يبكي الفائز في الدورة الثامنة من جائزة كتارا للرواية عبد القادر مضوي مع شخوص روايته، ويداعب صغارهم. سوداني يكتب حكاية غواص قطري، وروايته الفائزة أول رواية له.

“بحرٌ وحنين”، حكاية غواص قطري، بين بر وبحر، بكل انعطافات الحياة ومنعرجاتها، حكاية يرى مبدعها أنها حكاية أهل قطر.

ظلت الحكاية تراوده زمنًا قبل أن يكملها ويرسلها في آخر يوم لاستقبال الأعمال في جائزة كتارا (فئة الروايات غير المنشورة) 2022، وراح السودانيون يبحثون عن هذا الاسم الذي لم يعرفوا له رواية من قبل.

رواية مضوي تسافر عبر الأزمنة القديمة لتحكي سيرة غواص قطري ولد عام 1915 ومات عام 1997، رواية تحكي الصراع وخوض معترك الحياة والبحث عن الذات في مجتمع يسوده الفقر ويعتمد في معيشته على رحلات الغوص، ليشكل مضوي حالة ثنائية الحنين؛ يحن في الدوحة للسودان، ويحن للدوحة عندما يذهب إلى غيرها من المدن.

لكن هل الحنين وحده ما تكسبه الغربة؟

التقت الجزيرة نت الروائي السوداني ودار الحديث عن البحر والحنين.

  • مضوي والسرد، احكِ لنا بدايات الرحلة.

بدايات الرحلة كانت في ثمانينيات القرن الماضي، حينها كنت طالبًا بمدرسة خور طقت الثانوية بالسودان (من أعرق المدارس الثانوية السودانية بشمالي مدينة الأبيض)، مولعًا بالشطرنج ومنضمًا إلى جمعية الرياضيات، وكانت المدرسة تحتفل كل عام بعيد العلم، وتنظم المسابقات، ومنها القصة القصيرة. تقدمت للمسابقة ونسيت الأمر، فحظوظي في الفوز ضئيلة لتقدم عشرات الطلاب من الموهوبين في الكتابة لهذه المسابقة.

رواية “بحر وحنين” (الجزيرة)

قبل إعلان النتيجة بأيام، بُلِغت أن الأستاذ محيي الدين فارس (معلم وأحد كبار شعراء السودان 1936-2008) يطلبني في أمر عاجل. حتى تلك اللحظة لم تربطني أية علاقة أدبية بالشاعر الكبير، وعندما وصلت إلى شعبة اللغة العربية، كانت أنفاسي تعلو وتهبط مثل عداء بلغ خط نهاية سباق طويل. سألني عن القصة، ولِم لم انضم لمجموعة الكتابة، فلدي الموهبة التي تحتاج إلى صقل. في يوم الحفل تفاجأت بفوز قصتي بعنوان “المرأة وشيطانها” بالمركز الثاني، في حين ذهبت جائزة المركز الأول للدكتور أسامة عوض، وفي المركز الثالث عبد المنعم عجب الفيا القانوني الضليع والمثقف والباحث في اللهجات السودانية.

ثم بدأت الرحلة بالكتابة إلى الإذاعة المحلية بمدينتي الأبيض (عاصمة إقليم كردفان)، بعدها كتبت القصة البوليسية القصيرة، وصدرت لي ثلاث مجموعات “حكايات من خلف القضبان” (2006) و”قتيل الفجر” (2009) و”قبل فوات الأوان” (2011).

كنت اعتبر الروائيين مخلوقات فضائية غريبة الأطوار، جاءت من كوكب بعيد، يتصفون بصفات خارقة، ولهم عوالمهم الخاصة، يعيشون في مناطق محظورة، ومغلقة لا يمكن الاقتراب منها، حتى وفقني الله قبل عامين لكسر هذا الحاجز النفسي، وجدت نفسي -دون أن أسعى لذلك- امتلك أدوات بناء رواية مكتملة

  • كيف كان العبور من القصة إلى الرواية؟

كنت اعتبر الروائيين مخلوقات فضائية غريبة الأطوار، جاءت من كوكب بعيد، يتصفون بصفات خارقة، ولهم عوالمهم الخاصة، يعيشون في مناطق محظورة ومغلقة لا يمكن الاقتراب منها، حتى وفقني الله قبل عامين لكسر هذا الحاجز النفسي، وجدت نفسي -دون أن أسعى لذلك- امتلك أدوات بناء رواية مكتملة، فبدأت مدفوعًا بقوة خفية للكتابة، وبصفة يومية لساعات طويلة قد تصل في بعض الأيام إلى عشر. وكنت أجد المتعة في العيش وسط شخصياتي أضحك عندما يضحكون، وأبكي في أحزانهم، أداعب صغارهم وأجلب الماء من البئر لنسائهم.

الإنسان ومنذ بدء الخليقة يبحث عن أمكنة جديدة، ينشد فيها الراحة والهدوء واللقمة الشريفة. في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، هبطت إلى الدوحة، وأنخت بعيري بمضاربها، فطابت لي الإقامة والتصق جسدي بترابها. استسلمت لإيقاع حياتها وحكاياتها وأساطيرها وأعراسها ولرقصات العرضة، وبريق السيوف وصليلها. تذوقت الأكلات الشعبية في المطاعم الصغيرة في الأزقة الضيقة بالحواري، والأحياء القديمة. دخلت مجالسها، وتنسمت بخورها، وارتشفت القهوة بالهيل والزنجبيل. أصبَحَت جزءًا من يومياتي.

  • ليس شرطًا ولكن يتوقع من المغترب الكتابة عن بلاده، لكنك خالفت المعتاد، لماذا؟

سبق أن أجبت على هذا السؤال في مقال منشور، وقلت إن الإنسان ومنذ بدء الخليقة يبحث عن أمكنة جديدة، ينشد فيها الراحة والهدوء واللقمة الشريفة. في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، هبطت إلى الدوحة، وأنخت بعيري بمضاربها، فطابت لي الإقامة والتصق جسدي بترابها. استسلمت لإيقاع حياتها وحكاياتها وأساطيرها وأعراسها ولرقصات العرضة، وبريق السيوف وصليلها. تذوقت الأكلات الشعبية في المطاعم الصغيرة، في الأزقة الضيقة بالحواري، والأحياء القديمة. دخلت مجالسها، وتنسمت بخورها، وارتشفت القهوة بالهيل والزنجبيل. أصبَحَت جزءًا من يومياتي.

كل هذا دفعني لتوثيق تجربتي في عمل روائي يتنفس نسيم بحر قطر. لكن رغم ذلك يظل الحنين، وحلم العودة إلى وطني هواجس تؤرقني. هنا في قطر تشكلت شخصيتي، وهناك في الوطن الجريح، تشكلت عجينتي، وتولدت خيوط حكايتي مع الزمان.

  • تخيرت زمانا غير الذي نعيشه، مما يفرض قراءات وبحثا..

أحب دائما أن أتحدى نفسي، فقبل كتابة الرواية أو ولوج عالمها، فكرت في كتابة عمل متميز يكون مختلفا عن الآخرين. لماذا مثلا لا أكتب رواية في بيئة خطرة لا أنتمي إليها، تدور أحداثها في زمن غابر؟ في البداية تملكني إحساس لاعب كرة القدم الذي يدخل إلى الملعب وهو يرتدي بدلة سوداء وحذاءً لامعا، فيلتفت إليه الناس في استغراب. ومع مرور الوقت خلعت بدلتي الأنيقة وأصبح الأمر معتادًا، فكل ما احتاجه من معلومات متوفر لدي، وحتى أنجز هذه الرواية “بحر وحنين” قرأت عشرات الكتب والبحوث التاريخية المتعلقة بالغوص وحياة أهل قطر في فترة حياة بطل الرواية من عام 1915 شهقة ميلاده وحتى أنفاسه الأخيرة عام 1997.

الروائي عبدالقادر مضوي
الروائي السوداني عبد القادر مضوي في حفل تكريمه (الجزيرة)
  • كيف أُلهمت الرواية؟

قبل أكثر من 15 عاما وبحكم عملي الصحفي أجريت حوارًا صحفيا مع (أحد أعلام ورجال الغوص على اللؤلؤ) الوالد إبراهيم بن علي المريخي عليه رحمة الله، والذي ولد في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وامتهن الغوص وعاش تحديات البحر كسائر أهل قطر. كان رجلًا صلبًا ووضاحًا يشبه جدي الأنصاري، صاحب ذاكرة متقدة، مدَّني بمعلومات مهمة عن البحر والغوص في فترة أحداث الرواية، فألهمني كتابتها. كنت أريد أيضا أن أقول لأبنائي وأحفادي من بعدهم: من هنا مرَّ عبد القادر مضوي.

  • كم مرة طرقت أبواب الجوائز؟

هذه روايتي الأولى، وتقدمت بها في آخر يوم للجائزة. لم يحدث أن طرقت بابا لجائزة، لكن صديقًا قرأ الرواية، طلب مني أن أتقدم بها لجائزة كتارا.

جائزة كتارا للرواية العربية بوابة عبور إلى عالم الفضائيين الذي تحدثت عنه في بداية هذا الحوار. ما يميز الجائزة عدم اعترافها بالأسماء الروائية المعروفة، وإنما بقوة العمل الروائي ومدى توفر المعايير الفنية

  • حدثنا عن تجربتك مع كتارا

تجربتي رائعة، وجائزة كتارا للرواية العربية بوابة عبور إلى عالم الفضائيين الذي تحدثت عنه في بداية هذا الحوار. ما يميز الجائزة عدم اعترافها بالأسماء الروائية المعروفة، وإنما بقوة العمل الروائي ومدى توفر المعايير الفنية.

الروائي عبدالقادر مضوي
الروائي عبد القادر مضوي يوقع روايته بعد نشرها في 2023 (الجزيرة)
  • كيف تنظر للجائزة وأثرها على مشروعك الكتابي؟

هي بالطبع إضافة حقيقية في مشواري، لكنها في الوقت نفسه ضيف ثقيل، بمعنى أن الناس تريد من عبد القادر مضوي كتابات بقوة الرواية الفائزة نفسها، وألا تقل عن مستواها بأي حال من الحال، وهذا يمثل ضغطًا كبيرا على شخصي، ويدخلني في دهليز طويل مظلم لا أريد أن أعبره. فقد لا أمر بتلك الظروف التي كانت سببًا في تفجر طاقتي.

  • ثم ماذا بعد كتارا؟

رواية “بحر وحنين” قبل أن تكون سيرة مواطن قطري طموح، هي سيرة وطن مر بمنعطفات كثيرة حتى وصل بجهد أبنائه ومثابرتهم إلى مرتبة عظيمة. هناك بعض الأحداث المهمة أيضا التي لم تتناولها الرواية الأولى، ففكرت في عمل ثلاثية “بحر وحنين”، وقد انتهيت من الرواية الثانية وتحمل اسم “هارب إلى الحياة” لم تنشر بعد، وقطعت شوطا كبيرا في الرواية الثالثة، لتكتمل الثلاثية، ويمكن أن أشارك بالروايتين الأخيرتين في جائزة كتارا. أطمح بعد الانتهاء من الثلاثية في كتابة الروايات البوليسية التي أجد نفسي فيها بحكم خبرتي.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.