“الاجتهاد” لفظ قديم يَرد في الحديث النبوي كما في حديث معاذ بن جبل المشهور، وإن تكلم في إسناده بعض المحدثين ولكنه حديث مشهورٌ عند الفقهاء والأصوليين. وأصلُ الاجتهاد -في اللغة- من الجهد وهو المشقة، ومن هنا شاع تعريفه بأنه عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال. ولا يُستعمل لفظ الاجتهاد إلا فيما فيه كُلفة وجهد؛ دع عنك أن تُسمى الخواطر والأقوال المرتجلة اجتهادًا أو حتى رأيًا؛ إذ لم يُبذل فيها نوع الجهد الواجب اللائق بها من شرطي الكفاءة والإحاطة بالمسألة التي محل إبداء الرأي.

ويكثر ورود لفظ الاجتهاد في رسالة الإمام الشافعي (ت: 204هـ) التي خصصها لما سمي لاحقًا علم أصول الفقه، وهو وإن استعمل الاجتهاد منهجًا لاستنباط الأحكام، فإنه تحدث أيضًا عن الاجتهاد في “العلم” ويبدو أنه عنى بهذا الاستعمال الثاني ما هو أعمّ من الفقه. ثم إننا نجد استعمال “الاجتهاد” في كتب علم الكلام بمعنى المسائل الظنية التي يقع فيها الخلاف، كما يَرد الحديث عن مقابله -وهو “التقليد”- في العقائد حيث يبحث العلماء في صحة إيمان المقلّد، كما نجد نقاشًا واسعًا حول مقولة “كل مجتهد مصيب” حيث نجد تقسيم الاجتهاد إلى اجتهاد في العقليات واجتهاد في الشرعيات؛ ما يعني أن الاجتهاد أوسع من مجرد استنباط الأحكام الفقهية العملية.

ومع ذلك، فقد تحول الاجتهاد إلى اصطلاح خاص بالأصوليين الذين يفردون له وللتقليد بابًا في كتبهم، ويمثل كل منهما (الاجتهاد والتقليد) نظرية تشتمل على جزئيات ومباحث تناقَش في أصول الفقه الذي يشكل الأسس النظرية والمعرفية للتقليد الفقهي المذهبي.

وفيما يخص الاجتهاد الفقهي تحديدًا، يقول الشافعي: “إن الله -جل ثناؤه- مَنَّ على العباد بعقول فدلهم بها على الفَرْق بين المختلف، وهداهم السبيل إلى الحق: نصًّا ودلالةً”. ومن ثَمَّ رأى الشافعي أن الاجتهاد هو طلب الحق الذي هو حكم الله، وهذا الحق إما أن يكون ورد فيه بعينه نصٌّ فيجب اتباعه، أو لم يرد فيه بعينه نص ففي هذه الحالة يجب “طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد”.

أي أن الشافعي افترض أن لله تعالى حكمًا في كل واقعة، ولكن سبيل معرفة هذا الحكم تارة بالنص المباشر وأخرى بالدلالة الكامنة في النص، والعقل هو الوسيط لمعرفة الفرق بين الأمور المختلفة، وإدراك النص والدلالة الكامنة فيه معًا، وبهذا اتسع سلطان النص ليشمل المنصوص وغير المنصوص الذي في النص دلالة عليه، ومن هنا جعل الشافعي الاجتهاد والقياس اسمين لمعنى واحد؛ أي أن الاجتهاد تقلص لديه إلى حدود القياس على النص فقط، وهو ما رفضه لاحقًا الأصوليون الشافعية وغيرهم، بل إن أبا حامد الغزالي قال: إن قول من قال إن الاجتهاد هو القياس غلطٌ، وهذا يعكس الفارق الزمني والمنهجي بين زمني الشافعي والغزالي حيث اتسعت الحوادث ومنهجية تقويمها أيضًا.

ونجد هذا التوسع في مشمولات الاجتهاد قبل ذلك لدى أبي بكر الجصاص (370هـ) الذي أوضح أن الاجتهاد -في العرف وفي عادة أهل العلم- مخصوص بأمرين: الأول: المسائل غير المنصوصة حيث لا نجد لله تعالى عليها دليلاً قائمًا يوصل إلى العلم بالمطلوب منها على سبيل القطع أو الجزم. والثاني: المسائل الظنية التي يعسر فيها إصابة عين المراد، فيكفي فيها غلبة الظن الموجِب للعمل؛ أي المسائل التي لم يُكَلَّف فيها الإنسان إصابة المطلوب بعينه، وهذا يذكر بالتفريق الذي أقامه بعض الفلاسفة بين الشيء في ذاته (وهو قطعي ولا يتعدد)، والشيء كما يبدو لنا (وهو ظني ويتعدد)، فشأن مسائل العمل أنها يكفي فيها غلبة الظن، وأنها قد تتعدد فيها التأويلات؛ بناء على اختلاف مناهج النظر والتأويلات.

فالاجتهاد -وفق الجصاص- يشتمل على 3 أمور:

القياس المشتمل على علة مستنبطة، أي استنباط علة للحكم تُمكن من تعميم نفس الحكم حيث قامت العلة نفسها؛ لأنها تكون حينئذ مناط الحكم، وهذا بحث عقليٌّ بامتياز؛ إذ إنه بحث في معقول الحكم. وما يغلب على الظن من غير وجود علة، كالاجتهاد في معرفة القِبلة ونفقة المرأة ومهر المثل وغير ذلك من المسائل، وهذه مسائل تقديرية مردها إلى اطمئنان القلب (كما في معرفة اتجاه القبلة) أو العرف الاجتماعي (كما في المهر). والاستدلال بما سماه الجصاص “الأصول المتفق عليها”، كاعتبار أن الأصل في المرأة الحيض مثلاً، أو أنها لا تَجمع بين زوجين في وقت واحد، وهي معانٍ كلية أشبهت البدهيات العقلية التي يُستند إليها في بناء التقويمات ولا تفتقر هي في ذاتها إلى برهان أو إثبات؛ لأنها معان مشتركة.

الاجتهاد بوصفه فعالية، هو معنى أوسع من المعنى الاصطلاحي، وهذا النوع محل اتفاق؛ لأنه من طبيعة الفقه الإسلامي نفسه وهو ما يميز عالِمًا عن آخر في تاريخ الإنتاج العلمي

فالاجتهاد الفقهي كان عملاً واسعًا، ومحاولة تقييده بالقياس لم تنجح، وقد آل التنظير للاجتهاد فيما بعد إلى الحديث عن نوعين من مصادر الاجتهاد: المصادر النصية (نصوص القرآن والسنة، والإجماع المستند إلى نص، والقياس على النص)، والمصادر غير النصية التي وقع الخلاف في تحديدها (ومنها المصلحة المرسلة والعرف وغير ذلك). بل إن الاجتهاد -بهذا المعنى الاصطلاحي- هو فعل “المجتهد”، أي أنه خاص -بحسب الشافعي- بمن عَرف الدلائل على الحق في ظل غياب النص المباشر على حكم الله في الواقعة، وهو -بحسب الجصاص- “بذل المجهود فيما يقصده المجتهد ويتحراه”، ومن هنا سمي اجتهادًا؛ لأنه استفراغ الوسع من أهله في محله.

ولكن الأمور الثلاثة التي ذكرها الجصاص ضمن مشمولات الاجتهاد، تترك أيضًا مجالاً للمكلف كما في المسألة رقم (2) من المسائل الثلاث. وإذا استعرضنا أدبيات الفقه وأصوله وما يتفرع عنها من فروع معرفية، نجد ألوانًا متعددة من ممارسة الاجتهاد بالمعنى الواسع الذي لا يتناول أصول وقواعد المذهب ولكن يتناول تفاصيله النظرية والتطبيقية، وبناء على هذا يمكن أن نميز فيه بين مستويين في رأيي:

الأول: الاجتهاد بوصفه رتبة اصطلاحية ضمن هرمية التقليد الفقهي داخل كل مذهب.

والثاني: الاجتهاد بوصفه فعالية فكرية يستلزمها التقليد العلمي عامة، وما ينطوي عليه من التصنيف في العلم وبناء اللاحق على السابق، وتهذيب مسائله وتحريرها، وتحقيق القول فيها (والمحققون في كل علم نَزْر يسير).

وإذا ما ميّزنا بين هذين المستويين أمكن لنا أن نحل إشكالات عديدة يقع فيها الالتباس والخلط؛ نتيجة عدم تحرير المفاهيم. فالنقاشات التي كانت تدور بين بعض الفقهاء وكتّاب الطبقات حول بلوغ عالم ما درجة الاجتهاد من عدمه إنما كانت تبحث في رتبة الاجتهاد الاصطلاحية لا الاجتهاد بمعنى الفعالية والملكة. فالتقليد الفقهي يقسم عموم الناس إلى مجتهدين من جهة، ومقلدين من جهة أخرى. والتقليد المذهبي يقسم المجتهدين في الجملة إلى مجتهد مطلق ومجتهد داخل المذهب المعين، ومن ثم فالنقاش حول شخص معين أنه بلغ رتبة الاجتهاد أو لا هو نقاش اصطلاحي داخل التقليد المذهبي ووفق معاييره، وبحسب السلطة العلمية لعلماء المذهب نفسه.

ومن هنا قيل عن المازري (ت 536هـ) -مثلاً- إنه “كان آخر المشتغلين من شيوخ إفريقية (تونس) بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر”؛ رغم أنه لم يخرج عن المذهب المالكي، وقال الذهبي (ت: 748هـ) في حق أبي بكر بن العربي (ت: 543هـ): “كان القاضي أبو بكر أحد من بلغ رتبة الاجتهاد فيما قيل”، وقال تاج الدين السبكي الشافعي (ت: 771هـ): “المحمدون الأربعة محمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن خزيمة وابن المنذر من أصحابنا، وقد بلغوا درجة الاجتهاد المطلق، ولم يُخرجهم ذلك عن كونهم من أصحاب الشافعي المخرّجين على أصوله، المتمذهبين بمذهبه؛ لوفاق اجتهادهم اجتهادَه”، وقد استمر مثل هذا مما نجده في كتب التراجم عمن كملت له شرائط الاجتهاد وآلاته حتى إن ابن رشد الحفيد (ت: 595هـ) رأى أنه لا يخلو زمان من مجتهد.

أما الاجتهاد بوصفه فعالية، فهو معنى أوسع من المعنى الاصطلاحي، وهذا النوع محل اتفاق؛ لأنه من طبيعة الفقه الإسلامي نفسه وهو ما يميز عالِمًا عن آخر في تاريخ الإنتاج العلمي. فإذا كان الاجتهاد بوصفه رتبة أو درجة هو فعل نخبة؛ لأنه صناعة وتخصص علمي دقيق، فإن الاجتهاد بوصفه فعالية هو فعلٌ عامٌّ من صميم الفقه نفسه؛ لأن الفقه ذو طبيعة عملية وعامة ويخوض -باستمرار- جدلاً بين النص والواقع المتغير، وبين المبدأ أو الحكم العام وتطبيقاته في مختلف الأزمنة والأمكنة والأشخاص وباختلاف الأحوال، وهو ما دفع إلى تنظيرات تتصل بالنص وبالواقع في أصول الفقه، كما تجلى ذلك في المصادر النصية (وفق منهج تأويلي ثري)، والمصادر غير النصية التي تتناول أساسًا المحل والسياق الذي سيتم تنزيل المبدأ عليه، ومن ثم صارت تسعة أعشار الفقه في ما سمي بالاجتهاد بتحقيق المناط أي تنزيل الفقه على الوقائع والأعيان بعد التحقق من توفر مناطات الأحكام.

ورغم أن الشاطبي (ت: 790هـ) أكثر في “الموافقات” من الإحالة إلى كتب الأصول ليتجنب الخوض في مسائل أصولية، فقد خصص بابًا للاجتهاد، وفي ظني أنه إنما فعل ذلك ليضيف معنى جديدًا، وهو أنه قسم الاجتهاد إلى نوعين:

النوع الأول: “لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة”، وهو تحقيق المناط أي تحديد محل الحكم الذي يُراد تطبيقه كوصف العدالة المطلوبة للشهادة، وتحديد من تتحقق فيه ومن لا تتحقق فيه مثلاً.

والنوع الثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا، وهو الفعل التخصصي.

فالاجتهاد الأول -وهو تحقيق المناط- سبقه إلى تقريره أبو حامد الغزالي (ت: 505هـ) وقال عنه: “هو ضرورةُ كل شريعة”، ولكن الشاطبي أضاف إلى ذلك أنه قسمه إلى قسمين: تحقيق المناط العام، وهو الذي يختص بالأنواع، وهو المعنى الذي بحثه الغزالي، وتحقيق المناط الخاص وهو المرتبط بالأشخاص الذين تتنوع أحوالهم ويختلف الحكم بحسب كل شخص وحاله وحظوظ نفسه، وهنا إما أن يقرر الحكم بناء على ما يعرف من حاله أو أن يستعين بمن يَخْبُر حالَه فيساعده على تقرير الحكم المناسب له.

فالاجتهاد بوصفه فعالية يشترك فيه المجتهد والمكلف معًا على تفاوت بين المكلفين أنفسهم، ومن هنا قال ابن العربي في سياق الحديث عن اجتهاد المكلف: “الاجتهاد والتعويل على العلاماتِ والأماراتِ أصلُ الشريعة في المشكلات، وهو المَفْزَعُ في الأمر والنهي والحلال والحرام”؛ لأن الحوادث والمستجدات لا تنقطع، وهي بحاجة -باستمرار- إلى استكشاف حكم الله فيها وهو فعل الفقيه عامة، وثمة كذلك حاجة إلى تنزيل الحكم على الوقائع والأحوال وهو فعل المكلف واجتهاده ليستمر سلطان الشريعة ولا يخلو الزمان عن تطبيقها، وهذا معنى وفاء الشريعة للوقائع وصلاحيتها لكل زمان ومكان وأنه لا تخلو واقعة عن حكم لله فيها، ومن هنا كانت وظيفة الاجتهاد -بعمومه- هي الكشف عن مراد الله نظريًّا، وتنفيذه عمليًّا أو التصرف وفقه حتى تقع إرادة المكلف على وفق إرادة الله تعالى.

هذه المعاني التي نشرحها هنا، توضح كيف أن كثيرًا من النقاشات -حول الاجتهاد- التي سادت منذ سبعينيات القرن الـ20 كانت مدفوعة بأسئلة الحداثة أكثر مما هي ناتجة عن دراسة للفقه الإسلامي نفسه ومنطقه الخاص وتاريخه العملي، ولذلك فإن سردية أن الاجتهاد باب يُفتح ويُغلق سردية لا تعكس واقع الفقه الإسلامي لا نظريًّا ولا عمليًّا، كما أن تصوير فكرة “براغماتية الفقه الإسلامي” على أنها اكتشاف تغدو لا معنى لها أيضًا؛ لأن براغماتية الفقه (بمعنى كونه عمليًّا ومتفاعلاً مع تبدلات الواقع وإكراهاته) مسألة من طبيعة الفقه الإسلامي الذي لا يفتأ يوازن -باستمرار- بين الواقع والواجب (بتعبير ابن قيم الجوزية)، أو بين المبدأ وتطبيقاته المتجددة والمتغيرة باستمرار، وهو ما صار يعرف في حقل الأخلاق بـ(casuistry ethics).

ولكن حين تتم دراسة الفقه من منطلق الحداثة وأسئلتها، ويتم الافتراض لفترة من الزمن أن الفقه جامد وأنه غير قادر على مواكبة الوقائع المستجدة التي فرضتها الحداثة، تغدو حينها فكرة براغماتية الفقه كما لو أنها اكتشاف!

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.