيخ محمود (الأناضول)

وقد تعهَّد محمود بالعمل على إنهاء الصراع والمجاعة في سباق مع الزمن بسبب الموعد النهائي الذي حدَّده صندوق النقد الدولي في 17 مايو/أيار لتشكيل حكومة اتحادية جديدة وإلا خسرت البلاد التمويل الدولي، حيث تعتمد البلاد على المساعدات والتحويلات الخارجية، كما تلقَّت الحكومة أكثر من 1.7 مليار دولار من التحويلات عام 2020، أي ما يقرب من 25% من الناتج المحلي الإجمالي للصومال وفقا للبنك الدولي.

بالعودة إلى القرار الأميركي، قال البيت الأبيض بوضوح إن التركيز الأساسي سيكون على حركة الشباب التي تقف خلف أكثر العمليات الإرهابية فتكا في أفريقيا نظرا لقدراتها وتمويلها الأقوى بين الجماعات المسلحة في تلك المنطقة، فالحركة التي يعود تاريخ تصنيفها منظمة إرهابية إلى عام 2008 تبنَّت مسؤولية العديد من الهجمات الإرهابية الضخمة، ومنها الهجوم الذي أدَّى إلى مقتل 67 شخصا ووقع في مركز تسوُّق في نيروبي عاصمة كينيا عام 2013، والهجوم على مجمع فندقي في نيروبي أيضا عام 2019 أدَّى إلى مقتل 21 شخصا. ومع ذلك، يرى المراقبون أن الحركة بعد قرار الانسحاب الذي اتخذه ترامب صارت أكثر دموية وزادت من هجماتها، إذ انطلقت مستغلة عدم الاستقرار الصومالي والسياسة المتصدِّعة لتصبح أكبر وأغنى فرع للقاعدة في العالم. علاوة على ذلك، حقَّقت حركة الشباب مكاسب إقليمية ضد قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي.

بالأرقام، يمكن القول إن هجمات الحركة ارتفعت بنسبة 17% عام 2021 مقارنة بالعام السابق، وذلك وفقا لتحليل من مركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية في واشنطن، ومن المتوقع أن ترتفع النسبة هذا العام بدرجة كبيرة إذا استمرت وتيرة العنف الحالي. وقد أشار تقرير حديث للحكومة الأميركية إلى تورُّط حركة الشباب في 440 واقعة عنف في الصومال بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول، وهو أعلى رقم منذ عامين.

ارتفعت هجمات حركة الشباب بنسبة 17% عام 2021 مقارنة بالعام السابق، وذلك وفقا لتحليل من مركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية في واشنطن.

مدفوعة بتخوُّفاتها من أن تؤدي ساحة معركة الشباب المتصاعدة والمسار المالي المُعقَّد إلى توفير مساحة أكبر للجماعة كي تُخطِّط وتُنَفِّذ هجمات أخرى، جاء قرار بايدن الأخير بنشر القوات في الصومال اعتقادا من المسؤولين العسكريين الأميركيين منذ فترة طويلة أن حركة الشباب لديها النية لمهاجمة الولايات المتحدة وقواتها في المنطقة، على الرغم من أنها تفتقر إلى القدرات اللازمة للقيام بذلك حاليا.

النجاح الأميركي في البلد المضطرب

“لقد جرَّب العالم كل ما يمكن أن يخطر ببالنا في الصومال لكنه لم ينجح، لقد حصلوا على أكثر من نصيبهم من مساعدة العالم والذهب والدم والنِّيات الحسنة”، هكذا صرَّح المبعوث الأميركي إلى الصومال “دَنيال سيمسون”، متسائلا حيال جدوى الأهداف الأميركية التي جاء من أجلها القرار الأخير بعودة القوات إلى الصومال بعد مُضي ما يزيد على عام من أمر ترامب بسحبهم.

في البداية، يمكن القول إن واشنطن تريد من قرار الوجود الدائم تحقيق عدة أهداف، مثل رفع معنويات القوات المحلية التي تتحمَّل الجزء الأكبر من العبء، حيث تساهم دول الاتحاد الأفريقي بنحو 19 ألف جندي في قوة حفظ السلام، وكذلك تعزيز نفوذها في صفوف الحكومة المركزية الصومالية، التي قوَّض الفساد والفوضى السياسية من اضطلاعها بمهمة مكافحة الإرهاب في البلاد، كما أن شلل الحكومة يمكن أن يمنح حركة الشباب فرصة أوسع للوصول إلى السلطة وتقويض الحكومة في مقديشو.

بالإضافة إلى ما سبق، قال الصحافي “عدنان عبدي علي” في حديثه إلى “ميدان” إن ولادة نظام جديد في الصومال دفع واشنطن إلى وضع محاربة الجماعات المسلحة على رأس أولوياتها لحماية المصالح الأميركية والصومالية بما يخدم استقرار المنطقة، ثم أضاف: “هناك رغبة أميركية بإظهار الدعم للقيادة الصومالية الجديدة واختبار جديَّتها في محاربة حركة الشباب وتنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ “داعش”، إذ ترغب واشنطن بكسر شوكة حركة الشباب التي تطوَّرت قوتها كثيرا في الفترة الماضية”. هذا وأشار علي إلى أن المجتمع الدولي معني بدعم التحوُّل الأمني في الصومال بحلول نهاية عام 2024، حين يُفترض أن تنسحب قوات حفظ السلام الأفريقية من الصومال وتتسلَّم الأجهزة الأمنية مسؤولية أمن البلاد.

علاوة على ذلك، تريد واشنطن تبديد مخاوفها من تموضع قوى دولية مثل الصين وروسيا في الصومال حال استمر الغياب الأميركي ميدانيا، وقد ذكر “علي” أن هذا أمر مستحيل الحدوث في ظل وجود قوات أميركية، لكن بغياب تلك القوات لا شيء مستبعد في الصومال صاحب الموقع المهم والدولة المُفكَّكة، التي لا يمكن أن تبقى على وضعها الراهن دون أن تنال منها مطامع القوى الدولية الصاعدة. وقد ربط “علي” تحقيق تلك الأهداف بكيفية التعامل مع القيادة الصومالية الجديدة، حيث يمكن للولايات المتحدة قطع أشواط كبيرة في محاربة حركة الشباب وتبديد مخاوف تموضع قوات دولية أخرى معادية لواشنطن في الصومال.

في النهاية، يمكن القول إن مسيرة العشرين عاما من الدعم الأميركي السابق الذي انتهى عام 2021 دون أن تتمكَّن الصومال من إضعاف قوة حركة الشباب إلا جزئيا، تطرح مخاوف أقلها احتمالية انهيار الحكومة المركزية في البلاد في أي وقت وتحوُّل البلاد نحو قتال عشائري جديد، لذا فإن الولايات المتحدة التي لا تمتلك الرغبة أو القدرة على الإدارة الدقيقة لهذا البلد المضطرب بشدة تحتاج إلى إيجاد طريق يضمن دعم الحكومة المركزية وتمكينها، وهي إستراتيجية قد تؤتي ثمارها في وقف جحيم العمليات التي ترتكبها حركة الشباب، ومن ثم تفسح المجال لبناء دولة متماسكة في الصومال، وبالتأكيد بما يخدم المصالح الأميركية في المنطقة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.