تشهد تونس سلسلة من الأزمات غير المسبوقة في تاريخها الحديث، بداية من فقدان المواد الأساسية مثل الغذاء والدواء، وصولا إلى النّقص في المحروقات، التي ارتفعت أسعارها 5 مرات خلال هذه السنة، مع ارتفاع نسبة التضخم لما يقارب 10%. تعكس هذه السّلسلة من الأزمات المتتالية الوضع الاقتصادي الذي تشهده البلاد، وحجم العجز الذي بلغته المالية العمومية بعد سنة ونصف السنة من هيمنة الرئيس قيس سعيد على كافة السلطات والصلاحيات في البلاد، وهو ما ألجأه للتفاوض مع صندوق النقد الدولي حول مبلغ 4 مليارات دولار لتمويل ميزانية الدّولة ومواجهة الأزمة، التي يصرّ الخطاب الرّسمي على إنكارها، واتهام أطراف غير معلومة بالوقوف وراءها استهدافا لمشروع الرئيس في بناء “الجمهورية الجديدة”.

أمام هذا الوضع الجديد وغير المسبوق في التاريخ الحديث لتونس، يطرح السؤال حول خلفيات هذه الأزمة، ودلالاتها السياسية والاقتصادية، وآفاق تجاوزها في ظلّ حكم الرئيس قيس سعيد.

إذا توقفت الحركة الاقتصادية بسبب هذه الأزمة، فإن الدولة مهددة بإعلان الإفلاس، وقد تصاب مؤسساتها بالشلل التام والعجز عن مواجهة الطوارئ، وهو ما يمثل تهديدا خطيرا للأمن القومي

 أزمة المحروقات

أكد التقرير نصف السنوي لوزارة المالية أن مداخيل الدولة توجه كلّها لدفع أجور الموظفين، ومع تفاقم العجز التّجاري إلى مستويات قياسية بما يفوق 19 مليار دينار، تراجعت مدخرات البنك المركزي من العملة الصّعبة إلى 107 أيام توريد، كما ارتفعت كلفة استخلاص الديون بالنسبة للدولة بعد الترفيع في نسبة الفائدة من طرف الفدرالي الأميركي والبنك الأوروبي المركزي، فبلغ حجم الدّين العام ما يقارب 110 مليارات دينار، مما خلق عجزا في المالية العمومية عن التوريد بالنسبة للحبوب والمحروقات، فضلا عن القدرة على تمويل الاستثمارات العمومية.

هذا العجز الفادح في ميزانية الدولة تعذر معه دفع مستحقات المزودين بالمحروقات، وبلغ حجم المستحقات لبعض الشركات 100 مليون دولار. ومع تراجع التصنيف السيادي لتونس من طرف وكالات التصنيف الائتماني إلى درجات متدنية -موديز “سي إيه إيه1” (caa1) وفيتش “سي سي سي” (ccc)- فقدت البلاد ثقة المستثمرين والمزودين في قدرتها على الالتزام بتعهداتها المالية، وتعذر على الشركات المزودة للبلاد بالحبوب والمحروقات الاقتراض من البنوك لتمويل عقودها مع تونس، مما دفعها لفرض استلام مستحقاتها مسبقا، ورفض تفريغ شحناتها في الموانئ التونسية قبل استلام الثمن.

هذا الوضع المتدهور للاقتصاد الوطني والعجز في المالية العمومية، دفع البنك الأوروبي للتنمية للتدخل بمنح تونس قرضا بـ150 مليون دولار، لتأمين الغذاء وتفريغ شحنات السفن المحملة بالقمح والراسية في الموانئ. وفي خطوة أكثر دلالة على عمق الأزمة، أعلن وزير الخارجية الأميركي توني بلينكن منح تونس “مساعدة عاجلة” تقدر بـ60 مليون دولار كإعانة للعائلات الفقيرة، على أن تتولى منظمة اليونيسف توزيع هذه المعونة بديلا عن المؤسسات الرسمية للدولة. وبقدر ما يعبر هذا المبلغ الزهيد والعاجل حسب تعبير الخارجية الأميركية، والذي يرصد عادة لمواجهة الكوارث الطبيعية والحروب والمجاعات، عن حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تردت فيه البلاد، فإنه يؤكد غياب الدولة التي قبلت صاغرة الإعانة المحمّلة بالكثير من الإهانة والمضامين القادحة في كفاءتها وأمانة مؤسساتها.

الدلالات الاقتصادية للأزمة

الأزمة التي تشهدها تونس في مجال المحروقات، مؤشر على تراجع حجم الاحتياطي الإستراتيجي إلى مستويات دنيا تنذر بالخطر، وهو ما تنكره الحكومة التي أعلنت سابقا عن التراجع من نسبة 60 يوما إلى 45 يوما، ثم توقفت بعد ذلك عن الإعلان عن حجم الاحتياطي الإستراتيجي، مما أثار الشكوك حول الأرقام التي تعلنها الحكومة، غير أن الكاتب العام للجامعة العامة للنفط والتابعة للاتحاد العام التونسي للشغل صرح بأن المخزون الإستراتيجي من المحروقات لا يكفي لأكثر من أسبوع واحد، وهذا الوضع ينذر بتوقف الحركة الاقتصادية تماما إذا استمر استنزاف الاحتياطي الإستراتيجي من المحروقات، دون أن تتمكن السّلطة من إنقاذ الموقف بتوريد شحنات جديدة من احتياجات السوق الداخلية من الوقود، وهو ما يبدو متعذرا على المدى المنظور لغياب السيولة، والعجز الذي تشهده المالية العمومية، مضاف إليها الشروط التعجيزية للشركات المزودة، التي أصبحت تفرض على الدولة الدفع مسبقا لثمن شحنات المحروقات، بما فيها ثمن النّقل والتأمين، بعد استيفاء مستحقاتها المتخلدة في ذمة الدّولة.

إذا توقفت الحركة الاقتصادية بسبب هذه الأزمة، فإن الدولة مهددة بإعلان الإفلاس، وقد تصاب مؤسساتها بالشلل التام والعجز عن مواجهة الطوارئ، وهو ما يمثل تهديدا خطيرا للأمن القومي.

هذا الوضع الاقتصادي الذي تردت فيه البلاد، لا تملك تجاهه الحكومة سوى الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي، وهي شروط موجعة تتعلق بتقليص حجم الأجور في الوظيفة العمومية، ورفع الدعم عن المواد الأساسية، مما يعني الارتفاع الكبير في الأسعار، مع الاتجاه نحو الخوصصة والتفويت في القطاع العام.

يعتقد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي أن الحكومة بدأت فعلا في تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، وأن سلسلة الأزمات التي تشهدها البلاد إنما هي مسرحية من قبل الحكومة لتمرير تلك الإملاءات بطريقة مخادعة، بحيث يشهد الشعب غياب المواد الأساسية، ثم الإعلان عن توفرها بعد رفع الدعم وارتفاع أسعارها، مما يدفع المواطنين للقبول بالأمر الواقع، فوجود المواد الأساسية بأسعار مرتفعة أفضل من غيابها، وربما تنجح الدعاية الإعلامية للسلطة في التسويق لذلك على أنه إنجاز يحسب لها.

والحقيقة أن القيادة النقابية نفسها غير بعيدة عن تهمة الخداع بإبرامها اتفاقا صوريا وهزيلا مع الحكومة، تعلم جيدا أنه يمهد الطريق للاتفاق مع صندوق النقد الدولي، عبر تنفيذ شروطه التي يعلن الاتحاد رفضه لها في مقابل نقض الحكم الابتدائي بعدم شرعية المؤتمر الأخير للاتحاد. إذا كانت الحكومة ترفض اتهامات الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل لها، فإن النتيجة النهائية للمشهد الاقتصادي واحدة، وهي الخضوع التام لإملاءات صندوق النقد الدولي، بكل ما يعنيه ذلك من تفاقم للأزمة الاجتماعية التي تفتح مستقبل البلاد على المجهول.

هذه السياسة الحكومية الخاضعة لإملاءات صندوق النقد الدّولي، ستكون لها انعكاسات مدمرة على المستوى الاجتماعي، مما يفتح مستقبل البلاد على المجهول، وينذر بانفجار اجتماعي غير مسبوق، بدأت بوادره في التحركات الاحتجاجية الليلية في عديد المدن التونسية

الدلالات السياسية للأزمة

تشهد تونس حالة من عدم الاستقرار السياسي نتيجة الإجراءات الاستثنائية التي قام بها الرئيس قيس سعيد يوم 25 يوليو/تموز 2021، وأغلب القوى السياسية الممثلة في جبهة الخلاص والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية تعتبر السلطة القائمة سلطة الأمر الواقع الفاقدة للشرعية بانتهاكها دستور البلاد، وهو ما أيدته المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب بقرارها عدد 017/2021 الذي ألغت فيه الأمر الرئاسي 117 الذي استحوذ من خلاله الرئيس قيس سعيد على جميع السلطات، لمخالفته الصريحة لدستور البلاد، وطالبت المحكمة بالعودة إلى المسار الديمقراطي، والعمل على إرساء المحكمة الدستورية في غضون سنتين. هذا الوضع السياسي الذي ظهر في تونس بعد الإجراءات الاستثنائية التي قام بها الرئيس قيس سعيد يوم 25 يوليو/تموز 2021، كان له عميق الأثر على الوضع الاقتصادي الذي لم تشهده تونس في تاريخها الحديث منذ الاستقلال.

إن سلسلة الأزمات المتتالية في تونس تعكس غياب المشروع الاقتصادي لدى الرئيس قيس سعيد، الذي استحوذ على جميع السّلطات وتمكّن من جميع الصلاحيات لما يقارب السنة ونصف السنة، دون أن تكون له رؤية اقتصادية واضحة، متجاهلا الدعوات التي قادها الاتحاد العام التونسي للشغل لعقد حوار وطني حول الوضع الاقتصادي، وانفرد بالقرار حتى عن الأحزاب التي سايرته في إجراءاته الاستثنائية. وبدا جليا أن الرئيس القادم من خارج المنتظم السياسي، والفاقد للخبرة في إدارة شؤون الدّولة، يتعاطى مع الملف الاقتصادي بالشعارات الشعبوية، والأنشطة الاستعراضية باقتحام مخازن الخضروات ومستودعات الحديد ليلا تحت شعار مقاومة للاحتكار، والتحريض على السياسيين والنواب ورجال الأعمال باسم محاربة للفساد.

هذه الطريقة في التعامل مع الملف الاقتصادي دفعت بالرئيس للسخرية من وكالات التصنيف الائتماني، التي يؤثر تصنيفها على اقتصادات الدول، وكان لتصنيفها السلبي لتونس عميق الأثر على الاقتصاد الوطني بفقد المستثمرين والشركات المزودة والبنوك الثقة في قدرة الدّولة على الالتزام بتعهداتها. وبالإضافة لكل ذلك، استنزف الرئيس طاقات البلاد فيما سماها بالاستشارة الإلكترونية التي شارك فيها 535 ألف شخص فقط بنسبة لا تتجاوز 5%، ثم في الاستفتاء الذي لم يشارك فيه سوى 27%، وهو يستعد لتنظيم انتخابات تشريعية أعلن 11 حزبا مقاطعته لها. وقد أعلنت الهيئة العليا للانتخابات التي نصبها الرئيس قيس سعيدا بديلا عن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أن تكلفة الاستفتاء والانتخابات التشريعية تبلغ 80 مليون دينار.

تشير الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحالية إلى عجز الحكومة، التي شكلها الرئيس لمساندته والفاقدة للصلاحيات، عن التعاطي مع الشأن الاقتصادي لغياب الكفاءة داخل الفريق الحكومي، والقدرة على ضبط برنامج عمل لمواجهة التحديات الاقتصادية، ولذلك نراها تعتمد خطابا “إنكاريا”، لا يعترف بالأزمة، ويؤكد قدرة الحكومة على تلبية احتياجات السّوق من المواد الأساسية، مستنكرا “نزعة الاندفاع للاستهلاك” لدى المواطنين! في حين أرجعت المديرة العامة لشركة صناعات التكرير طوابير السيارات عند محطات الوقود لرغبة التونسيين في “استغلال الطقس الجميل للتزود بالوقود”!

وفي سياق البحث عن مخرج من الأزمة التي لا يمكن إنكارها، تمكنت الحكومة من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، وهو مبلغ يقارب نصف المبلغ الذي طالبت به الحكومة وهو 4 مليارات دولار، وسيصرف المبلغ على 4 سنوات بمعدل حوالي 500 مليون دولار سنويا. ثم إن الاتفاق تم على مستوى الخبراء، والقرار النهائي يعود إلى مجلس إدارة الصندوق والذي سيجتمع في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وهو شهر الانتخابات التشريعية التي يعتزم الرئيس قيس سعيد إجراءها، وبالتالي فإن القرار النهائي لصندوق النقد بشأن القرض يظل رهين ما ستسفر عنه الانتخابات من شرعية شعبية للبرلمان واستقرار سياسي لا يبدو متاحا في ظل مقاطعة أغلب القوى السياسية والمدنية للانتخابات (أعلن 11 حزبا مقاطعته للانتخابات). وقد سبق للبنان أن أبرم اتفاقا مماثلا على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي منذ شهر أبريل/نيسان 2022 بقيمة ملياري دولار، وهو في انتظار الاتفاق النهائي إلى اليوم.

وعلى فرض حصول تونس على الموافقة النهائية من صندوق النقد الدّولي، فإن المبلغ محل الاتفاق سيكون حلا مؤقتا للأزمة المالية وبمثابة المسكن للمرض، ولن يحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد تفاقما يوما بعد يوم، في ظل العجز المزمن لحكومة فاقدة للصلاحيات، ولا عمل لها سوى مسايرة الرئيس وتنفيذ توصياته. إلى جانب توصيات صندوق النقد الدّولي الذي أكّد في تقريره بشأن الاتفاق على مستوى الخبراء، تحكم تونس في النفقات العمومية وكتلة الأجور، في إشارة إلى اتفاق الأجور مع الاتحاد العام التونسي للشغل، كما أكد أن تونس قطعت خطوات هامة في رفع الدّعم من خلال تعديل الأسعار وفق الأسعار العالمية، وشروعها في إصلاح الشركات العمومية من خلال سنها قانونا جديدا خاصا بهذه الشركات.

هذه السياسة الحكومية الخاضعة لإملاءات صندوق النقد الدولي ستكون لها انعكاسات مدمرة على المستوى الاجتماعي، مما يفتح مستقبل البلاد على المجهول، وينذر بانفجار اجتماعي غير مسبوق، بدأت بوادره في التحركات الاحتجاجية الليلية في عديد المدن التونسية، من بنزرت شمالا إلى بنقردان وجرجيس جنوبا، ولا يمكن التنبؤ بمآلات الزلزال الاجتماعي القادم، وما يمكن أن تستقر عليه الأوضاع، وكيف سيكون المشهد السياسي بعده، ولكن من المؤكد أنه سيعصف بنظام قيس سعيد، وليس بالضرورة لصالح معارضيه أو عودة المسار الديمقراطي، في ظل تشرذم الطبقة السياسية، وإنما قد تستكمل المنظومة القديمة مشروعها في الإجهاز النّهائي على الثورة، وإغلاق قوس المسار الديمقراطي نهائيا عبر التخلص من الرئيس نفسه، الذي طالما توهم أنها في خدمته، في حين أنه ليس أكثر من أداة، تم توظيفها لتفكيك كل مكاسب الثورة والنظام الديمقراطي، للعودة إلى النظام القديم وهو يردد أن “لا عودة إلى الوراء”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.