ما وُصف بأنه أكبر فشل أمني واستخباراتي وعسكري لدولة الاحتلال منذ حرب أكتوبر 1973 لم يكن مجرد مباغتة ممتازة، بل خطة مركبة استمرت لمدة عامين، بدأت بذكاء استخباراتي من ناحية حماس بحيث أقنعت استخبارات دولة الاحتلال أنها أُنهكت من القتال، بينما يقوم مئات المقاتلين بتدريبات متقدمة لما سيصبح فيما بعد عملية “طوفان الأقصى”.

ثم في أثناء العملية نفسها بدأت موجة أولى من الصواريخ تلاها استهداف لمراكز القيادة والسيطرة والاتصالات ثم اختراق استثنائي بمظلات طائرة تعمل بالمحركات تُستخدم أصلا من قِبل هواة الطيران الشراعي، كل ذلك تم تصويره وبثه على الإنترنت في أثناء قيام المعركة على الأرض للأغراض الإعلامية.

لكن لا تظن أن هذه كانت المرة الأولى التي تفاجأت فيها قوات جيش دولة الاحتلال الإسرائيلي بإمكانات المقاومة، في الواقع فإن الاحتلال منذ سنوات يعرف أن المقاومة لن تزداد إلا تطورا وقوة (1)، ولنبدأ بالحرب على غزة في مايو/أيار 2021، التي نشأت بعد أن قررت المحكمة الإسرائيلية العليا إخلاء منازل سبع عائلات فلسطينية في حي الشيخ جراح في القدس وإعطاءها لمستوطنين يهود، عكست هذه الحرب ضد حماس واقعا جديدا يعاني الإسرائيليون للتكيف معه إلى اليوم.

إنهم يقتربون من اللحظة الحاسمة

تشير التقديرات (2) إلى أن حماس أطلقت خلال هذه الحرب نحو 4300 صاروخ على أهداف إسرائيلية على مدار 11 يوما متتالية، في قفزة كانت مفاجئة بالنسبة للإسرائيليين، ليس في عدد الصواريخ فقط لكن الأهم في دقة الهجمات، فما يقدر بنحو 50% من الصواريخ التي أُطلِقت سقطت في مناطق مأهولة بالسكان مقارنة بـ22% في عام 2012 و18% في عام 2014.

ولكي نفهم ما حصل دعنا نرجع بالتاريخ إلى أوائل الألفية، حيث تمكنت حركة حماس من تطوير الصاروخ “قسام 1” بقدرات متواضعة جدا؛ أسطوانة فولاذية بوزن 35 كيلوغراما فقط وطول أقل من مترين ووزن 1.5 كيلوغرام للرأس الحربي ومدى يصل إلى كيلومترين ونصف، تطور خلال الإطلاقات الأولى على إسرائيل إلى ما بين 3-4.5 كيلومترات فقط.

صُنع الصاروخ من مكونات محلية تماما في غالبها؛ مزيج صلب من السكر ونترات البوتاسيوم، والأخير هو سماد شائع، بالإضافة إلى مادة تي إن تي ونترات اليوريا في الرأس الحربي، والأخير هو كذلك سماد شائع آخر، كانت تكلفة بناء هذا الصاروخ نحو 800 دولار فقط وقتها، وهي تكلفة ضعيفة جدا في هذا النطاق.

الآن قارن ذلك بصاروخ “عياش 250” الذي استهدفت به حماس “مطار رامون” على بُعد 220 كيلومترا أثناء حرب 2021، إنه الصاروخ صاحب أطول مدى إلى الآن في ترسانة حماس (250 كيلومترا) وصاحب أقوى تأثير تدميري على الأرض.

وإذا راقبت التتالي الزمني لتطور صواريخ المقاومة فسوف تلاحظ أن ما يُخيف الإسرائيليين ليس فقط تصاعد المدى ولكن زيادة الدقة كذلك، والتسارع في التطوير، فحجم الإنجاز الذي يحققه الفلسطينيون في عام يتضاعف في العام الذي يليه، منذ “قسام 2” في 2002 بمدى 9 إلى 12 كيلومترا، إلى “قسام 3” في 2005، بمدى 15-17 كيلومترا، إلى “إم 75” في 2012 بمدى يصل إلى 80 كيلومترا، إلى رنتيسي 160 في العام نفسه ويصل مداه إلى 160 كيلومترا، وهذه فقط أمثلة.

ولهضم قدر التطور الذي أحرزته حماس والمقاومة بشكل عام مؤخرا فقط تأمل البيانات التالية: أحصت إسرائيل أكثر من 2500 صاروخ أُطلِقت من قِبل حماس صباح يوم السبت الماضي وحده (صباح يوم عملية طوفان الأقصى)، وهذا يعادل تقريبا أربعة أضعاف (3) الرقم القياسي السابق في يوم واحد وهو 670 صاروخا، في حرب 2021! بل وسجلت دولة الاحتلال وابلا بمعدل 137 صاروخا على تل أبيب في أقل من خمس دقائق.

مع هذا المعدل، والإمكانات التي تضاف إلى الصواريخ القادمة من حماس بحيث تساعدها على التخفي من القبة الحديدية وتضيف إلى دقتها، فإن المقاومة الفلسطينية ربما تقترب عاما بعد عام من اللحظة الحاسمة، تلك التي ستُحيَّد فيها القبة الحديدية تماما، وسوف يغير ذلك من كل شيء.

المسيرات: جحيم للسماوات الإسرائيلية

على جانب آخر، باتت المقاومة الفلسطينية تعتمد بشكل متزايد على المسيرات وخلال الحرب في 2021 اعترضت القبة الحديدية 6 وحدات منها، بينما أسقطت طائرة أخرى من طراز “إف-16” تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي مجموعة أخرى، ولم تمثل خطورة كبيرة في تلك الأثناء، يعيدنا ذلك (لغرض المقارنة) إلى عملية طوفان الأقصى، حيث تشير مقاطع الفيديو التي نشرتها حماس إلى أن أسطولا من المسيرات بسيطة الصنع ساعد في تمهيد الطريق لهجومها الضخم.

خلال هذه العملية (4) شكَّلت المسيرات التي تُقاد عن بُعد عنصرا تكتيكيا رئيسيا للهجوم الأوسع، وبحسب التحليل الذي أجرته شركة “درون سيك” الخاصة للاستخبارات فإن حماس استخدمت بذكاء نوعين رئيسيين من المسيرات، الأولى تجارية حُمِّلت بالمتفجرات، والثانية مسيرات انتحارية ذات أجنحة ثابتة تُلقي بنفسها على أبراج الحراسة والأبراج الأمنية والمراكز الحدودية، وأبراج الاتصالات وكاميرات المراقبة الإسرائيلية بدقة، بل إن بعض اللقطات تُظهر مسيرات فلسطينية تقوم بإسقاط دبابة إسرائيلية من طراز “ميركافا-4”.

كان هذا نجاحا باهرا في سياق تطوير حماس لأدواتها في نطاق المسيرات، ومع انتشار المسيرات الأكثر تطورا والأرخص ثمنا في المنطقة، من المتوقع أن تصبح حماس وغيرها من فصائل المقاومة أكثر مهارة في حرب المسيرات. ويأتي هذا في سياق مهم، فقد كشفت وزارة الدفاع الإيرانية مؤخرا (5) عن مسيرة سُميت “مهاجر 10″، قادرة على البقاء في الجو يوم كامل بسرعة 210 كيلومتر في الساعة، ما يمكنها من الوصول إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأضافت الوزارة أن المسيرة يمكن أن تحمل معدات مراقبة إلكترونية وكاميرا.

حرب المسيرات عموما تضع إسرائيل في خطر أساسي، حيث يمكن للمسيرات الانطلاق في موجة أولى تستهدف إرباك النظام الدفاعي الإسرائيلي، ثم تُطلق الصواريخ باتجاه إسرائيل إلى جانب العمليات على الأرض، في عملية ثلاثية مركبة يُعتقد أنها ستنجح في اختراق دفاعات إسرائيل بشكل لم يحصل من قبل.

حرب الجبهات المتعددة

في السياق ذاته، فإن أصواتا عدة داخل الجيش الإسرائيلي تتبنى مخاوف متزايدة بشأن احتمالات التصعيد الأفقي، أي فتح جبهات متعددة في الوقت نفسه مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وما يبدأ في غزة فلا بد أنه في إحدى المراحل سيفعّل اشتباكات في الضفة الغربية وجنوب لبنان ومرتفعات الجولان، الأمر الذي يمثل خطورة حقيقية من وجهة نظر الاحتلال.

في الواقع كان هذا النقاش دائرا لأكثر من عقد من الزمان داخل أروقة وزارة الدفاع الإسرائيلية، وخاصة بعد أن أطلق يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لشعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية اسم “حلقة النار” (6) على إستراتيجية عسكرية جديدة يمكن أن يستخدمها خصوم إسرائيل. وحلقة النار هي إستراتيجية مفترضة تتضمن بناء حلقة من النار (الصواريخ والمسيرات) حول دولة الاحتلال الإسرائيلي من جميع الجهات، وإعداد هجمات منسقة تهدف إلى إرباك الاحتلال بشكل متزامن.

ووفقا للصحفي عاموس هاريل من صحيفة هآرتس في حوار (7) مع جين-لوب سمعان، وهو زميل أبحاث أول في معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة سنغافورة الوطنية، فإن الجيش الإسرائيلي ربما يستعد بالفعل لـ”حملة على ثلاث جبهات”، ستكون القوات الإسرائيلية في موقف هجومي في اثنتين منها، وهما غزة ولبنان، بينما في سوريا ستكون في موقف دفاعي، مع التركيز على لبنان بوصفها مركزَ ثقلٍ أساسيا، نظرا لحجم مخزون حزب الله من الصواريخ الذي يقدر بنحو 130 ألف صاروخ.

تغيير العقيدة الدفاعية

فريقا من المخططين داخل الجيش الإسرائيلي يقترح منذ عام 2020 أن تتبنى إسرائيل عقيدة دفاعية جديدة للتماشي مع التهديدات المتلاحقة من قبل المقاومة. (الصورة: الأناضول)

لسنوات طويلة، كانت القبة الحديدية هي جوهرة التاج بالنسبة للجيش الإسرائيلي، وتستخدمها إسرائيل للترويج إلى أنها قوة لا تُقهر، ورغم أن هذا الكلام غير مؤكد كما أوضحنا في تقارير سابقة، فإن القبة الحديدية بالأصل نظام دفاعي، لا يمكن لها أن تفوز بالحروب، بينما لم تحقق العمليات الهجومية السابقة على غزة أهدافها كاملة، الأمر الذي أدى إلى تقويض مصداقية إسرائيل في مجال الردع.

وبناء على ما سبق فإن فريقا من المخططين داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي يقترح منذ عام 2020 أن تتبنى إسرائيل عقيدة دفاعية جديدة للتماشي مع هذه التهديدات المتلاحقة السالف ذكرها، بتحويل طبيعة الحرب التي يقودها الجيش إلى عمليات هجومية سريعة تعتمد على استخدام وحدات أصغر من الجنود مدعومة بقوة نيران هائلة تستهدف قوة تدميرية أكبر من المعتاد وبدقة أعلى، سُميت هذه الآلية “النصر الحاسم”.

تهدف العقيدة المقترحة إلى التصعيد في وقت مبكر جدا وبسرعة، وتعتمد على المناورة وأسلحة المواجهة (وهي صواريخ أو قنابل يمكن إطلاقها من مسافة كافية للسماح للأفراد المهاجمين بالتهرب من تأثير السلاح أو النيران الدفاعية من المنطقة المستهدفة) والعمليات المشتركة، والتركيز بشكل كبير على التكنولوجيا الجديدة وصولا إلى الحرب السيبرانية، في مواجهة مع عدو متطور عسكريا، في سيناريو متعدد الجبهات.

هذه الاستجابة لا تقول إلا شيئا واحدا فقط، وهو إن إسرائيل باتت تعرف أنها أمام مقاومة غير جامدة، بل هي مرنة تطور نفسها بشكل متسارع يوما بعد يوم، وتتكيف مع المتغيرات في المنطقة، بل إنها تفاجئ الجيش الإسرائيلي في كل مرة بتفوق مدهش في التخطيط والتنفيذ، وما حصل في “طوفان الأقصى” لم يكن إلا واحدة من هذه المفاجآت التي كانت كالعادة أكثر تطورا من سابقاتها.

_______________________________________

مصادر

  • 1- ‘Decisive Victory’ and Israel’s Quest For a New Military Strategy (اعتمد الكاتب على هذه الدراسة بشكل رئيسي )
  • 2- Gaza’s enhanced rocket technology challenges Israel’s defences
  • 3- How Hamas flooded Israel, killed hundreds and took another 100 hostage: A revolution in drone warfare dating back to Ukraine
  • 4- How Hamas likely used rudimentary drones to ‘blind and deafen’ Israel’s border and pave the way for its onslaught
  • 5- Iran unveils armed drone resembling America’s MQ-9 Reaper and says it could potentially reach Israel
  • 6- Iran’s ‘Ring of Fire’: A Growing Threat to Israel
  • 7- Decisive Victory’ and Israel’s Quest For a New Military Strategy
  • 8- TURN ON THE LIGHT, EXTINGUISH THE FIRE: ISRAEL’S NEW WAY OF WAR


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.