تونس – يقف تاجر الذهب صلاح الدين الكافي متسمّرا أمام محله المتلألئ بالحلي والمصوغ في سوق البِرْكَة؛ سوق العبيد قديما الذي تحول فيما بعد إلى سوق الذهب في تونس. يرتدي هذا التاجر جبة مزخرفة وشاشية تقليدية، موجها بصره بعيدا مترقبا بشغف قدوم الزبائن.

تبدو الحركة بطيئة مع بداية الصباح وسط هذا السوق المجاور لمبنى رئاسة الحكومة التونسية بالقصبة، لكن سرعان ما يدبّ النشاط وسط النهار مع قدوم العديد من النساء في مجموعات لمشاهدة الحلي الفاخرة المعروضة على واجهات محالّ المصوغ المشعة بالأنوار.

ومع حلول صلاة الظهر يتصاعد صوت الأذان من جامع الزيتونة القريب فتعمّ المكان سكينة ساحرة، يشق الطريق أمام أعين صلاح الدين الكافي فوج من السيّاح الأجانب تتبعهم مجموعة من رجال الأمن لحراستهم، يُحدق السائحون بإعجاب في واجهات محال الذهب في السوق.

سوق البِرْكَة يعرض مجموعة واسعة من الحلي الذهبية (الجزيرة)

منارة مضيئة

يعرض التجار هناك مجموعات نفيسة من الذهب الأبيض بأسعار متفاوتة، يبلغ سعر الغرام الواحد من الذهب 180 دينارا (60 دولارا). ويستمع الزوار ما إن تطأ أقدامهم مشارف السوق إلى وشوشة صادرة من العديد من التجار الذين يتلقفونهم إما لبيع مصوغهم أو شراء الذهب المستعمل.

أمضى التاجر صلاح الدين الكافي 6 عقود كاملة في سوق البِرْكَة حيث نهل من فنون النقش على الذهب والفضة من أقدم الحرفيين التقليديين. وفي رأيه فإن السوق عرف منذ القدم تحولات كبيرة جعلته قبلة مشعة للزائرين ومنارة مضيئة من منارات المدينة العتيقة.

وقديما لم يكن سوق البِرْكَة إلا سوقا للنخاسة يُباع فيه الرقيق في حقبة ولي العهد العثماني يوسف داي (1610-1637) حسب ما دوّنه العلامة أبي عبد الله الشيخ محمد ابن أبي القاسم الرعبين القيرواني المعروف بأبي دينار في كتابه “المؤنس في أخبار إفريقية”.

تاجر الذهب صلاح الدين الكافي تطلع لتحس المبيعات خلال شهر رمضان/سوق البِرْكَة/المدية العتيقة/العاصمة تونس/مارس/آذار 2022 (صورة خاصة)
تاجر الذهب صلاح الدين الكافي (يمين) يتطلع إلى تحسن المبيعات في شهر رمضان المبارك (الجزيرة)

وفي عام 1846 ألغى أحمد باشا باي -عاشر البايات الحسينيين- الرق والعبودية في تونس، ثم تحوّل سوق البِرْكَة -الذي سمي على هذا النحو نسبة إلى الإبل التي كانت تبرك وتقعد في سوق العبيد- إلى سوق للذهب فأضحى أحد أبرز المعالم السياحية في العاصمة تونس.

عرف سوق البركة انتعاشة لا مثيل لها في السبعينيات، إذ كان الإقبال على الذهب والحلي مرتفعا بخاصة في شهر رمضان موسم الهدايا والأفراح. يقول تاجر الذهب صلاح الدين الكافي إن أخف وزن لحلي الزفاف في ذلك الوقت كان لا يقل عن 50 غراما من عيار 18.

سوق البِرْكَة يعرض مجموعة واسعة من الحلي والمصوغ/سوق البِرْكَة/المدية العتيقة/العاصمة تونس/مارس/آذار 2022 (صورة خاصة)
من المتوقع أن  يشهد سوق البِرْكَة سوق البِرْكَة إقبالا متزايدا مع النصف الثاني من شهر رمضان (الجزيرة)

ركود وآمال

ويضيف الكافي للجزيرة نت أنه باع ذات مرة في سوق البِرْكَة حليا للزفاف مكونا من قلادة وأقراط وخاتم وسلسلة يد بنحو 280 دينارا (90 دولارا)، لكن ثمن هذا الحلي حسب أسعار السوق اليوم يناهز 5 آلاف دينار (1600 دولار) بحكم ارتفاع قيمة الذهب، وفق تأكيده.

ورغم صعوبة الوضع المالي الذي يعاني منه التونسيون يأمل صلاح الدين الكافي أن يشهد سوق البِرْكَة إقبالا متزايدا مع النصف الثاني من شهر رمضان، ويقول إن تجارة الذهب شهدت ركودا أثر في مردود التجار، لكن الأعراس وهدايا مواسم الخطب والزفاف والأعياد تساعد على التعافي.

سوق "البِرْكَة" تحول من سوق للنخاسة لسوق لبيع الذهب والمجوهرات (الجزيرة نت)
سوق “البِرْكَة” تحوّل من سوق للنخاسة إلى سوق لبيع الذهب والمجوهرات (الجزيرة)

وغير بعيد عن محل صلاح الدين الكافي تعاين الشابة أميرة العكرمي مع والدتها وأخواتها مجموعة من الحلي المعروضة. تستعد هذه الفتاة للخطوبة في الـ27 من شهر رمضان، وكما جرت العادة اصطحبت أهلها لمشاركتها في اختيار المصاغ.

وتقول للجزيرة نت إنها لجأت إلى سوق البِرْكَة لأنه يعرض مجموعة واسعة من المصاغ من مختلف التصاميم بأسعار متفاوتة، لكن قلة درايتها بجودة الذهب وحتى بمفاوضات البيع والشراء جعلتها تستنجد بأهلها أملا في الحصول على مصوغ بسعر معقول.

وفي قلب سوق البِرْكَة ينتصب مكتب أمين السوق الذي تسند إليه المسؤولية عن حماية الزبائن وتحديد قيمة ومعيار الذهب الذي يقدّم له لمعاينته. ويسعى أمين السوق إلى ضمان حسن سير المعاملات وحل أي نزاعات قد تطرأ في السوق بين العملاء والبائعين.

جانب من السواح الأجانب الذين زاروا السوق/سوق البِرْكَة/المدية العتيقة/العاصمة تونس/مارس/آذار 2022 (صورة خاصة)
بعض رواد سوق البِرْكَة (الجزيرة)

ممارسات مخلّة

ورغم ذلك لا تزال بعض الممارسات المخلّة بالقانون منتشرة لدى بعض الدخلاء في سوق البِرْكَة الذي أثروا في سمعة السوق، حسب ما أقره علي بوعزيزي عضو الغرفة الجهوية لصانعي المصوغ بتونس وأمين مال تعاضدية النجم الذهبي، في تصريحه للجزيرة نت.

وتعاضدية النجم الذهبي أُسّست في مطلع الستينيات وتؤدي دور الوسيط في اقتناء حصص التجار من الذهب من البنك المركزي التونسي من مالهم الخاص ثم تقديمه إليهم. ويحدد القانون حصة كل حرفي في المصوغ بقدر 200 غرام من الذهب الخام من عيار 24 في الشهر الواحد.

وللحصول على عيار 18 من الذهب الذي سيقع تصميمه ثم بيعه يقوم حرفيو المصوغ في سوق البِرْكَة بمزج حصتهم المحددة شهريا من الذهب بنحو 33% من النحاس والفضة. ويقول البوعزيزي إن سوق البِرْكَة يضم العديد من الحرفيين المبدعين في تصاميم الحلي.

جانب من السواح الأجانب الذين زاروا السوق/سوق البِرْكَة/المدية العتيقة/العاصمة تونس/مارس/آذار 2022 (صورة خاصة)
سياح أجانب زاروا سوق البِرْكَة في المدينة العتيقة في العاصمة تونس (الجزيرة)

لكنه أشار إلى أن طلبات الحرفيين في مجال المصوغ على الذهب لدى تعاضدية النجم الذهبي قد تراجعت في السنوات الأخيرة، ليس بسبب انخفاض مبيعاتهم فحسب وإنما بسبب إقبال بعضهم على شراء الذهب بأسعار أقل خارج الأطر القانونية بلا فواتير هربا من الرقابة.

ويشتري بعض التجار، وفق بوعزيزي، الذهب من “تجار الشنطة” وهم تجار جائلون يخفون الذهب في قفف وحقائب لبيعها لحرفيي المصوغ بسعر أقل، مع أنها تحمل أختاما مزورة تشبه الطوابع المستعملة من دار الطابع بوزارة المالية المستخدمة لتحديد عيار الذهب وجودته.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.