مقدمة الترجمة:

لماذا غزت الولايات المتحدة العراق حقا؟ وما الذي يخبرنا به هذا الغزو عن سياسة المحافظين الجدد التي لا تزال تُلقي بظلالها على السياسة الأميركية إلى اليوم؟ في هذا المقال، المنشور في مجلة “فورين أفيرز”، يجادل ستيفن وِرتهايم، الزميل الأول في برنامج إدارة شؤون الدولة الأميركية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي والمحاضر الزائر في كلية الحقوق بجامعة ييل والجامعة الكاثوليكية، أن عقيدة التفوق الأميركي كانت هي السبب الحقيقي وراء الغزو الكارثي، وأن هذه العقيدة لا تزال تُهدِّد بإشعال حروب أوسع نطاقا ما لم تغير الولايات المتحدة نظرتها إلى العالم.

نص الترجمة:

قبل عشرين عاما، غزت الولايات المتحدة العراق، وأمضت عقدا كاملا في تفكيك البلاد ومحاولة تركيبها من جديد، ثمَّ أمضت عقدا آخر في محاولة نسيان ما جَرَى. “لقد أتمَمْنا واجبنا، والآن حان الوقت لطيِّ تلك الصفحة”، هكذا تحدَّث الرئيس الأميركي السابق “باراك أوباما” أمام شعبه عام 2010 حين أعلن نهاية المهمة القتالية الأميركية في العراق (التي سرعان ما ثبُت أنها نهاية قصيرة). بحلول عام 2021، أتى الدور على الرئيس “جو بايدن” كي يَحُث بلاده على المُضي قُدُما وتجاوز كوارث عالم ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، حيث قال: “لقد طوينا تلك الصفحة”. ولكن هل طَوَت الولايات المتحدة صفحة حرب العراق حقا؟

على مدار العقدين الماضيين، رفض الأميركيون أن يمضوا قُدُما وينسوا العراق، ويرجع السبب في ذلك جزئيا إلى أن الجيش الأميركي لا يزال يحارب هناك وفي بضعة مواقع أخرى، والسبب الأهم أن البلاد لا يسعها أن تطوي الصفحة بدون قراءتها وفهمها. قد يكون مؤلِما أن يعود المَرء إلى دوافع القادة الأميركيين لغزو بلد لم يهاجم الولايات المتحدة أبدا، ولم يُخطط لمهاجمتها أصلا. وقد استوعبت واشنطن بالفعل الكثير من الدروس القاسية من حربها على العراق، وبات عامة صناع القرار والسياسيين والخبراء الأميركيين يرفضون مبدأ شن الحرب لتغيير نظام حاكم أو إعادة بناء دولة ما، كما اكتشفوا أن الديمقراطية نادرا ما تنشأ بفرضها من خلال فُوهَة مُسدَّس، وتحتاج إلى جهد شاق لتأسيسها وحمايتها، حتى في أعتى الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة نفسها.

عُرف أوباما بمعارضته للحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2002، ووصفه إياها بأنها “غبية” و”هوجاء”. ولعل موقفه من العراق مَثَّل نقطة التفوُّق الرئيسية له في حملته لنيل بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي. (رويترز)

إن تلك الدروس ضرورية بالفعل، لكنها غير كافية، إذ إنها تختزل حرب العراق في كونها خطأ على مستوى السياسات يمكن تصحيحه في خضم سعي الولايات المتحدة لتبوُّء موقعها بوصفها قوة مُهَيمنة على العالم، وهو موقع منحته لنفسها إبَّان نهاية الحرب الباردة. بيد أن قرار غزو العراق، في الحقيقة، نتج عن مهمة السعي للصدارة العالمية نفسها. لقد دفعت الرغبة في الهيمنة بالولايات المتحدة إلى تمويل جيش ضخم ونشره في كل أنحاء الأرض من أجل هدف وقائي في المقام الأول، وهو إثناء أي بلد آخر عن النهوض وتحدي السيطرة الأميركية. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، سعى مهندسو حرب العراق لتعزيز الحضور الأميركي في الشرق الأوسط وما وراءه، وبإظهارهم الشِّدة والحَزم في استهداف خصم مُزعِج في نظرهم لم يكن ضالعا أصلا في هجمات 11 سبتمبر/أيلول، بَرهَنت واشنطن على أنه لا فائدة من مقاومة القوة الأميركية.

بيد أن إستراتيجية “الصدمة والترويع” سرعان ما فتحت باب الفوضى والدمار والموت وموجة تمرُّد ضد القوات الأميركية، ومن ثمَّ كان من المفترض أن تسحب إخفاقات الحرب البساطَ من تحت مشروع الهيمنة الأميركية الذي أفرز تلك الحرب. ولكن مهمة الهيمنة والصدارة العالمية ظلت حيَّة. واليوم، بينما تواجه القوة الأميركية مقاومة متزايدة في شتى أنحاء العالم، تسعى واشنطن لمجابهة معظم تجليات تلك المقاومة في كل مكان؛ إصرارا منها على خلط مفهوم المصالح الأميركية بمفهوم بثِّ القوة الأميركية عالميا. وقد كانت نتيجة تلك العقلية أثناء لحظة “القُطب الواحد” قبل عشرين عاما مدمرة بما يكفي، أما الإصرار عليها اليوم في مواجهة قوى كُبرى مُسلحة بالرؤوس النووية فلن يخلق إلا دمارا أشد.

البلطجي الذي لا مفرَّ منه

لقد تشكَّلت الأسس الأيديولوجية لحرب العراق قبل أن تتقدَّم الدبابات الأميركية إلى بغداد عام 2003. فقبل أن تنطلق نيران الحرب بنحو عشر سنوات، عَكف ثلاثة من رجال البنتاغون، الذين صاروا فيما بعد مسؤولين بارزين في إدارة “جورج بوش” الابن، على بلورة مفهوم جديد لتسيير دفة الإستراتيجية الأميركية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وهُم “ديك تشيني” و”كولِن باول” و”بول وولفويتز”. ورغم انهيار الاتحاد السوفيتي، أراد هؤلاء الثلاثة من واشنطن أن تواصل بثَّ تفوُّقها العسكري بطول الأرض وعرضها. وفي عام 1992، صاغ “باول”، رئيس هيئة الأركان المشتركة حينئذ، هذا الهدف بصراحة شديدة في حديث أمام الكونغرس، قائلا إن الولايات المتحدة يجب أن تمتلك “القوة الكافية” كي “تردع أي منافس لها عن أن يحلم حتى بأن يتحدَّانا على مسرح النظام الدولي. إنني أريد أن أكون البلطجي الواقف على ناصية الحارة”.

بول وولفويتز (رويترز)

لم يختلف “تشيني” كثيرا مع هذا الهدف، فقد عمل وقتها وزيرا للدفاع في إدارة “جورج بوش” الأب، وأوكل إلى نائبه حينها “وولفويتز” أن يُشرف على صياغة “دليل التخطيط الدفاعي“، وهو إطار شامل للسياسة الأمنية الأميركية كُتب عام 1992. وقد شرح “وولفويتز” وزملاؤه في 46 صفحة كيفية المحافظة على الهيمنة العالمية للولايات المتحدة في غياب أي منافس قوي. وقالوا إن مربط الفرس هو التفكير والتحرُّك بشكل وقائي، أي إن الولايات المتحدة يجب أن تتحرَّك لمنع ظهور منافسين جُدُد لها من الأصل ما دامت ليست بصدد منافس جِدي فعلي (في ذلك الوقت)*، وأنها يجب أن تُثني “منافسيها المُحتملين عن مجرد التطلُّع إلى لعب دور إقليمي أو دولي أكبر”. ولتحقيق ذلك الهدف، تحتاج الولايات المتحدة إلى امتلاك جيش ضخم تتضاءل أمامه بقية الجيوش ويستطيع أن يخوض حربَيْن كبيرتَيْن في الوقت نفسه، وكذلك صيانة تحالفاتها ووضع قواتها في كل منطقة من العالم تعتبرها واشنطن ذات أهمية إستراتيجية. باختصار، كان على واشنطن أن تستبدل بنظام توازن القوى المعمول به سابقا نظام الحضور الطاغي للقوة الأميركية.

بموجب تلك الرؤية للهيمنة الأميركية، كان من المفترض أن تنتهج الولايات المتحدة سياسات “من أجل الخير”، أي أن تستوعب مصالح حلفائها الأساسية وتعمل من أجل رخاء العالم كله تقريبا. وفي خضم صياغة تلك السياسة الخارجية، أوصى مسؤولو البنتاغون بأن تضع بلادهم “مصالح البلدان الصناعية المتقدمة في اعتبارها بما يكفي بحيث تُثنيها عن تحدي قيادتها أو قلب النظام الاقتصادي والسياسي القائم”. ويعني ذلك أن تعريف الهيمنة الأميركية لم ينطوِ فحسب على تثبيط الحضور الأمني لأعداء الولايات المتحدة، بل ولحضور حلفائها أيضا. وثمَّة مشكلتان أساسيتان في تلك النظرية، وسرعان ما ظهرتا إلى السطح حالما سُرِّبت نسخة من دليل “وولفويتز” إلى الصحافة في مارس/آذار 1992، أولهما أن سعي واشنطن للهيمنة قد يدفع الآخرين إلى مقاومتها، فبدلا من الخضوع لشروط سلام أبدي تُمليها واشنطن، ستحاول بعض البلدان أن تطور إمكانياتها لمقارعة القوة الأميركية.

بينما أخذت روسيا تلملم جراحها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، وأخذت الصين تواصل سعيها للخروج من براثن الفقر، وجدت الولايات المتحدة أنها لن تواجه معارضة ملموسة لسنوات قادمة. ولكن كلما وسَّعت القوة العُظمى الوحيدة في العالم من التزاماتها الدفاعية وحضورها العسكري، أمكن أن تواجه معارضة لها، بل وأن تحفِّز ظهورها بنفسها بالفعل. أما المشكلة الثانية فهي أن واشنطن سرعان ما حمَّلت نفسها فوق طاقتها، وخاطرت بخوض حروب غير ذات صلة بالمصالح الأميركية، اللهم إلا تلك المصالح التي جرى الترويج لها بوصفها جزءا من ضرورة الهيمنة العالمية في المقام الأول.

إن ما أراده البنتاغون في عهد “تشيني” من وراء الهيمنة الأميركية هو أن يجعل من مقاومة الولايات المتحدة أمرا لا فائدة تُرجى منه؛ بحيث لا يحاول أحد خوض غمارها من الأساس. (غيتي)

ما إن نُشِر دليل البنتاغون عام 1992 حتى أشعل ردود فعل رافضة له، فقد انتقده المحلل المُحافِظ “بات بوتشانان” نقدا لاذعا، قائلا إن الخطة الموضوعة “وصفة لتدخلات (عسكرية) أميركية لا نهاية لها”. وبالمثل، أثار الطموح من أجل الهيمنة الصريحة حفيظة أبرز رجال الحزب الديمقراطي، الذين آثروا أن تتحمل واشنطن نصيبها فقط من مسؤوليات السلام والأمن الجماعي في العالم. وقد علَّق “بايدن”، السيناتور بالكونغرس آنذاك، على الدليل تعليقا ساخرا، قائلا: “إن البنتاغون يعود بنا إلى فكرة عتيقة عن الولايات المتحدة باعتبارها شرطيَّ العالم”. لقد تَشكَّل إجماع عام بين الدول الغربية من أجل احتواء الشيوعية السوفيتية ردا على خطر حقيقي من قوى عُظمى قائمة. أما أن تضطلع الولايات المتحدة بوظيفة الشرطي لعالم ما بعد الحرب الباردة، الذي عجَّ بالتحديات ولكن دون عدو كبير واضح؛ فكانت حُجة جديدة وغير مُجرَّبة لم يهضمها كثيرون في واشنطن وقتها.

إن ما أراده البنتاغون في عهد “تشيني” من وراء الهيمنة الأميركية هو أن يجعل من مقاومة الولايات المتحدة أمرا لا فائدة تُرجى منه؛ بحيث لا يحاول أحد خوض غمارها من الأساس. ولكن ماذا لو أن المقاومة التي نشأت بالفعل هي التي جعلت تلك الهيمنة الأميركية بلا فائدة تُرجى منها؟

البلطجي الذي لا يريده أحد

شكَّلت التسعينيات ذروة نظام القُطب الواحد الأميركي، لكن إشارات المعارضة الدولية واللامبالاة داخل أميركا ظهرت بجلاء أيضا. فقد عملت الصين وروسيا على حل خلافاتهما الثنائية وبدأتا تأسيس “منظمة شانغهاي للتعاون”. وفي عام 1997، أعلنتا في خطاب إلى مجلس الأمن بالأمم المتحدة أنه “لا يجب على أي بلد أن يسعى للهيمنة، أو أن يخوض سياسة الصراع بين القوى الكُبرى، أو أن يحتكر الشؤون الدولية”. بل إن بعض حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم عبَّروا عن أفكار مشابهة، فبعد عامين، قال وزير الخارجية الفرنسي “هوبِرت فِدرين” إن الولايات المتحدة باتت “قوة مُفرِطة”، داعيا إلى “تعددية أقطاب حقيقية”.

كانت الدول الأكثر استفزازا للولايات المتحدة حينها هي “الدول المناوئة” مثل إيران وليبيا وكوريا الشمالية، وبالأخص العراق. فبعد طرد القوات العراقية من الكويت عام 1991، لم يحاول الجيش الأميركي إسقاط “الديكتاتور” العراقي “صدام حسين”، لكنَّ المسؤولين الأميركيين تطلَّعوا إلى سقوطه وشجَّعوا الخروج عليه بدعم انتفاضات الأغلبية الشيعية في الجنوب والأقلية الكُردية في الشمال. وحين حافظ صدام على سلطانه وقمع تلك الانتفاضات وقتل الآلاف من العراقيين، لم تتراجع واشنطن عن هدفها. فعلى مدار عشر سنوات، احتوَت الولايات المتحدة قوة العراق عبر فرض مناطق حظر طيران في أنحاء البلاد، وتنفيذ عمليات قصف بين الحين والآخر، والتفتيش للتأكد من عدم وجود أسلحة دمار شامل، وتطبيق عقوبات اقتصادية على النظام. ولتحقيق تلك الأهداف، وضعت الولايات المتحدة الآلاف من قواتها في منطقة الخليج لأول مرة في تاريخها.

(غيتي)

تبنَّى “بيل كلينتون” هدف سلفه ببسط هيمنة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، وانتهج سياسة “الاحتواء المتبادل” لإيران والعراق، لكن ذلك لم يكن كافيا لإرضاء صقور اليمين. ففي عام 1997، دشَّن المُفكِّران “ويليام كريستول” و”روبِرت كاغان” مركز أبحاث “مشروع القرن الأميركي الجديد”، الذي كرَّس بحوثه من أجل صياغة سياسة خارجية مبنية على “الصلابة العسكرية والوضوح الأخلاقي”. وقد مَثَّل عراق صدام حسين في نظر الرجلين مهمة لم يتم الانتهاء منها كما ينبغي، إذ إن “الديكتاتور” العراقي على وشك الحصول على أسلحة دمار شامل قابلة للاستخدام -على حد قولهم- لتحدي القوات الأميركية وحلفائها في المنطقة. ولذا، كان على الولايات المتحدة أن تسعى من أجل تغيير النظام الحاكم في العراق، وذلك وفقا لخطاب مفتوح لمركز الأبحاث المذكور عام 1998، وهو خطاب تزيَّن بتوقيعات “رامسفيلد” و”وولفويتز” وغيرهما ممن صاروا مسؤولين بعد بضع سنوات في إدارة بوش الابن.

سرعان ما أصبح الهدف سياسة أميركية رسمية حين مرَّر الكونغرس قانون تحرير العراق بأغلبية كاسحة. ولم يكن صعود هذا “الإجماع لتغيير النظام الحاكم”، كما سمّاه “جوزيف ستيب” مُدرس شؤون الأمن القومي بالكلية البحرية الأميركية، ينطوي على احتمال حقيقي بغزو شامل للعراق قبل 11 سبتمبر/أيلول. ولكنه سحب شرعية الرؤية البديلة له، التي قالت بترك صدام في موقعه بالتزامن مع تنفيذ سياسة لاحتوائه. لقد وضعت واشنطن صوب عينيها رغبة صريحة في إقصاء صدام.

عادة ما يتذكر كثيرون في واشنطن إعلان “مادلين أولبرايت”، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، بأن الولايات المتحدة باتت “أمة لا غِنى عنها” (للنظام الدولي والأمن والسلام العالمي)* ولكنهم يتناسون أنها قالت ذلك أثناء اجتماع مُتلفَز عام 1998 في ولاية أوهايو، وفي معرض دفاعها عن السياسات الأميركية تجاه العراق، وأنها قوبلت بسَيْل من الأسئلة العدائية، وأحيانا ما نالها الهجوم المُباشر. بيد أن العقد الأول بعد نهاية الحرب الباردة أثبت أن هذا النوع من المعارضة لن يتبلور إلى قوة سياسية فعَّالة ما دامت واشنطن تنجح في ممارسة هيمنتها العالمية دون تكلفة تُذكر.

البلطجي الذي لا فائدة منه

أذكت هجمات 11 سبتمبر/أيلول الشعور بالخطر الوجودي الذي منح القوة الأميركية غاية مُحدَّدة بعد عشر سنوات من البحث المُضني عن غاية جديدة لها. غير أن الهجمات يمكن أن تُفسَّر بطريقة مغايرة جدا لتلك التي فُسِّرَت بها حينئذ. على مدار الأيام والأسابيع التي تلت الهجمات، لم يحاول أكثر من بضعة أميركيين أن يفكروا في فهم سبب إقدام 19 “إرهابيا” على التضحية بحياتهم لقتل أناس على الجهة الأخرى من الكرة الأرضية. وقد كتبت “سوزان سونتاج” في ذلك الوقت أن الهجمات “نُفِّذَت نتيجة لتحالفات وتحرُّكات أميركية بعينها”. وكان “أسامة بن لادن” قد أعلن بالفعل قبلها بسنوات شنَّ حرب على الولايات المتحدة، وبرَّر إعلانه ذلك بالوجود العسكري الأميركي في السعودية، وما تفعله واشنطن من ليّ ذراع العراق، والدعم الأميركي لإسرائيل. وبدوره، أشار “مارك دانِر”، الصحافي بجريدة “نيويورك تايمز”، إلى أن “القوات والبوارج الحربية في الخليج، وانعدام شعبية وجودنا هناك؛ كلها حقائق لا تخفى على أحد، لكنها غير معروفة على نطاق واسع بين الأميركيين”.

مَثَّلت هجمات 11 سبتمبر/أيلول فرصة لإدارة بوش. (الجزيرة)

لقد كان من الممكن أن تصبح تلك الحقائق معروفة على نطاق أوسع بعد 11 سبتمبر/أيلول، وخاصة إن ركَّزت الولايات المتحدة اهتمامها صوب العدو المُحدَّد الذي هاجمها، وهو تنظيم القاعدة. ولربما كان من الممكن أن يستنتج الأميركيون أن الطريقة الناجعة لتأمين أنفسهم من “إرهابيي الشرق الأوسط” كانت التوقُّف عن احتلال المنطقة وقتل الناس هناك. كما كان من الممكن أن يسألوا ما إن كان السعي للهيمنة العالمية هو عينه السبب في تآكُل أمنهم القومي في عُقر دارهم. ولكن بالنسبة للرئيس “جورج بوش” الابن ومهندسي السياسة الخارجية في إدارته، كان ضروريا أن تصل البلاد إلى استنتاج مختلف، وهو أن المشكلة لا تكمُن في أن القوة الأميركية مُفرِطة، بل في كونها أقل من اللازم. فقد أكَّد رجال إدارة بوش لمواطنيهم أن مُنفِّذي الهجمات تحرَّكوا بدافع الشر المَحض، وليس بسبب أي شيء يُمكن أن تكون الولايات المتحدة قد ارتكبته. “يتساءل الأميركيون: لماذا يكرهنا هؤلاء؟ إنهم يكرهون حُريَّاتنا”، هكذا تحدث بوش في خطاب إلى الشعب بعد تسعة أيام من الهجمات.

الأمر الذي لا يقل أهمية هُنا هو أن “هؤلاء” المُشار إليهم في الخطاب لم يُقصَد بهم “جهاديو القاعدة” وحسب، إذ إن التركيز على التنظيم الذي هاجم نيويورك وواشنطن لربما شتَّت انتباه الناس عن المعركة الأكبر المتعلقة بحماية الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ضد أي محاولة لمعارضتها. وكما قال “وولفويتز”، نائب وزير الدفاع حينها، في خطاب للكونغرس بتاريخ 4 أكتوبر/تشرين الأول 2001، فإن “أسامة بن لادن وصدام حسين وكيم يونغ إل وغيرهم من الاستبداديين يرغبون في رؤية أميركا خارج المناطق المُهِمة من العالم”. ومن ثمَّ كانت هجمات 11 سبتمبر/أيلول -في نظر هؤلاء- مجرد مِثال على مقاومة الهيمنة الأميركية، وهي مقاومة وَجَب أن تتوقَّف في العموم.

من هذا المنظور، مَثَّلت هجمات 11 سبتمبر/أيلول فرصة لإدارة بوش. فمن خلال شنِّ رد صاعق، كان من الممكن أن تقتل الولايات المتحدة أي مقاومة ناشئة لها في مهدها، وأن تُثني طيفا واسعا من خصومها المُتحمَلين عن “مجرد التطلُّع” إلى لعب دور أكبر دوليا، بحسب وصف دليل التخطيط الدفاعي لعام 1992. وفي هذه المرة بالذات، يمكن لقادة الولايات المتحدة أن يستحِثوا الدعم الشعبي، حتى يصبح الاتجاه نحو الهيمنة العالمية الأميركية عقيدة حيَّة عند الشعب الأميركي، لا مجرد اتجاه مقبول ضِمنا.

لتحقيق هذا الهدف، لم يكفِ أن تُشَن “حرب عالمية على الإرهاب” فقط، بل استدعى الأمر أن تنزل الولايات المتحدة “بكُل وزنها” كما قال “رامسفيلد” لأحد معاونيه بعد أربع ساعات من سقوط برجَيْ مركز التجارة العالمي. وطبقا لملاحظات معاون “رامسفيلد” التي دوَّنها أثناء الحوار، قال وزير الدفاع حينها: “اكنسوا كل شيء، ما له علاقة وما ليس له علاقة”، وهذا يعني ضرب “صدام حسين بالتزامن وليس أسامة بن لادن وحده”.

وعلى وجه السرعة، حدَّدت الاستخبارات الأميركية القاعدة بوصفها المسؤول عن اختطاف الطائرتين، لكن “رامسفيلد” و”وولفويتز” وغيرهما من مسؤولين شرعوا في الدعوة إلى ضرب العراق، وهي دعوة رآها “ريتشارد كلارك”، مُنسق مكافحة الإرهاب بمجلس الأمن القومي الأميركي، منافية للعقل والمنطق، حيث قال يوم 12 سبتمبر/أيلول: “أن تهاجمنا القاعدة فنذهب الآن لضرب العراق هو أشبه بأن نغزو المكسيك بعد أن هاجمتنا اليابان في بيرل هاربر”. وبينما بدأت الولايات المتحدة تخوض غمار حرب غير واضحة في أفغانستان، في مواجهة عدو مُبهَم لربما استطاع شنَّ هجمة أخرى؛ كان لافتا أن ينظر كبار مسؤولي البلاد في أمر غزو العراق أيضا، ناهيك بتخصيص 130 ألف جندي لهذه المهمة بالفعل في غضون 18 شهرا فقط.

البلطجي في فخٍّ من صُنعِه

إن التفسير الأفضل لهرولة إدارة بوش إلى الحرب يكمن في رغبتها في تعزيز الهيمنة الأميركية بعد الهجمات المُدمِّرة التي طالت أراضي الولايات المتحدة. إنه “تأثير استعراض القوة” كما سمَّاه “آرون فريدبِرغ”. (غيتي)

قدَّمت إدارة بوش عدة مُسوِّغات لغزو العراق، لكن أبرزها ادعاؤها بأن صدام أخذ يراكم الأسلحة البيولوجية والكيماوية، وسعى لتطوير سلاح نووي. ولربما لم يتم الغزو في النهاية لو علم المسؤولون يقينا أن مشروع أسلحة الدمار الشامل العراقي كان مجرد وَهم، وهي أكذوبة هدفوا من ورائها سابقا إلى التضخيم من قوة صدَّام وردع أعداء مثل إيران. ولكن بينما علم الجميع أن صدام لن يستخدم أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة نفسها، فإنهم تيقَّنوا لا شك بأن تلك الأسلحة الافتراضية يُمكن أن تعوق خطط أميركا للشرق الأوسط.

ففي أثناء الاستعداد للحرب، قال “دوغلاس فيث”، مساعد وزير الدفاع الأميركي، إن عدم وجود نية لدى صدام لمهاجمة الولايات المتحدة لا يغير شيئا في الموضوع، بل وأقرَّ بنفسه أن “صدام لعله يُفضِّل أن يتركنا لِحالِنا، لكن القضية هي ما إن كانت أسلحة الدمار الشامل المُحتمل وجودها عنده تسمح لنا بأن نتركه لِحالِه”. باختصار، ما قصده “فيث” هو أن إسقاط صدام يجعل الهيمنة الأميركية في وضع آمن، لكنه ليس بصدد النظر فيما إذا كان إسقاط صدام السبيل الأمثل لحماية الولايات المتحدة نفسها.

إن التخوُّف من ترسانة صدَّام ليس تفسيرا مناسبا لمسارعة إدارة بوش نحو غزو العراق بعد 11 سبتمبر/أيلول، لا سيما وقد عرفوا حينها أن العراق لم يكُن على وشك حيازة سلاح جديد من العيار الثقيل. كما أنه ليس تفسيرا لسبب سحب إدارة بوش مُفتشي الأمم المتحدة من العراق في مارس/آذار 2003، بعد أن أتمَّ الفريق بالفعل 550 جولة تفتيش لم يلاحظ فيها نشاطا يلفت نظره، وحقَّق تقدُّما كبيرا أراد أن يستكمله إلى نهايته. لو أن نزع سلاح صدام كان الدافع الرئيسي، لأتاحت إدارة بوش استمرار جولات التفتيش، ولربما تجنَّبت الحرب من الأساس. على النقيض، لم يرغب مؤيدو الحرب، ومنهم “تشيني”، في منح الفرصة أبدا لفرق التفتيش عن السلاح كي تباشر عملها.

إن التفسير الأفضل لهرولة إدارة بوش إلى الحرب يكمن في رغبتها في تعزيز الهيمنة الأميركية بعد الهجمات المُدمِّرة التي طالت أراضي الولايات المتحدة. إنه “تأثير استعراض القوة” كما سمَّاه “آرون فريدبِرغ”، نائب مستشار الأمن القومي لـ”تشيني” آنذاك. “لقد تلقينا ضربة قاسية، وأردنا أن نُبرهِن بوضوح ثمن ذلك لكل مَن سوَّلت له نفسه دعم أو إيواء مَن يدبِّرون لتلك الهجمات. لم يكن الأمر مجرد تقمُّص دور الرجل الحازم، بل كان إعادة تأسيس الردع”، هكذا قال “فريدبِرغ” في حوار صحافي.

لقد اعتقد مهندسو الحرب لا شك في أنهم يحمون الأمن القومي الأميركي. بيد أن ما حاولوا تحقيقه على الأرض شيء مختلف، إنه تعزيز موقع الولايات المتحدة المُهَيمِن عالميا بواسطة حرب وقائية. ورغم أنهم افترضوا أن الهيمنة ضرورية في المقام الأول للأمن الأميركي، فإن حُجَجَهم لحرب العراق نفسها كانت تشي بالعكس، حيث احتاج إقصاء صدام من واشنطن إلى أن تُقدِّم ثمنا من خزانتها ودماء أبنائها في مقابل مزايا غير واضحة بدرجة كبيرة. ورغم أن التكلفة بدت قليلة في مُستَهَل الحرب، فإنها بدت كذلك لأن مؤيدي الحرب قللوا من احتمالية أن تُقابَل القوات الأميركية بوصفها قوات غازية ومُحتلَّة، إذ وَعَد تشيني في مارس/آذار 2003 قائلا: “في الحقيقة سيتم استقبالنا استقبال الفاتحين”. لقد كان من الممكن أن ينال شركاء الولايات المتحدة في المنطقة مزايا من وراء إسقاط صدام، ولكن هل تمكَّنت الولايات المتحدة نفسها من أن تُعزِّز أمنها الخاص بتقليص انخراطها في المنطقة؟ لم يطرح أحدهم هذا السؤال حينها في خضم السعي المُضني للهيمنة، الذي شتَّت الانتباه للمفارقة عن تكلفته المُميتة بفتح المزيد من الجبهات الجديدة والمُميتة أكثر.

البلطجي تحت مساءلة أبنائه

على مدار السنوات العشر التالية، سمع الأميركيون أسبابا لا حصر لها لإخفاقات بلادهم في الحرب، منها أن إدارة بوش فشلت في وضع خطة لإعادة الإعمار بعد الحرب، وأنها سمحت بسقوط الدولة العراقية في أتون صراع أهلي، وأن الديمقراطية نادرا ما تُفرَض بواسطة السلاح، وأن هندسة الأمم لا تعمل فيما يبدو. وتبدو تلك الأسباب حقيقية ووجيهة، لكنها غير وافية. لقد تسبَّبت تلك الدروس الصغرى في تشتيتنا عن تعلُّم الدروس الكُبرى، وأتاحت لمؤيدي الحرب أن يُفلتوا من مُساءلة تصوُّراتهم الرئيسية عن الحرب.

بعد عام واحد من الغزو، أقرَّ “كريستول” و”كاغان” أن بوش لم يتخذ دوما القرارات الصحيحة حيال الخطوات التالية في إعادة بناء العراق، في حين حثُّوا الجيش الأميركي على البقاء من أجل مهمته أيًّا كان طولها الزمني. وفي كتاب ذي تأثير واسع عن الحرب نُشر عام 2005، هاجم الكاتب “جورج باكر” إدارة بوش على “إهمالها الإجرامي”، قائلا إن المشكلة في الغزو تكمُن في تنفيذه وليس في الفكرة نفسها، على حد قوله. وفي عام 2006، اعترف بوش ووزيرة خارجيته “كوندوليزا رايس” بوجود الآلاف من الأخطاء التكتيكية، لكنهم أصرُّوا على أن الغزو نفسه ناجع إستراتيجيا.

بحلول ذلك الوقت، كان الرأي العام الأميركي ينقلب على الحرب وعلى تبريرات واشنطن. وعلى مدار العقد التالي، وجَّه الناخبون الأميركيون ثلاث مفاجآت انتخابية أظهرت عُمق غضبهم من إدارة بوش. وقد أتت المفاجأة الأولى في انتخابات الكونغرس عام 2006، حين توقَّع البيت الأبيض برئاسة بوش أن ينجح في استخدام الحرب دعائيا لترجيح كفة الحزب الجمهوري، بالتزامن مع اتهامه الديمقراطيين بـ”التخاذل والانهزامية” على حد وصف “تشيني”. ولكن عشية الانتخابات، بدا الجمهوريون هُم المنهزمين في المناظرات، إذ نعتت “نانسي بيلوسي” حرب العراق بأنها “خطأ هزلي”، وفاز الديمقراطيون بمجلس النواب بعد 12 عاما من هيمنة الجمهوريين عليه. ورأت أغلبية الناخبين حينذاك أن حرب العراق الموضوع الأهم بالنسبة لهم، وتوقَّعوا من الديمقراطيين تقليص النشاط العسكري الأميركي في العراق أو إنهاءه بالكُلية.

أفرزت الانتخابات التالية في عام 2008 مفاجأة أكبر، وهي فوز “باراك أوباما”، الشاب الأسود الليبرالي، على منافسيه من سياسيي الكونغرس المُخضرمين أمثال “هيلاري كلينتون” و”جون ماكين” ممن صوَّتوا سابقا لصالح غزو العراق. فقد عُرف أوباما حينها بمعارضته للحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2002، ووصفه إياها بأنها “غبية” و”هوجاء”. ولعل موقفه من العراق مَثَّل نقطة التفوُّق الرئيسية له في حملته لنيل بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي. “إنني لا أريد أن أُنهي الحرب فحسب، بل أريد أن أنهي العقلية التي جرَّتنا إلى الحرب في المقام الأول”، هكذا تحدَّث أوباما حينئذ. بيد أن القطيعة التامة مع سابقيه سرعان ما ثبت زيفها، حيث سحب أوباما القوات من العراق عام 2011، لكنه أبقى الحرب قائمة في أفغانستان، بل وأرسل قوات من جديد إلى العراق عام 2014، كما حافظ على الشراكات الأمنية التي ورثها عن سابقيه، ووسَّع نطاقها، ودشَّن برنامجها لاستهداف الإرهابيين بواسطة المُسيَّرات والقوات الخاصة.

ثم أتى “دونالد ترامب” كي يفيد من غضب الرأي العام الأميركي الذي لم يُشفَ غليله، فكانت المفاجأة الثالثة المُدوية للمؤسسة الحاكمة بصعود رجل مُحرِّض مثله إلى الحُكم عام 2016. وقد هاجم الرجل الحرب بوصفها “القرار الأسوأ” في تاريخ الولايات المتحدة، ورغم أنه كَذَب حين ادَّعى أنه عارض الغزو من بدايته، فإنه أدرك كارثيته على الأقل قبل فوات الأوان، وكان ذلك دليلا كافيا لناخبين كثيرين على جدوى الوثوق به قائدا أعلى للبلاد وتجاهُل الحملة الدعائية التي شنَّتها النخبة الحاكمة على الرجل واعتبرته غير ملائم لقيادة الولايات المتحدة.

صفحة لم تُطو بَعْد

يقف قادة الولايات المتحدة اليوم من جديد بصدد طيّ صفحة حرب العراق. أحيانا ما تبدو الحرب وكأنها اختفت من الذاكرة الجمعية الأميركية بالكُلية فعلا. فقد وقف بايدن مؤخرا وأشار إلى حرب روسيا على أوكرانيا بوصفها الغزو الشامل الوحيد الذي شهده العالم في ثمانية عقود. “إن فكرة إرسال 100 ألف جندي لغزو بلد آخر لم تحدث بهذا الشكل منذ الحرب العالمية الثانية”، هكذا جاء على لسانه قبل شهر واحد من الذكرى العشرين لغزو العراق، وهي حرب صوَّت السيناتور بايدن لصالحها حينئذ.

إن محاولة النسيان طريقة مثلى لضمان فشل الأميركيين في تعلُّم الدرس. إذا ما طبَّقت الولايات المتحدة الرغبة نفسها في بسط الهيمنة التي جرَّتها إلى العراق يوما ما، مع منافسيها الحاليين الأقوى من العراق بكثير، فستكون العواقب وخيمة، لأن المغامرة القادمة يُمكن أن تكون حربا بين قوتين كُبريين. والحق أن قلة من الأميركيين تتطلَّع إلى صراع كهذا، لكن قِلة منهم أيضا دَعَت لغزو العراق قبل 11 سبتمبر/أيلول.

لقد ساعدت مسوِّغات الهيمنة والصدارة في إظهار الحرب على أنها ضرورية وتستحق الكُلفة المطلوبة لأجلها، وهي مسوِّغات ستظل تضع الولايات المتحدة على مسار تصادمي مع غيرها من البلدان. أولا، لطالما خلطت واشنطن مصالحها المباشرة بمواقعها العسكرية المترامية والتزاماتها تجاه حلفائها، متجاهلة بالكامل إمكانية نقل بعض تلك الأعباء إلى حلفائها، وما يُمكن أن تُحدثه من تعزيز للأمن الأميركي وتحسين الإستراتيجية الأميركية. وثانيا، تقلل واشنطن دوما مما تُمثِّله قوتها من تهديد لغيرها، الذين يتحرَّكون رَدَّ فعل لها في النهاية. إن هذين الخطأين يدفعان السياسة الخارجية الأميركية دفعا كي تحارب الميل الطبيعي لإحداث توازن قوى، في الوقت الذي تحتاج فيه الولايات المتحدة نفسها إلى ذلك الميل بدلا من أن تمتد قوتها أبعد مما تتحمَّل طاقتها.

بينما تواجه واشنطن مخاطر أكبر في أوروبا، فإنها تنزلق أيضا إلى مواجهة مع بكين. فثمَّة إجماع ناشئ بين الحزبَيْن الديمقراطي والجمهوري على انتهاج سياسة صارِمة أكثر من ذي قبل مع القوة الثانية عالميا الآن. (رويترز)

منذ فبراير/شباط 2022، ساعدت الولايات المتحدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد “الغزو الروسي الوحشي”، وهي مساعدة في محلِّها. لكن واشنطن لم تزل تتجنَّب النظر الجدي في أخطاء السياسة الأميركية التي هيَّأت المسرح لهذا الصراع وغيره من صراعات قد تتفجَّر مُستقبلا. بتوسيع نطاق الناتو في عملية مفتوحة، مدَّت الولايات المتحدة من نطاق هيمنتها في قضية الأمن الأوروبي، آملة في الوقت نفسه ألا تتحوَّل روسيا إلى السلوك العدائي. لقد كان هذا الأمل ساذجا من البداية، لأن خلق خط فاصل داخل أوروبا، كما أن الزحف أكثر قُرب موسكو، جعل الدول التي لم يشملها الناتو في النهاية أكثر عُرضة للخطر.

لقد توسَّع الناتو على حساب أوكرانيا، بل والولايات المتحدة نفسها. وفي غضون ترسيخ هيمنتها على الأمن الأوروبي، بات يقع على عاتق الولايات المتحدة أكثر من غيرها أن تُهندِس حملة الدعم الدولي لأوكرانيا اليوم، وأن تُخطط لوضع جنودها على خط النار إن هاجمت روسيا بلدا من حلف الناتو في المستقبل. إن المخرج الوحيد من ذلك المأزق الذي صنعته أميركا بنفسها لنفسها هو وضع حدٍّ لمنطق التفوُّق الأميركي، ونقل قيادة الدفاع الأوروبي تدريجيا ونهائيا إلى الأوروبيين أنفسهم.

بينما تواجه واشنطن مخاطر أكبر في أوروبا، فإنها تنزلق أيضا إلى مواجهة مع بكين. فثمَّة إجماع ناشئ بين الحزبَيْن الديمقراطي والجمهوري على انتهاج سياسة صارِمة أكثر من ذي قبل مع القوة الثانية عالميا الآن. غير أن ما تريده الولايات المتحدة لعلاقتها مع الصين في العقود القادمة يظل غيرَ واضح وسطحيَّ التناول. ففي خضم سَيْل الاعتراضات على السلوك الصيني، يبدو عادة وكأن الولايات المتحدة تعارض صعود الصين برُمَّته. وبعد أن حدَّدت إدارة ترامب الصين بوصفها خطرا على الولايات المتحدة، اتخذ بايدن إجراءات يُرجَّح أن تكون مصيرية، مثل تقويض سياسة “الصين الواحدة” التي أتاحت للبلدين أن يتعايشا دون اتفاق بخصوص تايوان، كما فرضت قيودا على حرية وصول الصين إلى التكنولوجيا، مثل أشباه الموصِّلات المتطورة. لا نعلم بَعْد كيف سترُد الصين على تلك الإجراءات، غير أن لديها قدرة لا بأس بها على إلحاق الضرر بالولايات المتحدة.

إن الولايات المتحدة في معرض دفاعها عن موقعها بوصفها القوة العالمية الأولى، باتت تجُر على نفسها مخاطر هائلة دون تقدير لإمكانية أن يؤدي احتدام التنافس العالمي إلى جعل الأميركيين أقل أمنا وأفقر من ذي قبل. ولكن هناك خيارات أفضل، منها أن تحِل الولايات المتحدة نفسها من الانخراط في الشرق الأوسط، وتنقل أعباءها الدفاعية التي تحملها إلى حلفائها الأوروبيين، وتسعى إلى تعايش لا يخلو من منافسة مع الصين. وإن بدا أحيانا لصُنَّاع القرار في واشنطن أنهم يفعلون ذلك حقا، فإن الحقائق على الأرض لا تشي بذلك. ورغم ما يقولونه باستمرار عن الانضباط الإستراتيجي، فإن عدد القوات الأميركية في الشرق الأوسط اليوم يبلغ 50 ألفا، بالضبط كما كان بنهاية إدارة أوباما. علاوة على ذلك، لا تزال واشنطن أسيرة مفهوم عن تفوُّقها وهيمنتها يجعلها تقوم من مأزق أصغر لتقع في مأزق أكبر، دون إعادة نظر في الأول أو فكاك من الأخير. ومن هذا الوجه، بوسعِنا أن نقول إن حرب العراق صفحة لم تُطوَ، ومهمة لم تنتهِ، على الأقل بالنسبة للولايات المتحدة.

_____________________________________

ترجمة: نور خيري

هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.