قبل سنوات، كتب الشاعر الإسرائيلي “يعقوب تالمون” قصيدة ساخرة رفض التلفزيون الإسرائيلي إذاعتها حينها، وتحدثت عن الورطة الكبيرة التي تعيش فيها دولة الاحتلال، وهي ورطة تبدو صغيرة من بعيد، لكنها بمرور الزمن تكبر أكثر فأكثر حتى تصبح أكبر من أن يستوعبها الصهاينة أنفسهم.

تدور أحداث القصيدة، كما ذكرها الدكتور “عبد الوهاب المسيري” في مقالة له بعنوان “عندما تتحول الصهيونية إلى نكتة”، في صالون تجلس فيه أسرة من 3 أشخاص، أب وأم وابن، ورابعهم جندي صهيوني، كل ذلك داخل مستوطنة مسلحة. حين يندلع حريق خارج المنزل، لا تُلقي الأسرة ولا الجندي بالا للحريق، بل يناقشون ببرودة الوضع الذي يعتبرونه جيدا، غير آبهين بإمكانية دخول أي جمرات نارية إلى منزلهم، فحتى إن دخلت هذه الجمرات، فسيكون التعامل معها أمرا سهلا للغاية. ولكن على عكس المأمول والمرغوب، تحوَّلت الجمرات بسرعة إلى نيران أكلت المنزل وسط ذهول الجميع.

أثبتت السنون أن هذه القصيدة الساخرة ما هي إلا نسخة من الوضع الحقيقي، الذي برهن لنا غير ما مرة على قدرة المقاومة على تحويل الجمرة الصغيرة إلى نار عظيمة، تأكل أجزاء من الأراضي المحتلة، وسط صدمة إسرائيل وباقي العواصم الغربية التي تدين للأخيرة بالدعم اللا مشروط.

حجارة اليأس والأمل

مع اندلاع الانتفاضة الأولى، دخل سلاح جديد مختلف تماما عن ذلك الذي كان مستعملا في السنوات السابقة، سلاحا بسيطا سطر صفحة جديدة في تاريخ المقاومة: الحجارة. (الفرنسية)

للمغاربة مَثَل شهير يتداوله الجميع من كبار وصغار يقول: “العود اللي تحڭره يعميك”، ويعني أن العود الصغير الذي تحتقره قد يسبب لك العمى. وهذا ما حدث مع دولة الاحتلال، التي ربما لم تكن تتصور أن تتمكن المقاومة في قطاع غزة المحاصر، وفي سنوات قليلة، من تشكيل ترسانة صاروخية قادرة على الوصول إلى أي نقطة داخل الخط الأخضر.

للوصول إلى ما يحدث اليوم، كان على الفلسطينيين الاعتماد على أنفسهم، فبعد أن أخفقت الجيوش العربية في موقعتي “النكبة” و”النكسة” عامي 1948 و1987، بدأ النضال الفلسطيني يتحرر أكثر فأكثر من الوصاية الرسمية للجيوش النظامية، خصوصا بعد قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 1967، وتحوُّل الهدف العربي من تحرير فلسطين إلى مجرد إزالة آثار العدوان الإسرائيلي (1).

أقنعت هذه التحولات الفلسطينيين أن عليهم الاعتماد على أنفسهم في معركة التحرير. وحينها بدأت صورة الفلسطيني تتحول من مشرد أو لاجئ يبحث عن مكان له في المخيمات إلى فدائي يحمل السلاح ويواجه عدوَّه مباشرة. وقد هدفت حركة فتح، ومنظمات المقاومة الفلسطينية التي غلبت عليها الطبعة اليسارية أو القومية آنذاك، إلى تكوين ساحة كفاح مسلح عبر بناء قواعد ارتكاز في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وشجَّعت الإضرابات والاعتصامات وغيرها من التحركات المدنية المقاومة.

انطلق التنفيذ في الضفة الغربية، إذ بدأ بناء القواعد الأولى عبر فريق تكوَّن من 30 رجلا استهدفوا العدو. ومن جهتها واجهت إسرائيل هذا التحرك المسلح بحملة أمنية واسعة مع فرض حظر التجول وتقسيم الأراضي المحتلة إلى مربعات أمنية لسرعة تمشيطها، ومع نهاية عام 1967 عرفت فلسطين استشهاد واعتقال المئات من الناشطين والفدائيين والمناصرين، ما تسبب في انحسار العمل الفدائي المسلح في الضفة الغربية، مع محافظته على زخم أكبر بقطاع غزة حتى عام 1971 (2).

مع اندلاع الانتفاضة الأولى، دخل سلاح جديد مختلف تماما عن ذلك الذي كان مستعملا في السنوات السابقة، فلم يعد المنتفضون في حاجة إلى الأسلحة النارية ولا الترتيبات الأمنية المعقدة لإعلان غضبهم، بل استخدموا سلاحا بسيطا سطر صفحة جديدة في تاريخ المقاومة: الحجارة.

عملت دولة الاحتلال على مصادرة جميع الأسلحة المتاحة للمقاومين الفلسطينيين، من الخفيف إلى الثقيل، ولذلك شكَّل الحجر وسيلة مقاومة وحيدة ممكنة، حتى يتمكن الفلسطيني من الدفاع عن نفسه أمام آلة القمع والقتل الإسرائيلية. وقد جاء استخدام الحجارة أسلوبا مهما في هذه المرحلة لأسباب متعددة، أهمها توفرها في كل مكان، وإتاحتها للجميع وليس للجماعات الفدائية فقط، كما أن استعمالها لا يحتاج إلى دورات تدريبية، علاوة على أن المقاومة بالحجارة تتجاوز التنظيمات والتكتيكات العسكرية. حظي هذا النوع من المقاومة على بساطتها باهتمام إسرائيلي كبير، فقد وصفت مصادر عسكرية إسرائيلية أطفال الحجارة “بالجنرالات” يقودون ثورة مسلحة (3).

بجانب الحجارة، اعتمدت المقاومة على السكاكين سلاحا ثانيا، وذلك لسبب بسيط هو وجودها في جميع البيوت. تحظى السكاكين أيضا بقدرة عالية على القتل، بجانب رمزيتها المرعبة في نفسية الجنود الإسرائيليين. وكذلك استعمل المقاومون الزجاجات الحارقة المتفجرة الشهيرة بـ”المولوتوف”. فمع بداية شهر يونيو/حزيران 1988 بدأت عمليات حرق المنشآت الزراعية والصناعية الإسرائيلية من طرف “القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة” ردا على إقدام سلطات الاحتلال الإسرائيلي على إتلاف حقول القمح واقتلاع أشجار الزيتون والحمضيات في مناطق شاسعة بالأراضي الفلسطينية المحتلة (4).

صواريخ تحكي معجزات

ليس سرا أن موازين القوى عرفت تغييرا جذريا بعد تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 1987، ثم الإعلان عن تأسيس الجهاز العسكري الذي حمل اسم الشهيد عز الدين القسام عام 1990. وقد شكَّلت الساعة الثانية صباحا من يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2001 ساعة محورية في تاريخ القضية الفلسطينية، حين أعلنت كتائب القسام في بيان تاريخي لها قصف مدينة “سديروت” الصهيونية شمال قطاع غزة بعدة صواريخ من طراز “قسام 1” ردا على جرائم الجيش الإسرائيلي. وقالت كتائب القسام آنذاك: “نعاهد الله ثم نعاهدكم لنجعلن حياة الصهاينة جحيما لا يطاق، ولندخلن عليهم المستوطنات والمدن، ولنخرجهم من أرضنا صاغرين بعون الله تعالى، وندعوكم إلى الانحياز دوما إلى خيار الجهاد والمقاومة وعدم اليأس، ونعدكم أن نكون المخلصين دوما حتى نحرر كامل تراب فلسطين” (5).

جاء هذا القصف بعد عشرات المحاولات لإطلاق صواريخ نحو المستوطنات الإسرائيلية والمواقع العسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي في غلاف غزة، وجاءت الفكرة من الشهيدين “نضال فرحات” و”تيتو مسعود”. وحينما وصلت القسام إلى النتيجة المرجوة وهي إطلاق الصاروخ الأول، ورغم استشهاد الرجلين اللذين وقفا وراء هذا المشروع، واصل مهندسو الصواريخ بكتائب القسام إدخال التحسينات للحصول على قدرة تدميرية أكبر، وقد كان (6).

لم يكن مدى صاروخ “قسام 1” يتجاوز 3 كيلومترات، لكن التطوير لم يتأخر، إذ أعلنت الكتائب عن “قسام 2” الذي يبلغ مداه ما بين 9-12 كيلومترا، ما منح رجال المقاومة عمقا أكبر أثناء عملياتهم على الأرض. ثم أتى بعد ذلك صاروخ “قسام 3” الذي أُعلن عنه عام 2005 وتراوح مداه بين 15-17 كيلومترا، أي إن الوصول إلى مدينة عسقلان ذات الكثافة السكانية الكبيرة والمنشآت المهمة مثل الموانئ ومحطات الكهرباء بات في متناول صواريخ المقاومة الفلسطينية.

عام 2012، عُدَّ صاروخ “M-75” إحدى أكبر خطوات بناء ترسانة القسام، إذ يصل مداها إلى ما بين 75 إلى 80 كيلومترا. (الصورة: رويترز)

في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، أعلنت كتائب القسام عن دخول صاروخ “M-75” (نسبة إلى الشهيد إبراهيم مقادمة) إلى الخدمة خلال معركة “حجارة السجيل”، وعُدَّ هذا الصاروخ إحدى أكبر خطوات بناء ترسانة القسام، إذ يصل مداه إلى ما بين 75-80 كيلومترا، ما يعني أن تل أبيب دخلت رسميا نطاق النار. في يوليو/تموز 2014، أطلقت كتائب القسام صاروخ “سجيل 55ـ40” في معركة العصف المأكول، الذي استهدف التجمعات الصهيونية ومحيط منطقة “غوش دان” وبها أكبر تجمع سكاني للمستوطنين. واستخدمت القسام صواريخ أخرى في معركة “العصف المأكول” مثل “G-80″، الذي يبلغ مداه 80 كيلومترا، و”R-160″، الذي شكَّل مفاجأة صادمة لإسرائيل بعد أن وصل مداه إلى 160 كيلومترا.

لم تتوقف إبداعات القسام الصاروخية عند هذ الحد، فقد أطلقت صاروخ “Q 20-12″، النسخة المطورة من صاروخ قسام الأول، واستُخدم لأول مرة في معركة سيف القدس عام 2021 حينما قصفت صهاريج “كاتسا” جنوب عسقلان. ثم في مايو/أيار 2021 أُطلق صاروخ “A120” الذي حمل رأسا متفجرا ذا قدرة تدميرية عالية يصل مداها إلى 120 كيلومترا. وبعد يوم واحد، أطلقت المقاومة صاروخ “SH85″، الذي وجهت من خلاله ضربة “لمطار بن غوريون” أثناء معركة “سيف القدس”.

وصلت صواريخ المقاومة في نهاية المطاف إلى فخر صناعتها “عياش 250″، الذي أُدخل رسميا جميع الأراضي المحتلة في نطاق نيران المقاومة، وكل ذلك في خضم قطاع صناعة هندسية صاروخية ناشئ داخل منطقة محاصرة تصلها بالكاد احتياجات الحياة الأساسية. ورغم أن الصواريخ هي أشهر إنتاجات القسام، ويُسلَّط عليها الضوء كلما اشتعلت نيران الحرب، فإن الذراع العسكري لحركة حماس له باع في تصنيع أنواع أخرى من الأسلحة مثل المسدسات والقذائف، وأخيرا الطائرات المُسيَّرة، مثل طائرة شهاب الانتحارية التي أُعلن عنها عام 2021، وهو العام نفسه الذي أُعلن فيه عن طائرتيْ الزواري الاستطلاعية والانتحارية.

قبة حديدية ترعب مُصمِّميها

في مارس/آذار 2011 أعلن جيش الاحتلال عن إدخال ما يسمى بـ”القبة الحديدية” إلى الخدمة، وهي سلاح لاعتراض صواريخ المقاومة، ثم أعلن جيش الاحتلال عام 2017 عن تطوير القبة الحديدية لتتمكن من التصدي لقذائف الهاون والطائرات المسيرة (7). وقد اعتبرت إسرائيل معركة “سيف القدس” عام 2021 بمنزلة الامتحان الحقيقي للقبة الحديدية بعد تطويرها، زاعمة أنها تمكنت من تحقيق نجاح في اعتراض الصواريخ وصل إلى 90% (8). لم تكن المقاومة بالسذاجة التي تجعلها تطلق صواريخها بطريقة تسهل عملية تصدي القبة الحديدية، بل اعتمدت في هجومها أثناء الحروب التي جمعتها بإسرائيل على “الزخم الصاروخي” الذي يهدف إلى إغراق الدفاع الجوي الإسرائيلي عبر إطلاق رشقات كبيرة في وقت زمني قصير، ما يشوش على عمل المنظومة الدفاعية ويسهل تجاوزها.

تَمكَّن هذا التكتيك بحسب خبراء غربيين من تحقيق أهدافه المرجوة، وهي إنهاك الدفاع الإسرائيلي وتشتيته، ومن ثمَّ وصول عدد من الصواريخ إلى الأهداف التي حددت لها سلفا. ووفقا لمعطيات جيش الاحتلال نفسه، أطلقت المقاومة 3000 صاروخ من قطاع غزة في معركة “سيف القدس”، ووصل 1500 منها إلى داخل الأراضي المحتلة، أي إن نسبة تعامل القبة الحديدية مع هذه الصواريخ لم يتجاوز 50% (9). ليس هذا فحسب، بل إن صواريخ المقاومة إحدى أكبر النقاط التي ترهق ميزانية الجيش الإسرائيلي بوضوح، إذ إن اعتراض الصاروخ الواحد يكلف تقريبا ما بين 50-70 ألف دولار أميركي، ولذا كلَّفت معركة سيف القدس وحدها ميزانية جيش الاحتلال من 150 إلى 210 مليون دولار أميركي لاعتراض الصواريخ فقط (10).

ولأن العامل النفسي لا يقل أهمية عن العامل العسكري، فإن الصواريخ التي انطلقت من قطاع غزة إلى الداخل الإسرائيلي تُسبِّب رعبا حقيقيا أيًّا كان مصيرها. وقد أظهرت دراسة لمجلة دراسات بيت المقدس بعنوان “الأداء العسكري للمقاومة الفلسطينية خلال معركة سيف القدس” مثالا واضحا حول الضرر النفسي الذي يسببه استهداف تل أبيب بالصواريخ. ففي اليوم الثاني للمعركة عام 2021، أطلقت المقاومة في غزة 130 صاروخا تجاه تل أبيب، ومقابل ذلك، أطلقت القبة الحديدة 260 صاروخا لاعتراضها، حتى أضاءت 390 انفجارا في سماء تل أبيب في غضون خمس دقائق فقط، منها ما ينفجر في السماء ومنها ما ينفجر بعد وصوله إلى الأرض.

ورغم تمكن القبة الحديدة من التصدي لعدد من الصواريخ، وبعيدا عن نسبة هذا التصدي، فإن صواريخ القسام وإن لم تنفجر على الأرض تكون قد حقَّقت هدفا إستراتيجيا بالغ الأهمية وهو هزيمة الهدف الحقيقي الذي أُنشئت من أجله القبة الحديدية وجميع أسلحة الردع الإسرائيلية: إشعار السكان بالحماية والأمن، حيث بات سكان الاحتلال يدركون أنهم في مرمى نيران المقاومة في كل وقت. ثم جاءت عملية طوفان الأقصى لتثبت أن المقاومين أنفسهم ليسوا بعيدين، وأن المستوطن المحتل يمكن أن يستيقظ في أي لحظة ليجد مقاوما في منزله وفوق رأسه، وهو ما يغير موازين الصراع نفسيا وإستراتيجيا، إلى الأبد.


المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.