قد لا يستوعب البعض مدى خطورة مفهوم الشراكة في إدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك، وقد يدعي آخرون أن عدم الدخول في “مشاكل” مع سلطات الاحتلال في المسجد الأقصى يعد الأولوية الأكثر أهمية في القدس في هذه المرحلة حتى لو استدعى الأمر التغاضي عن تدخلات الاحتلال في أمور قد تعتبر هامشية في المسجد. لكن الحقيقة أكثر قتامة من ذلك، فدخول الاحتلال شريكا في إدارة شؤون المسجد الأقصى يعني بالضرورة انتهاء فكرة الوضع القائم في المسجد، والانتقال للمرحلة التالية التي تقتضي إزاحة دائرة الأوقاف الإسلامية شيئا فشيئا حتى تختفي تماما من الصورة وينفرد الاحتلال بإدارة شؤون المسجد الأقصى كاملة.

هذه الفكرة الخطيرة هي التي تحاول إسرائيل الوصول إليها منذ سنوات، وللحق فقد حققت في هذا الطريق أكثر مما كانت تحلم به، فبات تدخلها السافر في كل صغيرة وكبيرة في المسجد أمرا واقعا.

عند احتلال شرقي القدس عام 1967 حاولت إسرائيل نقل إدارة المسجد الأقصى لوزارة الأديان الإسرائيلية، ولكن رفض علماء القدس واجتماعهم برئاسة الشيخ عبد الحميد السائح لتأسيس الهيئة الإسلامية العليا حال دون ذلك، حيث أعلن السائح بصحبة عدد من الشخصيات العلمية والاجتماعية المؤثرة كالشيخ سعد الدين العلمي مفتي القدس، والقاضي الشيخ سعيد صبري، والشيخ حلمي المحتسب عضو محكمة الاستئناف الشرعية، والأستاذ حسن طهبوب مدير أوقاف القدس، عن تأسيس الهيئة الإسلامية العليا على غرار المجلس الإسلامي الأعلى الذي تأسس بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين، وكان له أكبر الأثر في قيادة مقاومة الشعب الفلسطيني ضد بريطانيا، خاصة خلال الثورة الفلسطينية الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي.

وكان شبح تجربة المجلس الإسلامي الأعلى ماثلا أمام سلطات الاحتلال الإسرائيلي حينها لتقرر التراجع مباشرة خوفا من تكرار التجربة، ورأت أن الأفضل هو الحفاظ على الوضع القائم وإعادة تسليم شؤون المسجد الأقصى المبارك لإدارة الأوقاف الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية، التي كانت تدير شؤون المسجد الأقصى المبارك فيما بعد نكبة عام 1948 حتى احتلاله خلال نكسة 1967.

لم يكن الاحتلال يواجه في السنوات الماضية مقاومة جادة لعملية إبعاد وتهميش لجنة الإعمار، لينتهي الأمر فعليا في يوليو/تموز 2023 الماضي بإصدار سلطات الاحتلال قرارا بمنع موظفي لجنة الإعمار من إجراء أية عملية صيانة مهما كانت بسيطة داخل المسجد

تأتي أقطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف اليوم لتصف هذا التراجع بالخطأ التاريخي لإسرائيل، حيث يرى قادة هذا التيار أن هذه القضية خلقت مشكلة سيادة في المسجد الأقصى، فبينما تتفق جميع أطياف المجتمع الإسرائيلي على ضرورة فرض السيادة الإسرائيلية على القدس باعتبارها عاصمة للدولة -حسب الرؤية الإسرائيلية- تظهر مسألة السيادة الإسلامية على المسجد الأقصى لتشكل عائقا قانونيا وعمليا أمام رؤية الاحتلال في المدينة المقدسة.

ولهذا فإن اليمين الإسرائيلي، ولا سيما تيار الصهيونية الدينية، لم يكل يوما من المطالبة بفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على المسجد الأقصى فورا وطرد دائرة الأوقاف الإسلامية من المكان واعتبارها “كيانا إرهابيا”. واستمر هذا التيار بهذه المطالبات منذ أن كان أتباعه يعدون بالعشرات حتى اليوم وأتباعه يعدون بمئات الآلاف على الأقل.

لكن السيطرة الإسرائيلية الفعلية على الأقصى لا يمكن أن تتم عمليا بالطريقة التي يتمناها أقطاب اليمين، فهي مجرد رؤى حالمة لا تستطيع أن تفهم الواقع المعقد في القدس وفي المنطقة والإقليم، ولهذا فإن دعواتها لم تكن تؤخذ على محمل الجدية يوما. وحتى مع سيطرتها على مفاصل أساسية في حكومة نتنياهو الحالية فإن الواقع يفرض عليها أن تنتقل لأسلوب مختلف لتحقيق أهدافها بالسيطرة الكاملة على المسجد. وللحق، فإن الخطورة الحقيقية تكمن في التيار الذي يؤمن بالتدرج في العمل باتجاه فرض السيادة الإسرائيلية على الأقصى أكثر من ذلك التيار الأول.

إن عملية السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك حسب رؤية التيار المتدرج لا بد أن تمر عبر بوابة الشراكة في إدارة شؤون المسجد أولا، إذ لا يعقل أن تقرر إسرائيل بين ليلة وضحاها أن تلغي دائرة الأوقاف وتتسلم منها الأقصى ببساطة لتدير شؤونه، دون أن تحسب حساب الهزات العنيفة التي يمكن أن تنتج عن مثل هكذا قرار مفاجئ، وعلى رأسها إمكانية إقدام الأردن على إلغاء معاهدة وادي عربة. ذلك أن الأردن يرى أن مسألة السيادة على الأقصى والأماكن المقدسة في القدس تعتبر بالنسبة له مسألة تمس شرعية النظام نفسه.

وإقدام الأردن على خطوة حساسة بهذا الشكل يعني عودة التوتر لأطول حدود برية لإسرائيل على الإطلاق -أي حدودها مع الأردن- واستنزاف إسرائيل في هذا الوقت الحساس الذي يشهد تراجعا إستراتيجيا لها على جميع المحاور، وهذا أمر ليس في صالح إسرائيل بالطبع.

لذلك، فإن إقحام إسرائيل نفسها شريكا في إدارة شؤون المسجد الأقصى هو الحل الطبيعي الذي يمكن أن يضمن لها إضعاف دائرة الأوقاف الإسلامية شيئا فشيئا وتهميش دورها، حتى إلغائه تماما في نهاية المطاف.

ولأجل ذلك، نجد شرطة الاحتلال اليوم تقحم نفسها في عدة ملفات داخل المسجد الأقصى، وقد يبدو بعضها بسيطا أو هامشيا، لكنه بالنسبة لها أساسي لتأكيد سلطتها ووجودها في المسجد. فعلى سبيل المثال، يقتضي النظام المعمول به تحت إجراءات الاحتلال إغلاق بوابات المسجد الأقصى في صلوات العشاء والفجر باستثناء باب الأسباط وباب الناظر وباب السلسلة، وكان حراس دائرة الأوقاف الإسلامية يعملون على إغلاق البوابات وتنظيمها بهذا الشكل يوميا بعد صلاة المغرب، لكن أفراد شرطة الاحتلال الإسرائيلية بدؤوا مؤخرا يتجولون على البوابات و”يأمرون” حراس الأوقاف بإغلاق البوابات.

ورغم كون هذا التغيير يبدو هامشيا ولا يظهر فيه تغيير كبير في الإجراءات، فإن إصرار شرطة الاحتلال على أن تعطي هي أوامر الإغلاق يشي بكونها تريد تثبيت نفسها مرجعية وحيدة لفتح وإغلاق البوابات، سواء شكليا أم عمليا. الشيء نفسه يتم في مرحلة إغلاق المسجد الأقصى بعد صلاة العشاء وتسيير دوريات التفتيش داخله، التي تصر سلطات الاحتلال على تسييرها حاليا بشكل منفرد عن حراس المسجد الأقصى، وهذا يدل على أن الاحتلال يسعى بهذه العملية لإحكام السيطرة على إدارة المسجد سعيا للانتقال لمرحلة الانفراد به.

يزداد الأمر وضوحا عن دراسة السلوك الإسرائيلي في التعامل مع لجنة الإعمار التابعة للأردن، وهي اللجنة المنوط بها قانونيا العمل على كافة إجراءات الإعمار والترميم والصيانة في المسجد الأقصى. وكان الاحتلال يحاول في العقود الماضية الوصول إلى تفاهمات مع الأردن لتحديد عمل اللجنة والمشاركة في شؤون الترميم والصيانة في المسجد الأقصى لولا الرفض القاطع من السلطات الأردنية. وكان أحد الأمثلة الأبرز على ذلك عملية ترميم السور الجنوبي للمسجد الأقصى في حادثة انبعاجه خارجيا عامي 2001 و2002، وحينها حاولت سلطة الآثار الإسرائيلية التدخل في شؤون ترميم السور، فرفض الأردن ولجأ إلى اليونسكو والأمم المتحدة بدعم تركي وعربي، لينتهي الأمر بقيام لجنة الإعمار الأردنية بإنجاز الترميم منفردة.

لكن على مدار السنوات الـ15 الماضية، عمل الاحتلال على الانتقال بعملية الإعمار والترميم والصيانة من مرحلة المشاركة إلى الاستفراد الكامل، ليختلف الأمر تماما في حالة السور الجنوبي الغربي الذي منع الاحتلال الأردن من ترميمه عام 2019 وعمل فيه منفردا.

وللأسف، لم يكن الاحتلال يواجه في السنوات الماضية مقاومة جادة لعملية إبعاد وتهميش لجنة الإعمار، لينتهي الأمر فعليا في يوليو/تموز 2023 الماضي بإصدار سلطات الاحتلال قرارا بمنع موظفي لجنة الإعمار من إجراء أية عملية صيانة مهما كانت بسيطة داخل المسجد، ووضعِ شرط أساسي لاستئناف عملية الصيانة يقضي بإغلاق مصلى باب الرحمة الذي فتح خلال هبة باب الرحمة الشعبية عام 2019.

وتداوم سلطات الاحتلال يوميا منذ ذلك الوقت على منع موظفي الإعمار من الدخول والتحرك في المسجد حتى ما بعد الظهر، لتسمح لهم بعد ذلك بالدخول للمسجد دون إجراء عمليات الصيانة اللازمة، وبذلك فقد فرض الاحتلال نفسه وصيا وحيدا على عمليات الترميم والإعمار والصيانة في المسجد الأقصى، وهو يريد أن ينقل هذه التجربة لكافة الأعمال الأخرى التي تقوم بها دائرة الأوقاف الإسلامية.

لذلك، فإن الواجب أخذ أي تدخل إسرائيلي في شؤون إدارة المسجد الأقصى المبارك مهما بدا صغيرا أو هامشيا على محمل الجد والعمل على التصعيد ضده ووقفه فورا، وأما ترك الأمور تسير كما يريد الاحتلال باعتبار أن تحركاته هامشية ولا تؤثر بالمجمل على الإدارة الإسلامية للمسجد الأقصى، فإنه يعني ببساطة تكرار ما جرى مع لجنة إعمار الأقصى، واستفراد الاحتلال بالمسجد، وفي النهاية إلغاء دائرة الأوقاف الإسلامية تماما، وعندها لن يكون هناك وقت للندم.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.