ارتبطت كرة القدم منذ نشأتها بالسياسة، وكانت منذ البداية تمثل شكلا من أشكال النماذج الثقافية التي سعى الاستعمار البريطاني بشكل مقصود وغير مقصود إلى نشرها في جميع مستعمراته.

وفي سياق هذه العلاقة بين الاستعمار والرياضة تبدو أهمية كتاب “الإمبريالية والهوية الثقافية وكرة القدم.. كيف أنشأت الإمبراطورية البريطانية الرياضة الوطنية المصرية؟” لاستكشاف التاريخ الاجتماعي للعبة العالمية، من خلال مذكرات المسؤولين الذين خدموا في المستعمرات البريطانية، وسجلات الجيش البريطاني، وأرشيف الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية، والمهندسين الملكيين والصحف البريطانية.

ويركز كتاب المؤلف كريستوفر فيرارو على العلاقة بين الإمبريالية البريطانية وكرة القدم في قارتي أفريقيا وآسيا، في حين تناولت الكثير من الكتب هذه العلاقة الشائكة بين الاستعمار والشعوب وكرة القدم في أميركا اللاتينية بشكل خاص.

ويظهر عنوان الكتاب الذي ترجمه وليد رشاد، وصدر عن المركز القومي للترجمة، عدة مفاهيم، أهمها الإمبريالية، وثانيها الهوية الثقافية، وثالثها كرة القدم، ويؤرخ الكتاب للإمبريالية في مرحلة العصر الفيكتوري (1837-1901) الذي سيطرت فيه إنجلترا على كثير من الأرض والبشر في مختلف أنحاء المعمورة، وكانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، أحد إفرازات الثورة الصناعية في أوروبا.

فرض نموذج ثقافي

وكان لا بد من تشغيل المصانع وجلب المواد الخام وتسويق المنتجات، ما دفع بريطانيا لغزو البلاد الفقيرة وتحويلها لمستعمرات لخدمة اقتصادها، من هونغ كونغ إلى الهند، ومن سنغافورة إلى نيوزيلندا، ومن أسكتلندا ومصر إلى زنجبار، ونزع الاستعمار لفرض هويته الثقافية على المستعمرات للتأثير على السكان المحليين، بالشكل الذي يمكن معه القول إن إنجلترا لم تكن تسعى إلى الاستعمار العسكري فحسب، ولكنها كانت تسعى إلى فرض نموذج ثقافي واحد بين جميع المستعمرات.

وكانت كرة القدم أحد أشكال النماذج الثقافية التي سعى البريطانيون إلى نشرها في جميع المستعمرات، فقد حاول الإنجليز في البداية أن يقصروا لعبة كرة القدم عليهم وحدهم، لكن سرعان ما تعلمها السكان المحليون، وتحولت من مجرد لعبة إلى أداة من أدوات التغيير السياسي، كما لعبت كرة القدم دورها في نمو الحركات القومية المتصاعدة عبر معظم دول الإمبراطورية، بالشكل الذي تحول فيه الصراع العسكري إلى صراع رياضي.

وفي الوقت الذي عجزت فيه المستعمرات على مواجهة بريطانيا بالسلاح، سعت إلى مواجهة الإنجليز عبر المستطيل الأخضر، والتغلب على المستعمر في لعبته، حتى بات الانتصار على الإنجليز في كرة القدم هدفًا من ضمن الأهداف القومية التي سعت إليها العديد من الحركات التحررية عبر مختلف المستعمرات.

كرة القدم والهوية

وجمع الكتاب 6 نماذج من المستعمرات التي حاول الإنجليز فرض ثقافتهم الاستعمارية عليها بقوة، بقصد وبغير قصد، وهي: هونغ كونغ، والهند، وزنجبار، ونيوزيلندا، وسنغافورة، ومصر، وأعطى المؤلف لمصر مكانة خاصة خلال دراسته، وحاول الاقتراب من العلاقة بين الهوية الثقافية وكرة القدم التي تعلمها المصريون بسرعة، ولاحظ أنها لعبت دورا مهما في عملية التحول السياسي في مصر، منذ عام 1882 وحتى عام 1956.

كان هَم الإنجليز هو العمل على تحديث مصر بالحفاظ على قناة السويس، وتحويل بلاد النيل إلى مستعمرة مثمرة، وتطلب ذلك استجلاب عدد كبير من العمال من إنجلترا، وجلب هؤلاء العمال معهم لعبة كرة القدم، ولعبت هذه العمالة دورا كبيرا في تنامي شعبية اللعبة، من خلال الأندية الاجتماعية والفرق التي أقاموها مثل فريقي السكة الحديد، والترسانة، اللذين أسسهما العمال البريطانيون، وما زالا يلعبان حتى الآن بالقسم الثاني من الدوري المصري.

وارتبطت ثلاثية “الاستعمار والهوية الثقافية وكرة القدم” بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها بريطانيا عبر 4 مؤسسات: المدارس والجامعات، والجيش، والمصانع، والمؤسسات الدينية. أما المدارس والجامعات، فتعد خير شاهد على التحول الثقافي والسياسي الذي لحق باللعبة.

كان الاستعمار مهتما بتعليم فئة من أبناء المستعمرات بغرض أساسي وهو تشكيل طبقة من الإداريين الذين يساعدونهم في بعض الوظائف، ففي الهند ومصر أوفدت الإدارة الاستعمارية العديد من المصريين والهنود لدراسة علوم الهندسة والقانون، وغيرهما.

ولعب المتعلمون كرة القدم في ذلك الوقت، نذكر منهم الطالب المصري حسين حجازي الذي درس الهندسة، ولعب لعدة أندية في إنجلترا الفيكتورية بشكل احترافي، ومختار التتش، وغيرهما من المصريين الذين لعبوا كرة القدم في إنجلترا، وخرجوا من أسوار الجامعة إلى المستطيل الأخضر ليثبتوا جدارتهم في اللعبة.

تصدير الأفكار

ويشير الكتاب إلى أن المؤسسات الإمبراطورية لعبت دورا كبيرا في تصدير الأفكار الثقافية البريطانية في الهند، وكان أول فريقين فازا بالبطولة من أندية الجيش البريطاني، ثم انتقلت اللعبة لأقدام الهنود، ويعد فريق “موهين باجان” أول فريق من المواطنين الهنود يفوز بدوري اتحاد الهند لكرة القدم الذي أسسه الإنجليز، وأبرز الرابحين الآخرين، كان نادي “محمدان” الرياضي عام 1936، وشرق البنغال للسكة الحديد عام 1944.

نادي محمدان الهندي تأسس عام 1891 في كلكتا ويعد أحد أقدم أندية كرة القدم في قارة آسيا (الجزيرة)

وتعد تجارب هونغ كونغ، وماليزيا، وسنغافورة، وزنجبار، حالات مختلفة قليلا إذا ما قورنت بالهند، حيث ارتبط انتشار كرة القدم في هذه المناطق بانتشار العلمانية البريطانية وانتشار المبشرين، والمدارس التي طورت الأفكار الغربية، كما لعبت أيضا النوادي الاجتماعية دورا في نمو رغبة السكان المحليين في تقليد ومحاكاة المستعمرين البريطانيين.

من ناحية أخرى، كبر خريجو المدارس والجامعات بالدول التي تم استعمارها والتحقوا بالجيش الإنجليزي، وتولوا العديد من المناصب عبر أرجاء المستعمرة إلا أنهم لم يتركوا كرة القدم، فحملوها معهم إلى ثكناتهم ومعسكراتهم.

ومع أن الإنجليز لم يتبنوا فكرة التجنيد الإجباري، فإنهم قدموا بديلا لدفع الإنجليز للالتحاق بالجيش، ولم يكن هناك أفضل من كرة القدم، ويمثل ذلك أيضا مظهرا من مظاهر العلاقة بين كرة القدم والسياسة، ما أدى إلى تأسيس اتحاد كرة القدم العسكري، وتأسس اتحاد خاص بالقوات البحرية لممارسة اللعبة بشكل رسمي بين سفن الأسطول الإنجليزي ذائع الصيت في جميع الموانئ في جميع أنحاء المستعمرات.

ترويض الجسد

ويبدو الدور السياسي الذي لعبته كرة القدم واضحا داخل المصانع والتجمعات العمالية، عندما بدأت الاحتجاجات العمالية جراء زيادة ساعات العمل، دفع ذلك الرأسمالية الوليدة إلى محاولة إخضاع الطبقة العاملة، والاستجابة لمطالبهم دون أن يبرحوا المصنع، فاتخذوا من يوم السبت نصف يوم للعب كرة القدم، كوسيلة لإخضاع الجسد المنفلت، إلى جسد منضبط.

وتم تشكيل فريق كرة القدم داخل المصانع، وتأسس دوري المصانع الذي فاز به فريق مصنع ووتش أرسنال للأسلحة، وهو أقدم الأندية المهنية في العالم، ولا يزال يلعب حتى اليوم تحت مسمى (نادي الأرسنال)، كما برز أيضا نادي السكة الحديد، والذي يعرف الآن باسم نادي (مانشستر يونايتد).

واستمدت كرة القدم أيضا قوتها من القيم الدينية السائدة في العصر الفيكتوري، ويشهد على ذلك تشكل الحركات الدينية، وأبرزها حركة المسيحية القوية التي أكدت على قيمة العمل الجاد واللعب النظيف، وشكلت جمعية الشبان المسيحية فرقا لكرة القدم، كما لعب فريق كنيسة الأحد كرة القدم بشكل رسمي في الدوري الإنجليزي، ما يؤكد أن المؤسسات الدينية حضرت بشكل أساسي في اللعبة، وتحركت على مرجعية دينية، وهذا ما تكرر في المستعمرات المختلفة من الهند إلى مصر، حيث اتجهت جماعة الإخوان المسلمين لجمع طلاب المدارس وتنظيم مباريات كرة القدم بين الصبية.

وتحركت لعبة كرة القدم على عدة مرجعيات، وظهرت الفرق الاحترافية التي تتقاضى أجورا مقابل اللعب، وارتبط ذلك بتشكيل الملاعب ذات الباب الدوار، التي قادت الجمهور إلى دفع رسوم مقابل الدخول لمشاهدة المباريات، وقاد ذلك إلى نمو أرباح الأندية.

ولعبت عولمة وسائل التواصل دورها البارز في نشر كرة القدم، ما أدى بالتالي إلى تشفير القنوات الخاصة بنقل المباريات في الدوريات الرياضية المختلفة، وأدت إلى تحول ثقافي جديد مرتبط بظهور المقاهي الجديدة التي مثلت تحولا جديدا يستحق الدراسة والتحليل في مختلف المجتمعات.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.