أم ضوًا بان – يحفظ التاريخ لكثير من المساجد السودانية خصوصيتها، وتأسيها بالمسجد النبوي وظيفيًّا. فلقد اشتهرت مساجد عديدة بكونها مكان التعليم وفض النزاعات وإعلان الجهاد.

الجزيرة نت زارت أحد هذه المساجد المسمى “أم ضوًّا بان” وأفطرت هناك.

إنشاء وإعمار

سيعجزك العد إن رحت تحصي المدن والقرى السودانية التي ارتبطت أسماؤها بأسماء شيوخ ومتصوفة ورجال اشتهروا بين الناس بصلاحهم (دامر المجذوب، ود مدني السني، ود العباس، الشيخ الطيب، الشيخ الياقوت…)، وقد يرتبط اسم الشيخ بالمنطقة فيسمى براجل (رجل) كذا. ذلك أن عددًا من هذه القرى والمدن أسسها مشايخ. وربما كانت القرية قائمة لكن مكوث شيخ بها يجعلها قبلة للزوار.

يذكر الباحث يحيى محمد إبراهيم في كتابه “تاريخ التعليم الديني في السودان” أنه “عندما يشتهر عالم في قرية أو مدينة كان الناس طلابًا وعامة يشدّون الرحال إليه، الطلاب رغبة في علم مباشر، والعامة أملًا في بركة أو علاج لمرض”.

ويورد في موضع آخر “وكان بعض الفقهاء يسافرون إلى مدن ذات شهرة تجارية فيستقرون فيها فيذاع خبرهم، فيتوافد الناس إليهم، ثم تزداد تلك المدن ثراء وحركة”. والأمر موصول ببعض تقاليد الدعوة والإرشاد.

وفي ذلك يفيدنا الباحث الشيخ عامر الشيخ أبو قرون بقوله “بعد أن يحس الشيخ أن طالبه بلغ من العلم مبلغًا كبيرا وصار له معرفة جيدة في إدارة الطلاب والخلوة، مع اتسام بقدر من الحكمة يمنحه الإذن بأن يستقل وينشئ خلوته الخاصة، فيبحث الطالب بعد تشييخه عن مكان يؤسس فيه مسجده”.

أُمْ ضوًّا بان إحدى هذه المناطق التي أسسها الشيخ محمد بن بدر الملقب بـ”العبيد” أو العبيد ود ريا، والتي تقع على بعد 50 جنوب شرق الخرطوم. وكان الشيخ قد اتخذ من مكان يسمى “النِّخِيرة” مقرًّا له لتدريس القرآن ونشر الدعوة، لكنه انتقل لأُمْ ضوًّا بان عندما بلغ الأربعين، وأسس مسجدها في العام 1848 م.

وفي العامية السودانية يقولون “أم كذا”، ويعنون ذات كذا، ومن ذلك “أم ضوًّا بان” التي يعني اسمها “التي بان ضوؤها”، وهو الاسم المستحدث لـ”أم ضُبَّان”.

السيف واللوح

عُرِف الشيخ العبيد ود بدر مؤسس أُمْ ضوًّا بان بورعه وتقواه وحب العلم والفصاحة والقول الحكيم، أسس الشيخ العبيد مسجده وخلوةً لتعليم القرآن.

وللخلوة في السودان معنى آخر يضاف إلى مكان المناجاة والتعبد، وهو سكن الطلاب الغرباء القادمين لتعلم القرآن، في حين يسمى مكان التعلم بالقرآنية، وقد يقع خلط بين المصطلحات فيسمى مكان التعلم بالخلوة، وهناك المسيد الذي يعرفه المعتصم أحمد الحاج في كتابه “الخلاوي في السودان.. نظمها ورسومها”، بالمبنى الذي يضم المسجد، والخلاوي التي يأوي إليها الطلاب الغرباء.

بدأ طلاب العلم بالتوافد على مسيد الشيخ العبيد الذي راح يستقدم العلماء ليعلّموا معه من وفَد، وعلى أضواء القرآن راح الطلاب يخطون على ألواحهم الخشبية يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن.

وبعد قيام الثورة المهدية تحوّل المسيد إلى مركز للدعوة لقتال المستعمر ونصرة الإمام محمد أحمد المهدي، فأرسل الشيخ العبيد ابنه ليبايع المهدي، وراح يكوّن جيشه الذي كان له القدح المعلى في فتح الخرطوم، فلقد شكل الشيخ العبيد وأتباعه جبهة قوية شرقي الخرطوم.

ليخوض عدة معارك مع القائد الإنجليزي غردون من أهمها معركة الحلفايا (ضاحية شمال الخرطوم) في مارس/آذار 1884، ثم معركة قصر راسخ بعدها مباشرة، أما المعركة الكبرى التي شكلت هزيمة ساحقة كانت في قريته “أم ضُبَّان”، إذ يذكر إبراهيم فوزي كاتب غردون -في الجزء الأول من كتابه “السودان بين يدي غردون وكتشنر”- أن حملة قادها اللواء محمد علي، قوامها 10 آلاف مقاتل، اتجهت صوب قرية الشيخ العبيد ود بدر لم ينج منهم إلا القليل، وأورد فوزي ما نصه “ونجا من رجال الحملة نحو 200 جندي فقط”.

وبعدها حاصرت قوات الشيخ العبيد الخرطوم، ولم تكن قوات المهدي قد بدأت الحصار حتى ذلك الحين، ولئن سبقت منية الشيخ العبيد فتح الخرطوم، فإن ابنه أحمد كان أحد أسباب الفتح، بعد أن خلف والده في المسيد والجيش.

 

نار القِرَى ونور القرآن

بُعيد صلاة المغرب وبعد تناول الإفطار شاهدنا طالبًا يقرأ من لوحه على ضوء النار -رغم الإنارة التي تعم المكان- كأنه يلتمس البركة، فسألنا الشيخ المشرف على الطلاب يوسف الجزولي عن ذلك، فأجاب “لم تمر ليلة منذ العام 1264 هجرية دون أن تضيء هذه النار المكان”، ورغم انتفاء أهمية النار في الإضاءة، فإن رمزيتها ما زالت حاضرة.

الجزيرة نت سألت الشيخ الجزولي عن عدد الطلاب والجهات التي ينتمون لها، فأجاب بأن “العدد يقل ويزيد باختلاف الأوقات، وعادة ما يمنح الطلاب إجازة في رمضان لزيارة ذويهم، لذا فالعدد لا يزيد عن 400 طالب”، وأضاف الجزولي أن عدد الطلاب يبلغ 1200 طالب في بعض الأوقات، وأنهم ينتمون لمختلف جهات السودان، مع وجود طلاب من خارجه أكثرهم من تشاد، تليها نيجريا من حيث العدد، ثم النيجر فالكاميرون. وذكر الشيخ الجزولي أن هناك طالبًا من موريتانيا يحفظ بأكثر من رواية.

سألنا الشيخ صابر العبيد عن كيفية إطعام هذا العدد، فقال “الإطعام سبب إنشاء مسيد الشيخ العبيد ود بدر، فقد قرَّ عنده أن الإطعام من أكبر القربات ومن خَيرِ ما يقدم، وأنك واجد في مسيد الشيخ العبيد الطعام في أي وقت”.

ويضم المسيد عددًا من التكايا منها واحدة لضيافة زوار الشيخ الطيب خليفة جده العبيد، وأخرى لأبناء الشيخ، لكن الكبرى تخص الطلاب والتي تستهلك في أقل الأوقات جوالا كاملًا من دقيق الذرة لصنع العصيدة، وتسمى عندهم “الدِّبْلِيبَة” يقوم على إعدادها 6 إلى 8 أفراد، بحسب إفادة مشرف التكية.

الشيخ الطيب خليفة جدّه الشيخ العبيد ود بدر (مواقع التواصل الاجتماعي)

الشيخ صابر أفاد الجزيرة نت بأن نار الطعام لم تخبو قط حتى في سنوات الجدب والمجاعات التي اجتاحت السودان. سألنا الشيخ من أين يؤتى بكل هذه الكميات فردّ “من زراعة الشيخ وأبنائه وبعض المحسنين”.

إشعاع ثقافي ومزار روحي

طلابٌ من معظم أنحاء القطر، بعضهم اكتفى بالعلم الشرعي، وبعضهم واصل مسيرته التعليمية فشغلوا وظائف عديدة ومناصب كبيرة، لكن ليس هذا هو الأثر الأوحد للمسيد، فلقد اهتم أبناء الشيخ العبيد وأحفاده من بعدهم بكل ما يهم القرية والقرى المجاورة؛ فبنوا المدارس والمراكز الصحية.

ولم يتوقف الاهتمام بالتعليم الديني على الشكل التقليدي فقط، بل تم إنشاء معهد الخليفة يوسف ود بدر للقرآن الكريم وعلومه، والذي يغذيه الحفظة من المسيد وغيره ليزدادوا علمًا.

مدير المعهد الشيخ عمر أحمد عبد القادر عدّد للجزيرة نت ما يقدمه معهده، قائلا “بالإضافة لعلوم اللغة العربية والعلوم الشرعية، ندرس الرياضيات واللغة الإنجليزية وبعض العلوم الإنسانية”، وبسؤاله عن علاقة المعهد بالمسيد قال “رغم أن الخليفة يوسف جعل المعهد تحت إمرة الحكومة؛ فإنه ومن خلفه من بعده يحرصون على متابعة أحواله وصيانة مبانيه وإطعام الطلاب”. ويؤهل المعهد طلابه للحصول على الشهادة الدينية (الشهادة الأهلية) التي تتيح لهم فرص المنافسة في بعض الكليات.

وإضافة لمهمة التعليم في القرية والمنطقة بأسرها، فإن كثيرا من الحِكَم المنسوبة للشيخ العبيد تجري على ألسنة أهل السودان، كما قدم المسيد الكثير من المؤلفات في العلوم الشرعية وكتب الفكر والتصوف، إضافة لدواوين شعرية في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم. ويلفت الشيخ صابر انتباهنا للتثاقف الحادث داخل المسيد نسبة لاختلاف بيئات الطلاب ومشاربهم، مشيرًا إلى أن بعضهم استقر في القرية وصار جزءًا من نسيجها الاجتماعي.

كل ذلك جعل من مسيد الشيخ العبيد مركز إشعاع ثقافيا ومزارًا روحيا يزوره الكثيرون.

(أُمْ ضوًّا بان).. مسجد القِرى والقرآن، زاره جنبلاط والفحام وقرأ فيه كلاي القرآن كان سببًا في فتح الخرطوم، وسقوط غردون.
مسجد ومسيد أُمْ ضوًّا بان يستضيف طلاب العلم من شتى الأقطار (مواقع التواصل)

يستذكر الشيخ صابر العبيد زيارة البطل العالمي محمد علي كلاي للمسيد عام 1984 في زيارته للسودان. وكيف احتفى المسيد والقرية بالضيف الذي جلس وسط الطلاب حاملًا لوح أحدهم في سعادة بهذا الجو القرآني الذي حرك وجدانه وأثار فيه الكثير.

وممن زار مسيد الشيخ العبيد فضيلة الإمام الفحام عام 1970 بعد تولِّيه مشيخة الأزهر، وقُوبل بحفاوة كبيرة تناسب عِلمه ومكانته، كما زار المسيد الزعيم اللبناني كمال جنبلاط في العام 1971.

حلقات الدارسين وصفوف المحتاجين

ويبقى المشهد الأجمل تلك الدائرة ذات القطر الطويل التي يشكلها مئات الطلاب وهم يقرؤون ألواحهم، ولهم دوي بالقرآن عجيب، وهناك في مضيفة الشيخ طابور من أصحاب الحاجات يفدون على شيخ المسيد (الشيخ الطيب) يسألهم عن حاجاتهم واحدا واحدًا ويسعى في قضائها.

أكثر من 170 عاما والمسجد في خدمة القرآن واللغة العربية، لم تخمد له نار قرى أو يخبو له نور القرآن.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.