نصف مليون مهاجر يعيشون من دون أوراق إقامة في فرنسا ويعملون في ظروف قاسية، وفي قطاعات حيوية للمجتمع والاقتصاد في فرنسا، إلا أنهم يجدون أنفسهم في مرمى الخطابات السياسية التي تسعى لتشويه صورتهم، خصوصا في مواسم الحملات الانتخابية.

باريس – يكافح طارق منذ قدومه إلى فرنسا قبل 7 أعوام من أجل لقمة العيش. وفي سبيل تحسين أحوال عائلته، ينهض كل يوم منذ ساعات الفجر الأولى شتاء أو صيفا ليصل باكرا إلى المخبز التي يعمل فيه منذ أكثر من عامين.

يقول طارق متحدثا للجزيرة نت “أتيت من مدينة تطاوين في الجنوب التونسي إلى فرنسا عام 2016، وكلي أمال بفتح صفحة جديدة في حياتي وتحسين أحوال عائلتي”.

ويواصل حديثه “قبل عملي بائعا في هذا المخبز جربت مهنًا أخرى كالبناء، ولكنني مدفوعا بالصعوبات الكبيرة التي تعرضت لها استقر عملي في المخابز. وككل مهاجر غير نظامي، لا يملك أوراق إقامة، أعيش تحت ضغوط نفسية وجسدية كثيرة”.

ويضيف الشاب الثلاثيني (34 عاما) “من جهة لا بد أن أقاوم ضغوط العمل الجسدية وأشتغل 12 ساعة يوميا من دون تبرّم، مع المحافظة على الابتسامة في وجه العمال. ومن جهة أخرى، لا بد أن أقاوم مثل غيري من المهاجرين الضغوط النفسية من نظرات الازدراء والتمييز والاستهجان والضحكات المكتومة والعنصرية التي نتعرض لها كل يوم في وسائل النقل والشارع والفضاءات العامة من دون أن ننسى طبعا إتقان لعبة التخفي والهروب من فرق المراقبة والبوليس الفرنسي”.

مظاهرة في باريس مناصرة للمهاجرين غير النظاميين (الجزيرة)

حطب المعارك الانتخابية

طارق ليس حالة معزولة، وإنما هو واحد من نصف مليون مهاجر يعيشون من دون أوراق إقامة في فرنسا، في حين تظهر الأرقام الرسمية التي حصلت عليها الجزيرة نت من المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية “إنسي” (Insee) وجود 7 ملايين مهاجر في فرنسا بطريقة قانونية عام 2021، أي 10.3% من إجمالي عدد السكان البالغ 67.81 مليون نسمة.

ورغم أن عدد المهاجرين غير النظاميين في فرنسا يعدّ أقل بكثير من بقية الدول الأوروبية، مثل إيطاليا (بين 500 ألف و700 ألف) والمملكة المتحدة (بين 800 ألف و1.2 مليون) وألمانيا (بين مليون و1.2 مليون).

ووفقا لدراسة نُشرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، من قبل مركز الأبحاث الأميركي “بيو” (Pew)، فإن قضية الهجرة تعدّ هاجسا كبيرا في برامج المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية، بخاصة في معسكر اليمين واليمين المتطرف، الذي يتعهد بتشديد القوانين ضد الهجرة، وتنحو برامجه نحو التشدد والراديكالية خاصة في موضوع المهاجرين غير النظاميين.

وقد بلغ الأمر بمرشح اليمين المتطرف إريك زمور أن تعهّد في أحد خطاباته بأنه سينشئ إذا فاز بالانتخابات وزارة “للهجرة العكسية”، مهمتها طرد “الأجانب غير المرغوب فيهم”، مشددا على أن هذه الوزارة “ستكون لها الوسائل والمواثيق اللازمة لإجراء رحلات ترحيل جماعية”.

وفي الاتجاه نفسه أقرّت مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان في المناظرة التي جمعتها مساء الأربعاء بالمرشح إيمانويل ماكرون أنها ستجري استفتاء بشأن ملف الهجرة، وأنها ستقوم إذا وصلت إلى قصر الإليزيه بـ”طرد المجرمين والمنحرفين الأجانب، والتخلي عن حق الأرض، ووضع حد لتسوية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين وإصلاح نظام شنغن”.

وفي المعسكر الآخر المحسوب على الوسط، نحا الرئيس المنتهية ولايته ماكرون باتجاه اليمين بصورة كبيرة في العامين الماضيين، متبنّيا خطابا يمينيا في سياسته للهجرة، ومشددا في برنامجه الانتخابي على ضرورة وضع آليات عملية لمراقبة الحدود الأوروبية، من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من أصوات اليمين المتطرف.

فقط للاستخدام الداخلي مظاهرة في باريس مناصرة للاجئين الأفغان الجزيرة
مظاهرة في باريس مناصرة للاجئين الأفغان (الجزيرة)

تشويه سمعة المهاجرين

ويجد الأجانب في فرنسا الانتخابات أنفسهم طرفا في معركة انتخابية ليسوا طرفا فيها، وحطبا ووقودا للتجاذبات والمزايدات السياسية والحملات الانتخابية.

ومع صعود مارين لوبان إلى الدور الثاني للانتخابات، وجنوح الخطابات السياسية نحو اليمين أكثر فأكثر، يخشى هؤلاء المهاجرون الذين يعيشون أوضاعا صعبة أن تزيد أحوالهم سوءا ويكونوا في المستقبل ضحايا لتبعات تلك الخطابات سياسيا وواقعيا بعد الانتخابات.

وهو ما تؤكده الأمينة العامة لجمعية سلام للمهاجرين الناشطة في منطقة كاليه شمال فرنسا، كلير ميلوت، إذ تشير إلى أن أغلب برامج المرشحين الرئاسيين الخاصة بالهجرة سيئة ومجحفة بحق هذه الفئة الهشة، وأن هناك نوعا من التنافس بين المرشحين حول التضييق على المهاجرين وتشويه صورتهم، والتهديد بطردهم.

الناشطة الحقوقية كلير ميلوت الأمينة العامة الجمعية سلام الجزيرة نت الجزيرة
الناشطة الحقوقية كلير ميلوت الأمينة العامة لجمعية سلام (الجزيرة)

وتضيف قائلة في حديثها للجزيرة نت “المحزن أن هذا التضييق يتجاوز برامج مرشحي اليمين المتطرف، ليشمل برامج أخرى كنا نظنها أكثر وسطية، كبرنامج المرشح إيمانويل ماكرون، وبالإضافة إلى إريك زمور ومارين لوبان اللذين يتبنّيان فكرة طرد المهاجرين غير النظاميين، هناك مرشحة اليمين فاليري بيكريس التي تركز في برنامجها الانتخابي على غلق الحدود الأوروبية في وجه المهاجرين ومحاصرتهم وطردهم”.

وتتابع في السياق نفسه “أما المرشح ماكرون الذي كنا نظنه أكثر وسطية من خلال تصريحاته حين ترشح أول مرة، فقد انحاز إلى الحلول اليمينية في حملته الانتخابية الخاصة بالمهاجرين. فقد قال ماكرون عام 2017 إن عاداتنا وقيمنا في فرنسا تفرض علينا الترحيب بالمهاجرين ومساعدتهم، واليوم نراه يحاول التشبه بطروحات اليمين المتطرف لكي يستقطب الأصوات”.

فقط للاستخدام الداخلي مطاردة يومية من قوات الشرطة الفرنسية لللاجئين في شوارع باريس خاص الجزيرة نت الجزيرة
مطاردة يومية من قوات الشرطة الفرنسية لللاجئين في شوارع باريس (الجزيرة)

جحود المجتمع

ورغم ما يقدمه هؤلاء المهاجرون غير النظاميين من خدمات اقتصادية جمّة، إذ يعمل أكثر من نصف مليون منهم في ظروف قاسية، وفي قطاعات حيوية للمجتمع والاقتصاد في فرنسا، مثل التنظيف والصحة والمطاعم والبناء، فإنهم يجدون أنفسهم في مرمى الخطابات السياسية التي تسعى لتشويه صورتهم.

وفي السياق نفسه يقول المهاجر غير النظامي طارق، ونظرات الحسرة في عينيه، “رغم كل التضحيات التي نقدمها أنا وأمثالي، فإننا غالبا ما نكافأ بالجحود ونكران الجميل من قبل المجتمع، بخاصة من النخبة السياسية والإعلام الفرنسي الذي يلقي اللوم علينا ويكيل الاتهامات لنا عند أقل مشكلة أو حادث يقع، كأننا لا نصلح إلا للمشاكل فقط”.

فقط للاستخدام الداخلي وقفة احتجاجية في ساحة الجمهورية بباريس مناصرة للمهاجرين الجزيرة
وقفة احتجاجية في ساحة الجمهورية بباريس مناصرة للمهاجرين (الجزيرة)

ويضيف “رغم أنني لست مهتما كثيرا بالسياسة، فإن أصداء الحملات الانتخابية والاتهامات التي يوجهها بعض المترشحين للمهاجرين وتهديداتهم بطردنا كلها أسباب تجعلني أشعر بمرارة مضاعفة وحرقة كبيرة، وتجعلني أنظر إلى المستقبل الغامض بكثير من الريبة والتشاؤم والخوف”.

أما الناشطة ميلوت فتلاحظ حسب تجربتها الميدانية الكبيرة وتعاملها اليومي مع المهاجرين أن أغلب المهاجرين الذين يأتون إلى فرنسا وأوروبا يطمحون فقط في الحصول على عمل بسيط والعيش بسلام وكرامة، وهم “مستعدون للتضحية والعمل 12 ساعة، والحصول على أجر أقل لتحسين أوضاع عائلاتهم، في المقابل يروّج أغلب المترشحين أن هؤلاء المهاجرين قدموا إلى فرنسا للتمتع بالمساعدات الاجتماعية والسكن المجاني، وهذه أقوال مجانبة للصواب ومستفزة وهي فقط لاستقطاب الناخبين”.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.