ناقشت في مقالي الأسبوعين الماضيين مسألتين:

  1. التعليقات التي ينقد فيها بعض العلماء كتب غيرهم
  2. قول العلماء بعضهم في بعض.

والمسألتان لصيقتا الصلة بالنقد العلمي لجهتين:

  • التمييز بين الشخصي والعلمي وفق معايير قويمة.
  • التداخل الواجب بين العلم وأخلاقياته.

وهاتان الجهتان تساعداننا على فهم البعدين الفكري والشخصي في الخصومات، وتجنباننا الدخول فيها طرفا، تقليدا أو تحزبا، ويقودني هذا النقاش إلى مسألة ثالثة، وهي تقديم نموذج للنقد الذي جمع بين العلم وأخلاقياته، مما يوضح أن النقاش النقدي هو من صميم العلم وتقاليده، وأنه لما تراجع التحصيل العلمي ضاق بعض المنتسبين إلى العلم بالنقد أو خلطوا بين الشخصي والعلمي، لأنهم تمركزوا حول البعد الشخصي وانشغلوا بالمكانة الفردية، الأمر الذي أثر على “غائية” التحصيل العلمي وممارسته، ودفع إلى التمركز حول شخصنة أي نقد وإهمال المضمون، نظرا للخصومات الشخصية أو الصراع على المكانة أو السلطة، مادية كانت أم رمزية.

وقد رأيت أن كتاب “التنقيح في شرح الوسيط” الذي كتبه الإمام محيي الدين النووي (676 هـ) تعليقا على كتاب “الوسيط في المذهب” الشافعي للإمام أبي حامد الغزالي (505 هـ) يصلح نموذجا لهذا المعنى الذي نناقشه.

قدم النووي لكتاب “التنقيح” بمقدمة ثرية تستحق التوقف عندها تدبرا وتحليلا من جهة أنها نموذجية بالمعنيين العلمي المنهجي والخلقي، ومن جهة أنها تتمم نقاشنا في المقالين السابقين، كما تتصل بمقالات نقدية سابقة لي على صفحات الجزيرة نت، ومن جهة أنها ربما تساعد على إعادة الاعتبار للنقاش النقدي في حقل العلم ووفق تقاليده التي يتزاوج فيها العلمي بالخلقي، ويتم التمركز فيها حول الفكرة وطلب الحق أو الأرجح أو الأفضل بعيدا عن الشخصنة.

سأجعل هذا المقال على محورين:

  • في الأول منهما أحكي طرفا من سيرة كتاب “الوسيط” للغزالي، لأنه عمدة الكلام هنا وليكون القارئ على علم بخلفية النقاش وسياقه، لأن ذلك من شرط كمال فهم ما سيُبنى عليه من نقاش نقدي قدمه النووي.
  • أما المحور الثاني فسأحلل فيه مقدمة النووي لكتاب “التنقيح”، لإظهار الفكرة المركزية التي يدور حولها هذا المقال كما سبق بيانها.

أما كتاب “الوسيط” للغزالي فله أهمية كبيرة، وهذه الأهمية ترجع إلى عدة وجوه كالآتي:

  • الوجه الأول: شخصية الغزالي ومكانته العلمية وتميزه منذ بداياته حتى وصفه شيخه إمام الحرمين الجويني (478 هـ) بأنه “بحر مغدق”، ووصفته بعض كتب التراجم بأنه “من أذكياء العالم”، وكان الغزالي عالي الهمة لا يدرس علما إلا أتقنه كأهله، ولهذا قال النووي عنه -كما سيأتي- إنه “صاحب العلوم المتظاهرات”.
  • الوجه الثاني: تأثير الغزالي في الفقه عامة وفي المذهب الشافعي خاصة، فقد استطاع بموسوعيته أن يترك أثرا بالغا في ميدان الفقه عامة، وذلك من خلال كتبه الأربعة في مذهب الشافعي، وهي: البسيط والوسيط والوجيز والخلاصة، فالبسيط كأنه تلخيص لكتاب شيخه الجويني “نهاية المطلب”، والوسيط اختصار للبسيط، والوجيز اختصار للوسيط، وكان قد كتب “الوسيط” بعد كتاب “إحياء علوم الدين”، فهو يُحيل إليه في كتاب “الوسيط” في نحو 6 مواضع، وهذا له دلالة خاصة في بيان مفهوم “الإحياء” لديه وأنه ليس بديلا عن الفقه ولا حطا من قيمته كما توهم بعضهم.

    أوضح النووي أثر كتاب “الوسيط” في موضعين من كتبه على الأقل، فقال في التنقيح “وقد ألهم الله الكريم الحكيم متأخري أصحابنا من زمن الغزالي إلى يومنا الاشتغال بهذا الكتاب في جميع بلدانهم القريبات والبعيدات”

وقد جعلت هذه الكتب الأربعة الغزالي أحد أعمدة المذهب، وصاحب لبنة من لبنات تحريره إذا تأملنا تطورات المذهب الذي يبدأ بكتب الإمام محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ) وأصحابه كأبي إبراهيم المُزَنِيّ (264 هـ) وأبي يعقوب البُوَيْطي (231 هـ)، ثم كتب إمام الحرمين وأبي إسحاق الشيرازي (476 هـ) وكتب الغزالي الفقهية التي بنيت على “نهاية المطلب” للجويني.

وقد قال ابن خلكان عن “نهاية المطلب” “ما صُنف في الإسلام مثله”، وهو مطبوع ومتداول، وهو اختصار من كتب الشافعي وأصحابه، ثم تأتي مساهمة شيخي المذهب، وهما عبد الكريم الرافعي (623 هـ) والنووي، وكلاهما اشتغل بكتب الغزالي، فالرافعي شرح “الوجيز” للغزالي في كتاب سماه “فتح العزيز” وترك أثرا مهما في المذهب، أما النووي فقال ابن قاضي شهبة (851 هـ) له “نُكَت على الوسيط في مجلدين، وشرح على الوسيط سماه التنقيح”.

واختصر النووي أيضا كتاب “فتح العزيز” للرافعي في كتاب سماه “روضة الطالبين”، وهو عمدة في المذهب، قال فيه النووي نفسه “من حصّله أحاط بالمذهب وحصل له أكمل الوثوق به”.

وكان الرافعي قد اختصر “الوجيز” للغزالي في كتاب سماه “المحرر”، ثم جاء النووي فاختصره في كتاب سماه “المنهاج”، ثم كثر اعتماد فقهاء الشافعية على منهاج النووي، وكثر وشراحه ومُحَشّوه.

وقد أوضح النووي أثر كتاب “الوسيط” في موضعين من كتبه على الأقل، فقال في التنقيح “وقد ألهم الله الكريم الحكيم متأخري أصحابنا من زمن الغزالي إلى يومنا الاشتغال بهذا الكتاب في جميع بلدانهم القريبات والبعيدات، ففيه تدريس المدرسين، وحفظ الطلاب المعتنين، وبحث الفضلاء والمبرّزين، لما جمعه من المحاسن والنفائس”.

وقال أيضا في مقدمة كتاب “المجموع شرح المهذب” عن كتابي “المهذب” للشيرازي و”الوسيط” للغزالي “وفي هذين الكتابين دروس المدرسين وبحث المحصلين المحققين، وحفظ الطلاب المعتنين في ما مضى وفي هذه الأعصار في جميع النواحي والأمصار”.

بسبب الغزالي تميز الشافعية في تصنيف الفقه وتبويبه حتى أن الفقيه المالكي أبا محمد بن شاس وصف صنيع الغزالي في كتاب “الوجيز” الذي هو مختصر من “الوسيط” بأنه بلغ “غاية منتهى التحرير”

شرح عدد من العلماء “الوسيط” واختصره آخرون، وكتب عدد منهم تعليقات عليه كما فعل ابن أبي الدم (642 هـ) وأبو عمرو بن الصلاح (643 هـ)، والنووي (676 هـ) وغيرهم.

وقد تنبه الفقيه الحنفي ابن عابدين (1252 هـ) إلى هذا، فقال “ومذهب الشافعي -الآن- مداره على كتب الغزالي، فإنه نقّح المذهب ولخصه بالبسيط والوسيط والوجيز والخلاصة، وكتبُ الشيخين (يعني الرافعي والنووي) مأخوذة من كتبه”.

وقد قيل إن الإمام سيف الدين الآمدي (631 هـ) الذي هو معدود أيضا في “أذكياء العالم” قد حفظ “الوسيط”، ويحكي الإمام تاج الدين السبكي (771 هـ) عن أبيه الإمام تقي الدين السبكي (756 هـ) “وأما المهذب (للشيرازي) والوسيط (للغزالي) فكان (الشيخ تقي الدين) في الغالب ينقل عبارتهما بالفاء والواو كأنه درس عليهما!”.

ثالثها -وهو الأهم- أن عقلية الغزالي وبراعته في التصنيف والترتيب والتفريع والتعليل وربط الجزئي بالكلي برزت في كتبه الفقهية، كما برزت في كتبه الأصولية أيضا، فقد قسم الفقه إلى 4 أرباع هي: العبادات والمعاملات والمناكحات والجنايات (فقهاء الحنفية جعلوا المعاملات شاملة للمالية وغير المالية فدخل فيها النكاح وتوابعه)، وجرى الشافعية وغيرهم بعده على هذا المعنى، كما أن الغزالي جعل داخل كل قسم كتبا وأبوابا وفصولا أظهر فيها خصيصتين: الوحدة الموضوعية، والتماسك والضبط في التقسيم والتفريع، وقد كان بصيرا بفعله هذا، ولأجل ذلك قال في مقدمته “وتكلفتُ فيه مزيد تأنق في تحسين الترتيب، وزيادة تَحَذُّق في التنقيح والتهذيب”.

وبسبب الغزالي تميز الشافعية في تصنيف الفقه وتبويبه حتى أن الفقيه المالكي أبا محمد بن شاس (616 هـ) وصف صنيع الغزالي في كتاب “الوجيز” الذي هو مختصر من “الوسيط” بأنه بلغ “غاية منتهى التحرير”، ولذلك حذا ابن شاس حذوه في ترتيب فروع مذهب مالك في كتاب سماه “عِقْد الجواهر الثمينة”، ثم جاء أبو عمرو بن الحاجب (646 هـ) فتبع ابن شاس واختصر كتابه، وكتاب ابن شاس ظل مقررا تدريسيا في مصر والأندلس والمغرب لفترة طويلة من الزمن.

يشار هنا إلى أن ابن قاضي شهبة ذكر أن الغزالي زاد في “الوسيط” أمورا من كتاب “الإبانة” لأبي القاسم الفُوْراني (461 هـ) وأنه “منها أخذ هذا الترتيب الحسن الواقع في كتبه”، وتابعه على هذا ابن العماد (1089هـ).

وكان الفوراني مُقَدَّم الفقهاء الشافعية بمَرْو، وهو أصولي فروعي أخذ الفقه عن أبي بكر القفّال الشاشي (465 هـ)، وانتهت إليه رئاسة الشافعية “وله في المذهب الوجوه الجيدة”، ولكن لم أر من الفقهاء ما يشير إلى ذلك بل وأستبعده أيضا، لأن الفوراني -كما قال تاج الدين السبكي- كان إماما حافظا للمذهب نقَّالا، وكان الإمام الجويني شديد النقد له ولفهمه بعض المسائل على الرغم من نقد شيوخ المذهب لحدة الجويني في نقد الفوراني مع أنه كان لا يسميه.

وبسبب هذه الأهمية والمكانة لكتاب “الوسيط” استدعى النقاش النقدي الذي مثّل حلقة من حلقات تطور المذهب الشافعي وتحرير مسائله، أما النووي فقد قدم لنا في “التنقيح” نموذجا يجمع بين العلم وأخلاقياته، وقد اشتملت مقدمة النووي للتنقيح على 5 أمور -في رأيي- أوضحها في الآتي:

  • الأول: رؤية النووي وغايته التي تحكم اشتغاله بالكتابة والتأليف عموما، وهي التعبد والتقرب إلى الله تعالى وفعل الخير، فالنووي يعتقد أن “الاشتغال بالعلم أفضل القُرَب وأجلّ الطاعات، وأهم أنواع الخير، وآكد العبادات، وأَولى ما أُنفقت فيه نفائس الأوقات، وشمّر في إدراكه والتمكن فيه أصحاب الأنفس الزكيات”، فالنووي يحدد -بهذا الكلام- غائية اشتغاله بالعلم، ويصحح النية لله تعالى، ويجمع بين البعدين العلمي والخلقي، إذ التعلم يحمل على مزيد من التخلق، والتمكن في العلم تبلغه الأنفس الزكية التي حصّلت مقدمات ذلك، ورغم تمكن النووي في عدد من العلوم فإنه يعتبر أن “الفروع الفقهيات” أهم أنواع العلوم “لافتقار جميع الناس إليها في كل الحالات”، وهذا وجه آخر لبيان الأثر الدنيوي للتفقه، وهو باب من أبواب الخير ونفع الناس.
  • الثاني: بيان أسباب اختيار كتاب “الوسيط” دون غيره للتعليق عليه على الرغم من كثرة المصنفات في الفقه الشافعي التي لم ينتقص من قيمتها ليسوغ اختياره لهذا الكتاب، بل أوضح -إجمالا- أنها تنطوي على “الأحكام والقواعد والنفائس الجليلة”، ولكنه إنما اختار “الوسيط” لاعتبارات عدة تقوم على أنه “من أحسنها جمعا وترتيبا، وإيجازا وتلخيصا، وضبطا وتقعيدا، وتأصيلا وتمهيدا”، فضلا عن جلالة الغزالي نفسه الذي حاز “العلوم المتظاهرات” كما سبق، أضف إلى ذلك ما سبق بيانه -على لسان النووي في مقدمته للتنقيح- من حُسن تَلَقي فقهاء الشافعية كتاب “الوسيط” عبر العصور.
  • الثالث: مشروعية “التنقيح” لكتاب “الوسيط” الذي اتضحت في ما سبق قيمته من جهتين: مبناه وترتيبه، وحسن تلقي فقهاء المذهب له وتأثرهم به، فمشروعية “التنقيح” تتأسس على واجب العلم والنصح، والدقة في تحرير المذهب، الأمر الذي جعل النووي أحد شيوخ المذهب المتأخرين ممن يُعتد بقولهم وضبطهم وترجيحاتهم لما هو المذهب بأل التعريف، فقد رأى في “الوسيط” أنواعا لا بد من معرفتها لمن يريد الاعتماد على الكتاب وتحصيله، ومن ثم رأى أن من واجبه بيان ما يُنكَر على “الوسيط”، ليحصل الوثوق به والركون إليه (لا هدمه كما يفعل بعض المعاصرين بأعمال بعض!)، وليستبين من حصّل “الوسيط” وجه الفتوى منه “بما أقره أو أقدّره من الأحكام” بتعبير النووي.
  • الرابع: بيان منهجه في الكتاب، وقد عد النووي 12 نوعا من التعقبات على الغزالي في كتاب “الوسيط”، ويمكن أن نميز في هذه الأنواع بين مجموعتين يتداخل فيهما العلم وأخلاقياته:

أما المجموعة الأولى فتدور حول “تحرير” فروع المذهب الشافعي، والأقوال الراجحة والضعيفة فيه، وتندرج تحتها أنواع، منها: ما غَلِط فيه الغزالي من الأحكام (أي بالنظر إلى ما هو المذهب بأل التعريف)، ومنها جَزْمه باحتمال لشيخه الجويني وإهمالُه نص الشافعي، والأصحاب بخلافه، ومنها: ترجيحه خلاف الراجح عن الشافعي والأصحاب، إلى غير ذلك من الأنواع.

أما المجموعة الثانية فتدور حول إنصاف الغزالي وتأييده في وجه بعض ناقديه، وإبراز بعض نفائسه في هذا الكتاب، وتندرج تحتها أنواع، منها: ما غلّط الغزاليَّ فيه كثيرون، وليس هو غلطا، بل له وجه خفي على من غلَّطه، وهذا كثير في الأحكام الفقهية والمسائل اللغوية، ومنها: استنباط مسائل مهمة تستفاد من ضوابط الغزالي ولا تكاد توجد صريحة لغيره، قال النووي “وهي صحيحة نفيسة”، ومثالها: استفادة طهارة الدود المتولد من النجاسة، من كون الحيوان طاهرا إلا الكلب والخنزير وفروع أحدهما وأشباه ذلك.

وقد ضم النووي إلى هذه الأنواع مقصودا مهما، وهو أن ما ذكره الغزالي وكان عليه فيه إنكار من وجه من الوجوه ولا يدخل في الأنواع الـ12 السابقة نبه النووي إلى أنه صحيح، تأييدا للغزالي في ما ذهب إليه، ولقصد تحصيل مطالع هذا الكتاب الثقة “بصحة كل ما في الوسيط مما لم أذكر فيه شيئا”.

وقد ألزم النووي نفسه بأمرين منهجيين حري بالباحثين المعاصرين التأسي بهما:

التحري والتأني والدقة، وهي ألا يقول شيئا من هذه الأنواع الـ12 إلا بعد “التفتيش التام والإتقان الذي يمكنني ولا أدخر جهدا”، الاتساق، وهو أن النووي التزم بألا يُخلّ بشيء مما ذكره من الأنواع الـ12 “إلا ما الإنسان مُعرّض له من الذهول والنسيان وغير ذلك من النقائص”، أي أنه أبقى على هامش الخطأ البشري الذي لا يَعرى عنه أحد.

  • الخامس: أن النووي عاد في خاتمة مقدمته إلى ما بدأ به، وهو التركيز على البعد الغائيّ الذي يؤطر عمله كله في هذا الكتاب وفي غيره، ففي مطلع المقدمة أفصح عن اعتقاده ونيته وغايته، وفي خاتمتها سأل الله تعالى التوفيق لـ”حسن النيات” ما دام هذا العمل داخلا في القربات والطاعات وفعل الخيرات، وسأله -سبحانه- أيضا الإعانة على جميع أنواع الطاعات له ولمحبيه ومشايخه “وأن يطهر قلوبنا وجوارحنا من جميع المخالفات”.

هكذا قدم لنا النووي إسهاما نقديا منهجيا من جهة، وخُلقيا من جهة أخرى، فلطالما اتسمت أعماله -رضي الله تعالى عنه- بهذه النبرة الهادئة والمدققة والنقدية، وكانت مدفوعة بواجب العلم وأخلاقه معا، وحُقّ للإمام الإسنوي أن يقول عن “التنقيح” إنه “كتاب جليل من أواخر ما صنف”، وهذا يفسر لماذا لم يتمكن من إتمامه، إذ وصل فيه إلى مبحث “شروط الصلاة” كما قال ابن قاضي شهبة.

فالنقاش يتمحور هنا حول “تحرير” فروع المذهب الشافعي نقلا وقوة وضبطا، أي أن المذهب هنا هو بطل القصة وليس كتاب “الوسيط” ولا شخص الغزالي، وحتى التخطئة والتصويب هنا محورهما تحديد ما هو “المذهب” أو مُعتَمده، مما يعني أن سلطة المذهب أقوى من سلطة الشخص وساهمت في تكوين ما يشبه “النص المفتوح” الذي يسهم الفقهاء الكبار في تحريره وتهذيبه واختصاره وشرحه والتحشية عليه، وبناء على هذا الملحظ يمكن التأكيد على أمور تفيد، سواء في الممارسة النقدية أم في تلقي النقد:

  • الأول: أن مكانة الشخص -وإن علت- لا تمنع من المراجعة النقدية، كما أن المراجعة النقدية لا تحط من قيمة الشخص، إذ يبقى النقاش يتمحور حول الأفكار والمناهج ومقاصد المؤلفين، وهنا يمكن القول إنه إذا كان النووي أحد شيوخ الترجيح في المذهب الشافعي معنيا بشكل رئيس بتحرير ما هو المذهب فإن عمل الغزالي يمكن أن يُقرأ من منظور آخر وهو اختيارات الغزالي نفسه في الفقه التي خالف فيها المذهب على الرغم من أنه سمى كتابه “الوسيط في المذهب”، ولا سيما أننا نعرف عقلية الغزالي النقدية والحرة تبعا لشيخه الجويني كذلك، أي ما عُدّ غلطا هو غلط بالنسبة لتحديد ما هو المذهب لا بالنسبة لمنظور اختيار الغزالي نفسه، ولا سيما أن طريقة عمل الجويني ثم الغزالي مغايرة لطريقة اشتغال الرافعي والنووي ومن بعدهما ممن كانوا معنيين بسلطة التقليد داخل المذهب.
  • الثاني: النقد دليل أهمية وتأثير، وليس العكس كما هو شائع لدى من يضيقون ذرعا بالنقاش النقدي لأعمالهم، أو من يستروحون إلى التصدي لكل ما يقال من دون وجود دواعٍ علمية، لتوهمهم أن النقد يعني الهدم ودفع الشبهات دوما.
  • الثالث: أن النقاش النقدي لم يحجب أهمية كتاب “الوسيط” ولم يكن هدما له بل تقوية له وتدعيما لسلطته، فالنص الفقهي المذهبي بات نصا مفتوحا كما سبق.
  • الرابع: أن وجود الخطأ الذي لا يعرو عنه بشر لا يمنع من الانتفاع بالعمل المنقود، ولا يَحول دون تأثيره طالما ثمة عقلية نقدية منفتحة وطالما تمحور النقاش حول الأفكار وبعيدا عن الأشخاص، لأنه إن تمحور حول الأشخاص سد باب التناصح وأبطل قيمة النقد وانتقل به من ميدان العلم وأخلاقياته إلى ميدان الخصومات والتحزبات، ولهذا كان النووي حريصا على التأكيد على وجود هامش الذهول والخطأ البشري جنبا إلى جنب مع التأكيد على طلب الثقة بضبطه وتوثقه، رضي الله عن الإمامين الغزالي والنووي ونفعنا بعلومهما.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.