|

يخيم الهدوء والصمت على مجموعة من الباحثين يجلسون على الأرض تحت ظلال شجرة في مزرعة جبلية معزولة. يغمض كل منهم عينيه ويحاول ممارسة طقس التأمل بحضور معلم يرشدهم. تنتهي الجلسة ليتحركوا جميعا إلى كوخ قديم يمارسون فيه حياتهم العادية ويتحركون في المزرعة التي تطل على سفح جبلي شاهق تجاوز السحاب. ومع الموسيقى والإيقاع الهادئ، يشرح كل منهم هذه التجربة التي تمتد إلى إحدى وعشرين يوما من أجل اكتشاف الذات والقيام بثورة داخلية عليها في فيلم “الثورة الصامتة” الذي اختاره مهرجان الفيلم الروحي الأوروبي في دورته هذا العام لقائمة الترشيح للجوائز. وهو فيلم إيطالي من إخراج جوليا فييرو.

يتجاوز حضور الروحانيات في السينما نطاق الأفلام الدينية، ليشمل نمطا واسعا من الأفلام يحاول تقديم بُعد نفسي آخر غير البُعد المرئي باستخدام التقنيات السينمائية ليحفز المشاهد على إدراك جانب آخر من جوانب الذات لإدراك المعاني الغامضة ودلالات مستويات الإيمان في النفس البشرية.

تدور كاميرا الفيلم بين التضاريس الجبلية الوعرة والجميلة في آن واحد لتعكس التشابه بين دواخل النفس الإنسانية والطبيعة من حولنا. ويلعب الصمت والأصوات الطبيعية في الفيلم دورا يشبه دور الموسيقى التصويرية ليحيله إلى تجربة وجدانية للمشاهد يشارك فيها أبطال الفيلم رحلتهم لاكتشاف معنى الحياة وتحقيق الذات والربط بين العالم الداخلي والخارجي. والفيلم هو تعبير عن موجة الأفلام الروحية التي تنتشر في السينما في السنوات الأخيرة وخصوصا في الدول الغربية. وهي موجة تعتمد في معالجتها الدرامية على الفلسفات الدينية وليس على الدين بالضرورة. إذ تبحث بشكل رئيسي عن الهوية الإنسانية وعلاقة الإنسان بالأديان وحاجته الماسة لتصور معين عن الروح وماهيتها.

يتجاوز حضور الروحانيات في السينما نطاق الأفلام الدينية، ليشمل نمطا واسعا من الأفلام يحاول تقديم بُعد نفسي آخر غير البُعد المرئي باستخدام التقنيات السينمائية ليحفز المشاهد على إدراك جانب آخر من جوانب الذات. والتعبير عن هذا الجانب يتم من خلال السيناريو واللغة البصرية لتحقيق فكرة اختراق الحواجز والعوائق، وإدراك المعاني الغامضة ودلالات مستويات الإيمان في النفس البشرية.

وتختلف تجربة الفيلم الروحي الغربي أو الأوروبي بين بلد وآخر، فمثلا يعد المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي هو الأب الروحي للسينما الروحانية السوفيتية والذي دأب على تناول مواضيع روحانية و دينية واقتباسات إنجيلية في أفلامه رغم الرقابة المفروضة على هذه المواضيع تحت الحكم الشيوعي. وتميز بلغة سينمائية تعطي للصوت الداخلي أهمية كبيرة لكونه يتعامل مع الإنسان ككائن روحي في المقام الأول. ولهذا تتميز أفلامه بإيقاع بطئ وصورة أشبه ما تكون بالحلم. وقد صك اسمه كأحد المعلمين الكبار في تاريخ السينما بنهجه الشاعري وفلسفته القائمة على دور الفن في الارتقاء بالروح لتكون قادرة على فعل الخير.

الروحانية المشرقية في السينما

تختلف السينما المشرقية عن نظيرتها الغربية في النظرة للفيلم الروحي. وهي انعكاس بشكل عام للرؤية الشرقية للروحانيات ومنظورها للكون والحياة والمتأصلة في الدين والإيمان والعقائد. ويأتي على رأس الأفلام الهامة في هذا المجال فيلم “الرسالة” الشهير للمخرج مصطفى العقاد عام 1976. وهو من الأفلام العربية القليلة التي جمعت بين المستوى الإنتاجي العالي واللغة السينمائية الروحية واستطاعت أن تتجاوز حدود الثقافة المحلية لتصل إلى الجمهور العالمي.

أيضا هناك فيلم “بابا عزيز” للمخرج التونسي ناصر خمير عام 2005 الذي يقدم قصة درويش ضرير يقوم برحلة في الصحراء بصحبة حفيدته في رحلة مجازية كناية عن رحلة الإنسان نحو الله. وقد وظف خمير قدراته كفنان تشكيلي في بناء صورة سينمائية شديدة الدقة ليحيل الفيلم ذو الأماكن المحدودة في الصحراء إلى لوحات فنية باستخدام الألوان بطرق مبدعة. ولهذا نجح في أن يتجاوز بفيلمه حدود المشاهد العربي لينقل الثقافة العربية والإسلامية الروحية للجمهور الأوروبي وأيضا الشرقي ممثلا في الجمهور الهندي.

الفيلم التونسي بابا عزيز (مواقع التواصل الاجتماعي)

ورغم محاولات كثير من المخرجين العرب التعبير عن ذاتهم المشرقية في أفلام تتناول الجانب الروحي والإيماني، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يخطوا خطوات كبيرة في هذا الفن ليشكلوا موجة أو مدرسة واضحة المعالم بعكس السينما التركية والإيرانية. فقد تمكن المخرجون الأتراك والإيرانيون من أن يشكلوا ظاهرة في الفيلم الروحي المشرقي واستطاعوا صياغة مدراس سينمائية بصرية في هذا المجال تروي عطش المشاهد المحلي وتثير شهية وإعجاب المشاهدين من ثقافات متنوعة. وقد بنوا بذلك جسورا ثقافية وفنية بين بلدانهم ومختلف دول العالم. فمنذ بداية السبعينات في تركيا ومع الانحسار التدريجي للرقابة العلمانية، بدأت كثير من الأفلام التي تتناول الجانب الروحي وخاصة أفلام تتناول شخصيات مؤثرة في الوجدان التركي مثل الأفلام التي تتناول حياة الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ يونس إمره وصولا لفيلم “الأب الخباز-سر العشق” عام 2016 والذي يتناول حميد الدين أقصرايلي الملقب بـالأب صومونجو هو عالم مسلم عاش في القرن الثامن الهجري.

السينما الإيرانية لديها تجربة مختلفة، إذ استطاع المخرجون الإيرانيون أن يحيلوا كل مفردات الأدب الفارسي التاريخي الروحي إلى لغة بصرية أعجبت كثيرين حول العالم. بالإضافة لأن الرقابة الرسمية على الأعمال الفنية هناك حفزت كثيرين منهم لإيجاد طرق مبدعة للتعبير البصري والتحايل على مقص الرقيب فكان لها الفضل في أن عززت من اللغة السينمائية لدى الأفلام الإيرانية وكان أحد أهم أسباب وصولها للعالمية وحصدها لجوائز في مهرجانات دولية خلال السنوات الماضية.

وأيضا استطاعت السينما الإيرانية أن تصك مصطلح “السينما القرآنية” في العالم وهي نمط من الأفلام لا يستلهم القصص القرآني فقط في القصة والسيناريو ولكن يحاول الغوص في المعاني القرآني لتجسيدها بصريا. ومن هذه الأفلام فيلم “مُلك سليمان” عام 2010 الذي أقر له البرلمان الإيراني ميزانية استثنائية ضخمة لإنتاجه.وقد  خرج الفيلم للنور حاملا تقنيات بصرية جديدة على السينما الإيرانية صنعت خصيصا في هونغ كونغ. وكان الجمهور المستهدف من الفيلم يتجاوز حدود إيران وبالفعل تمت ترجمته للغات مثل العربية والأورودو وقد حققت نسخته العربية على اليوتيوب نحو ستة ملايين مشاهدة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.