يتعرض كثير من الطلاب لروايات تاريخية عبر ألعاب الفيديو، وذلك يطرح تساؤلات عما يُروى لهم بالضبط، فمطوّرو ألعاب الفيديو مسؤولون عن تشكيل فهم كثير من الشباب للتاريخ، وهذه نظرية تستحق مزيدًا من الدراسة.

ففي تقريره الذي نشرته مجلة “ذي أتلانتيك” الأميركية، ضرب الكاتب لوكا إيفان جوكيتش المثل بلعبة “أوروبا يونيفرساليس” (Europa Universalis) التي تعدّ من بين أكثر الألعاب الإستراتيجية شهرة في العالم، حيث يستخدمها ملايين الأشخاص، وتسمح للاعبين بالسيطرة على شخصية أو أمة تاريخية وتوجيه مسار التاريخ، ويقضي اللاعب العادي مئات الساعات في اللعب، وينفق بعضهم أموالا كبيرة عليها.

ويبيّن الكاتب أن قضاء كثير من الوقت في التعامل مع أي نوع من المحتوى ذي الطابع التاريخي من شأنه أن يؤثر على فهم المرء للتاريخ، مشيرًا إلى أن ما يتعلمه العديد من اللاعبين من هذه الألعاب يظل لغزًا.

مفارقة كبرى

ويوضح الكاتب أن بريت ديفيرو، أستاذ التاريخ في جامعة كارولينا الشمالية، يعمل على تصحيح هذه المشكلة، فقد كتب -في منشور مؤلف من 4 أجزاء على مدونته- أن المؤرخين الأكاديميين يجب أن يتعاملوا حاليا مع جيل جديد من الطلاب “تعدّ المفارقة لغتهم التاريخية الأم، والتاريخ الفعلي ليس سوى لغة ثانية”، معربًا عن أمله في إلقاء الضوء على الافتراضات التاريخية التي تقوم عليها الألعاب.

وذكر الكاتب أن ديفيرو أخبره أننا “تجاوزنا منذ بعض الوقت الخط الذي تكون فيه ألعاب الفيديو التاريخية على مستوى التأثير نفسه بحيث تتطلب المستوى نفسه من التحليل النقدي مثل الأفلام أو البرامج التلفزيونية ذات الطابع التاريخي، ولكن على الرغم من حقيقة أن حجم صناعة ألعاب الفيديو قد تضاعف مقارنة بحجم صناعة الأفلام، فإن العديد من الألعاب قد أفلتت من هذا التحليل”.

ويشير الكاتب إلى أن تحليل ألعاب الفيديو يعدّ أمرًا صعبًا بشكل خاص لسببين: أولًا، لأن من الصعب تتبع تأثيرها، فقد لا يلاحظ المعلمون أن الطالب الذي يسأل: لماذا لم يستعمر العثمانيون الولايات المتحدة؟ أو ماذا حدث لمنطقة بورغندي الفرنسية؟ قد تكون لديه وجهة نظر للتاريخ تشكلت بواسطة ألعاب “بارادوكس”.

وثانيا، لأن الألعاب على عكس الوسائط الثقافية الأخرى “تدور حول الأنظمة، وتتعلق بالآليات”، على حد تعبير ديفيرو. وتتمحور هذه الأنظمة والآليات حول الكيفية التي يمكن بها لألعاب الفيديو “تدريس” تاريخ البشر، ومع ذلك فإن وجود مثل هذه الآليات لا يعني بالضرورة أن اللاعبين سيفهمونها.

ونقل الكاتب عن ماريون كروز، الأستاذة المساعدة للكلاسيكيات في جامعة سينسيناتي، قولها إن “التحدي الرئيس يكمن في جعل اللاعبين يتعرفون ويفكرون بشكل صريح في هذه الأنظمة”.

 مركزية أوروبا

ويلفت الكاتب إلى أن ألعاب “بارادوكس” لا تمتلك نظرة واحدة للتاريخ، بل توفر كل لعبة إطارًا لفهم مرحلة تاريخية معينة، مدعومة بعدد من الادعاءات الإجرائية، على غرار لعبة “أوروبا يونيفرساليس” التي تحاكي بشكل أساسي قصة صعود أوروبا من منطقة منعزلة نسبيًّا إلى قارة مسيطرة على العالم.

وهذا يعني أنه بغض النظر عن المسار الدقيق الذي تتخذه اللعبة، فإنها عادة ما تؤدي إلى ترسيخ مكانة دول مركزية كبيرة وقوية في أوروبا وصعودها إلى الصدارة العالمية، حيث تستخدم اللعبة آلية “المؤسسات”، مثل الصحافة المكتوبة والتنوير، التي تظهر بترتيب محدد سابقا، كل 50 عامًا على الدوام تقريبًا في أوروبا، قبل أن تنتشر ببطء في جميع أنحاء العالم. ومن دون هذه المؤسسات، لا يمكن تبنّي التقنيات الجديدة إلا بتكلفة أكبر بكثير، وذلك يعني أن أوروبا كانت تتقدم ببطء على امتداد قرون على بقية العالم من الناحية التكنولوجية.

وحسب الكاتب، فإن اللاعب يتعلم أن أوروبا أصبحت استثنائية بفضل تبنّيها هذه المؤسسات، وأن ذلك سمح للنمو التكنولوجي بالازدهار ومن ثم منح الدول الأوروبية مزايا استخدمتها للسيطرة على العالم.

وأكد الكاتب أنه من أجل الحفاظ على النجاح في اللعبة لغير الأوروبيين من الأفضل الاستعداد للقتل والقهر والاستعمار، أو بعبارة أخرى القيام بما يفعله الأوروبيون، مضيفًا أن “أوروبا يونيفرساليس” مثل معظم ألعاب أستوديو “بارادوكس” تكافئ اللعبَ بطريقة توسعية قاسية.

الدولة محرك التاريخ

ويلفت الكاتب إلى أن لعبة “أوروبا يونيفرساليس” تشجع اللاعب على التصرف وفقًا لوجهة نظر واقعية متطرفة للعلاقات الدولية حيث يتم تقييم أمن الدولة قبل كل شيء، والطريقة النهائية لضمان ذلك تكون بتعظيم قوتها في نظام عالمي فوضوي، كما يوجد عدد قليل من الجهات الفاعلة غير الحكومية في اللعبة، وليس لأفعال اللاعب أي عواقب إنسانية حقيقية، حيث تشترك معظم ألعاب “بارادوكس” في هذه النظرة التاريخية المتمركزة حول الدولة، وتترك انطباعًا تاريخيًّا واضحًا بأن الدول، بدلًا من الأشخاص أو الأفكار أو المجتمعات، هي المحرك الوحيد للتاريخ.

ويرى الكاتب أن هذه النظرة للتاريخ قاصرة، على أقل تقدير، وقد أدت إلى بعض العيوب المحرجة في الألعاب، ففي الإصدارات السابقة من “أوروبا يونيفرساليس” تم التعامل مع التقدم التكنولوجي باعتباره مرتبطًا بإدراج دولة أو استبعادها من مجموعة تكنولوجية غربية، فقد ذُكر “الهولوكوست” مثلًا والفظائع الأخرى بشكل عابر أو استُبعدت تمامًا، في مجموعة ألعاب الفيديو “قلوب حديدية” (Hearts of Iron).

ويبيّن الكاتب أن أستديو “بارادوكس” حاول على مدار سنوات من التطوير دمج مزيد من التعقيد التاريخي والفروق الدقيقة في ألعابه. فعلى سبيل المثال، قامت إصدارات الشركة الخاصة بـ”أوروبا يونيفرساليس” بتصحيح الأخطاء التاريخية وتعميق أسلوب اللعب في الأجزاء غير الأوروبية من العالم، حيث يقول ديفيرو، وقد وجد خطأً في تصوير العديد من مطوّري الألعاب للتاريخ، أنه من بين مطوري ألعاب الفيديو الذين انتقدهم، لم يستجب سوى “بارادوكس” بشكل مدروس.

ويتابع الكاتب قائلًا إن الدقة التاريخية في كثير من الأحيان مستحيلة، فألعاب “بارادوكس” هي في النهاية مجرد ألعاب، وما تفعله “بارادوكس” ليس شيئًا جديدًا، حيث تعود جذور فكرة التعلم من الألعاب الإستراتيجية إلى القرن الـ19 في بروسيا، عندما كان الضباط يتدربون على تكتيكات ساحة المعركة باستخدام ألعاب لوحية مصممة خصيصًا لذلك، وعندما هزم البروسيون فرنسا في الحرب الفرنسية البروسية في عام 1870 كان لهذه الألعاب الفضل في ذلك، وسرعان ما انتشرت في جميع أنحاء أوروبا.

نقد مضاد

وحسب ديفيرو، فإن جوناس سروجي، الموظف في السفارة الدانماركية في تركيا والذي يلعب “أوروبا يونيفرساليس”، أخبره أن الألعاب هي نقطة انطلاق جيدة للتعرف على التاريخ، ولكن نظرًا لقيودها الحالية فإن تاريخها يحتاج إلى دعم من مصادر أخرى، لكن ديفيرو -على الرغم من انتقاداته العلنية العديدة للألعاب- يعتقد أن الألعاب لا تزال أفضل من العديد من الطرق الأخرى لتعلم التاريخ، فقد قال إن ألعاب الفيديو تتفاعل مع التاريخ بطريقة مدروسة وقوية أكثر من التلفزيون أو الأفلام، حسب الكاتب.

وينهي الكاتب تقريره بالقول إن كروس وديفيرو يتفقان مع التحذير القائل بأن الألعاب حاليًّا محدودة للغاية من حيث مدى قدرتها على تعليم الروايات التاريخية بشكل جيد، مشيرا إلى أن أي تعديل للماضي يحتوي على تشوهات، وأن التواريخ الشعبية مملوءة أيضًا بالأخطاء والإفراط في التبسيط.

ورأى كروس أن الألعاب، مثل لعبة مثل “أوروبا يونيفرساليس”، تثير الاهتمام بالماضي، وإن كان بطريقة سطحية نسبيًّا، في حين رأى الكاتب أن أي شيء يمكن أن يلفت الانتباه إلى فترات أو تواريخ لا يصادفها معظم الناس بطريقة أخرى يقدم خدمة حقيقية للغاية، حيث يحصل اللاعبون على تجربة موسعة ومفصلة ومثيرة للغوص في التاريخ، وهذا أكثر مما يمكن أن تقدمه معظم الكتب المدرسية في المدارس.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.