نبّه الفيلسوف الأميركي وليام جيمس إلى أن “مقدار صحة أي عقيدة سياسية مرتبط إلى حد كبير بمقدار النجاحات التي تتحقق عند ممارسة تلك العقيدة في الواقع”؛ لذلك تقع تلك النظرة في صلب الفلسفة البراغماتية التي ارتبطت بأسماء عدة فلاسفة أميركيين، وبالممارسة السياسية الأميركية. ومن هذه الفلسفة خرجت كلمة “البراغماتية السياسية”، التي تتعامل مع الوضع السياسي بشكل واقعي، كما هو، وليس كما ينبغي أن يكون، للوصول إلى النتيجة المرجوة وهي “النجاحات”.

جاءت مناسبة الافتتاحية أعلاه بعد التحول الحاصل في شكل البرلمان العراقي بدورته الخامسة، الذي جاء نتيجة انتخابات مبكرة سبقت موعدها الدستوري نتيجة النقمة الشعبية إبان احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي أفرزت عددا من النواب والكيانات الجديدة غير المرتبطة بالأحزاب المؤسسة للعملية السياسية بعد عام 2003، لتنتشر في الآونة الأخيرة عدة صور لأولئك النواب الجدد وهم يجتمعون بتلك الشخصيات والكيانات المؤسسة التي يتهمها الكثير من المواطنين العراقيين بأنها شريكة في ما حصل في العراق طوال الحقبة السابقة.

قد نتفق على أن انطلاق النواب الجدد بتطبيق تلك النسخة الجديدة من البراغماتية بمنظورهم أمر مبرر وفق رؤيتهم الواقعية للتحولات السياسية من جهة، ومن جهة أخرى قد تكون وجهة نظر الناقد بأن النواب الجدد قد انقلبوا على خطابهم الذي منحهم ثقة ذلك الجمهور وصوته في انتخابات 2021 أكثر واقعية.

ومما انتشر تلك الصور التي جمعت النائب سجاد سالم (أحد أبرز الشخصيات الفاعلة في احتجاجات تشرين في محافظة واسط) برجل الدين عمار الحكيم (زعيم تيار الحكمة)، وصور أخرى لرئيس “كتلة امتداد” علاء الركابي (أحد الشخصيات الفاعلة في احتجاجات تشرين في محافظة ذي قار) وهو يتناول وجبة الإفطار مع مقاتلين من قوات سرايا السلام التابعة لرجل الدين مقتدى الصدر.

شهد الرأي العام المحلي انقساما حول تلك الصور بين جمهور ناقم يرى أفعال النواب الجدد والكيانات الجديدة خيانة لجمهورهم الذي منحهم الثقة كنوع من معاقبة الأحزاب المؤسسة، وعدم الالتزام بخطابهم الانتخابي الذي ألزموا به أنفسهم وتبنيهم لمفاهيم المعارضة السياسية وعدم المشاركة في الحكومة، وجمهور آخر مدافع عن تلك الممارسات بكونها تندرج ضمن مفهوم البراغماتية، لا الأيديولوجية المعارضة للسلطة الحالية التي ترفض التعامل مع المستجدات المتلاحقة في الساحة السياسية العراقية بكل حيثياتها وتفاصيلها المتشعبة.

حسنا، دعونا نقبل التعايش مع هذا الانقسام الحاد، وهذا التخندق في النظر والقياس للابتكار السياسي عند هؤلاء النواب والكيانات. ودعونا نصمت قليلا ونكتفي بتكهن نتائج ابتكارهم للطفرة أو المتحور الجديد من البراغماتية السياسية، الذي يدّعون اختراعه ويراهنون على نجاحه، ولنناقش بعض الأمور معهم بمنطق ذلك المتحور الجديد.

قد نتفق على أن انطلاق النواب الجدد بتطبيق تلك النسخة الجديدة من البراغماتية بمنظورهم أمر مبرر وفق رؤيتهم الواقعية للتحولات السياسية من جهة، ومن جهة أخرى قد تكون وجهة نظر الناقد بأن النواب الجدد قد انقلبوا على خطابهم الذي منحهم ثقة ذلك الجمهور وصوته في انتخابات 2021 أكثر واقعية.

وهل سيؤدي ذلك الطور الجديد من البراغماتية السياسية، الذي يدّعي النواب الجدد ابتكاره، إلى إحداث نتيجة إيجابية كتحول جذري في مسار العملية السياسية، أو تصحيح لركائز خلل بنيوية في جسد النظام السياسي، أو تحقيق جزء مما يطمح إليه جمهورهم من الوصول لتوفير خدمات أساسية أو سبل عيش كريم؟

من خلال مراجعة حقبة ما قبل انتخابات 2021، سنجد أن نهج الآباء المؤسسين للعملية السياسية -الذي يشبه من حيث الشكل تلك الطفرة البراغماتية التي يمارسها النواب الجدد في الحقبة التي سبقت صعودهم- قد فشل فشلا مزدوجا. النهج الذي يتمثل في مجالسة من يتهمونهم بالطائفية والإرهاب، والكشف عن تمويل أميركي لمشاريع سياسية تناهض الوجود الأميركي في العراق، والتحالف مع ساسة متورطين بالفساد. ولكون ذلك النهج لم يحقق “النجاحات” التي ينتظرها الجمهور من جانب، ومن جانب آخر فقد أوصل الأحزاب المؤسسة لمرحلة خسرت فيها جزءا لا يستهان به من جمهورها، ناهيك عن انعدام قدرة جمهورها على الدفاع والتبرير لذلك النهج تحت أي ظرف أو حالة.

وذلك يؤكد بالدليل المجرب أن تلك الطفرة من البراغماتية التي يدعي النواب الجدد ابتكارها لا تمت من قريب أو بعيد بأي صلة بالفلسفة البراغماتية المعروفة، ولا بواضعيها من الفلاسفة، ولا حتى بتطبيق صحيح لشكلها المتعارف عليه في المجتمعات الأخرى. وهنا تتضح حقيقة أن ما يعرفه أولئك النواب الجدد لا يتعدى قراءة عناوين لعقائد سياسية، من دون أي إلمام بقراءة متأنّية لسردياتها وأسسها.

يجب أن يدرك النواب الجدد أن الحالة العراقية لا تحتاج إلى إنتاج نسخ مكررة من الطفرات البراغماتية المشوّهة، بقدر حاجتها لعقيدة سياسية واضحة تربط ممارساتها بمصالح جمهورها أو مصالح العراقيين جميعا، لا برغباتها الجامحة في ابتكار أو اختلاق طفرات فلسفية للبراغماتية المستمر فشلها طوال الـ19 عاما الماضية، وفشل كل من حاول ابتكار طفرات براغماتية وانتهاجه الإرضاخ الجماهيري بحجة أن ذلك الطور الجديد من البراغماتية سيحدث نجاحات مستقبلية. وبالتالي، لم تحقق تلك الوعود أي نجاحات من جانب، وخسرت تلك الأحزاب الكثير من جمهورها جراء ذلك التطويع القسري الذي جعلهم محط سخرية وتندر من الشريحة الكبرى بالمجتمع.

وأتمنى ختاما أن يتدارك النواب الجدد ما حصل من تداع وتصدع في جمهورهم، ويدركوا جيدا أن تكرار نسخ الفشل المتعاقب لمن سبقهم قد حدث نتيجة قلبهم لقاعدة المنطق باستخدام نفس أساليب سابقيهم من المجربين، وتوقعهم بحصد نتائج مختلفة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.