مقدمة الترجمة

ضربت الصين مثالا صلبا في مكافحة الجائحة حين اندلعت في عُقر دارها قبل غيرها من البلدان. وفي حين اعتاد العالم الآن وجود الفيروس وتسلَّح في وجهه باللقاحات طيلة أكثر من عام، مما دفع معظم البلدان إلى إلغاء السياسات الاحترازية المُشدَّدة والعودة إلى الحياة الطبيعة، لا تزال بكين تواصل سياساتها العنيدة في إغلاق مناطق ومدن كاملة بحُجة مواجهة الفيروس. فما الأسباب وراء تلك السياسة المتشدِّدة تجاه الفيروس؟ وهل يقتصر الأمر فحسب على التأكُّد من خلو البلاد من المرض المُستجَد؟ أم أن ثمَّة دوافع سياسية واقتصادية لتلك الإجراءات؟

نص الترجمة

انصرف العالم بأكمله عن جائحة فيروس كورونا المستجد، إلا الصين. فلا يزال القادة الصينيون يواصلون سياستهم في إغلاق بعض أكبر المدن في البلاد، وينفقون ملايين الدولارات على فحوصات كورونا، ويلاحقون المصابين حالة إثر حالة. وما من شيء أقنع القيادة الصينية بتغيير هذا النهج، فقد أفضت موجة الإغلاق الأخيرة إلى حبس ملايين الصينيين في بيوتهم، فإغلاقان فحسب من هذه الإغلاقات شملا المدينة الكُبرى “تشِنغدو” في الجنوب الغربي ومدينة “شِنزِن” معقل الصناعات التكنولوجية قد أثَّرا على عدد من البشر يكافئ تقريبا تعداد السكان في كندا. ولم تتزحزح الصين عن إحكام السيطرة على “كوفيد-19” لأسباب عديدة تضرب بجذورها العميقة في آليات عمل الحزب الشيوعي، لا سيما تحت حكم رئيسه الحالي “شي جين بينغ”.

إن سياسة “صفر-كوفيد” التي تنتهجها الصين، وتقضي بضرورة إبقاء الحالات عند مستوى صِفري أو بالقرب منه، لم تعُد تتعلَّق بالصحة العامة منذ فترة لا بأس بها. فالأمر منصب كله على السياسة الآن، وهذا هو سبب صعوبة تبيُّن متى أو حتى ما إذا كانت الصين ستطوي صفحة هذه السياسة. إن نهج بكين الصارم لإدارة ملف كورونا ينبع من بنية الحكم السلطوي في البلاد. وقد كان لهذا النظام بعض المزايا بالفعل في بدايات مراحل الوباء، أي منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، حينما أكسبت الأجهزة القمعية للدولة الصينية هذه السياسة وسائل أكبر بكثير لتقييد الحضور في المجال العام والسيطرة عليه بالمقارنة مع الدول الديمقراطية. ولكن مع الوقت، كشفت الجائحة اللثام عن الكيفية التي يصبح بها الاستبداد غير المرن (الذي تنقصه شرعية صناديق الاقتراع) جامدا ومنحصرا في أنماط من السياسات والسلوكيات الخطيرة والضارة.

كوفيد.. عدو الصحة وعدو النظام أيضا

انتصار سياسة “صفر-كوفيد” لم يُصوَّر على أنه انتصار للحزب فحسب، بل لـ”شي جين بينغ” بالأخص. (رويترز)

حين تفشى الوباء في مدينة “وُوهان” في بواكير العام 2020، كان الفيروس مجهولا، ولم تكن اللقاحات موجودة بَعد، وكان من الممكن جدا أن يغزو هذا الوباء الكاسح النظام الصحي الصيني غير المُجهَّز على أعلى مستوى. بيد أن صنع السياسات انطوى منذ البداية على عنصر سياسي. إن الحزب الشيوعي بارع في التقاط التهديدات التي تواجه حكمه، وسرعان ما تعرَّف على فيروس كورونا باعتباره واحدا من هذه التهديدات. فقد كان لأزمة على مستوى الصحة العامة، مع موت الملايين، أن تُعزِّز من الشكوك الجدية حيال كفاءة النظام، التي تُمثِّل العمود الأوحد لشرعيته.

الأسوأ من ذلك هو أن الحزب كان ليواجه جماهير توجِّه أصابع اللوم إليه مباشرة بسبب تفشي الوباء. فعلى المستويين القومي والمحلي، ارتجلت السلطات الصينية في تعاملها الأوليّ مع كورونا المستجد، وحجبت المعلومات حول اكتشاف أحد الأطباء للفيروس بمدينة “وُوهان”، وتصرَّفت على نحو بطيء لاحتواء الانتشار الأوليّ للفيروس. وحين استشعر الحزب احتمالية تعرُّضه للخطر، انتهج سياسات مُفرِطة مضادة للوباء، فأغلق مساحات شاسعة من البلاد، وعلى إثر ذلك تمكَّن من إحكام القبضة عليه في أسابيع، في وقت كان الفيروس فيه ينتشر في بقية العالم.

سمح نجاح الحزب الشيوعي هذا في تحويل تراجيديا محتملة إلى انتصار ذي بُعد دعائي. ففي غضون أسابيع من انتشار الوباء بمدينة “وُوهان”، كانت آلة الدعاية الصينية تُروِّج لأعاجيب طرائقها وأساليبها في القضاء على كورونا. وفي حين صارعت الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى لاحتواء الوباء، أضحى الانتصار الكبير لبكين قيِّما بصورة أكبر بوصفه أمارة ودليلا على أن نظامها السلطوي أقدر وأنجع من أي نظام ديمقراطي. وأشارت بكين ومناصروها إلى ارتفاع عدد حالات الإصابة والوفيات في الولايات المتحدة بوصفه بُرهانا على التفوق الصيني والانحدار الأميركي. أضف إلى ذلك أن انتصار سياسة “صفر-كوفيد” لم يُصوَّر على أنه انتصار للحزب فحسب، بل لـ”شي جين بينغ” بالأخص. فقد أعلن مجلس الدولة، وهو الهيئة الحاكمة الأعلى في الصين، في مرسوم أبيض صدر عام 2020 أن “شي تولَّى زمام القيادة بشخصه، وخطَّط للرد والاستجابة (على الوباء)، وأشرف على الحالة العامة وتصرَّف على نحو حاسم، ورسم طريق المُضي قُدُما في الحرب على الوباء”.

(رويترز)

سرعان ما ترسَّخت وتعزَّزت هذه السردية. فإن خفَّفت بكين من إجراءاتها تلك، وسمحت بتفشي فيروس كورونا؛ فلن يبدو النظام الصيني إذن أفضل من الديمقراطيات العاجزة، وسيكون الرئيس “شي” كأي سياسي فاشل آخر، لا البطل الخارق الذي حارب كورونا كما رُسِمت صورته. إن أي احتمال لفشل سياسة “صفر-كوفيد” هو بمنزلة كارثة على قشرة المعصومية التي تُغلِّف الحزب الشيوعي. ولذا، تُصِرُّ القيادة على تلك السياسة، أيًّا كانت عواقبها. أما الاقتصاد الذي يختنق بفعل الإغلاقات وغيرها من الضوابط، فلم يَنمُ إلا بنسبة 0.4% خلال الربع الثاني من هذا العام، وهي نسبة ضئيلة للغاية بالمعايير التاريخية للصين نفسها. لقد أُثقِل كاهل الحكومات المحلية بتكاليف الوقاية من الوباء، مما أدى إلى نفاد أموالها. (وبحسب أحد التقديرات، بلغت فاتورة جولة واحدة من فحوصات كورونا على مستوى مدينة مثل “شنغهاي” نحو 30 مليون دولار). علاوة على ذلك، تراجعت شهية الشركات العالمية حيال الاستثمار في البلاد في ظل هذه الأجواء.

الإغلاق العنيد

والحال أن أمارات السخط آخذة في التزايد في صفوف المواطنين الصينيين. فأثناء إغلاق مدينة “شنغهاي” طيلة شهرين في وقت سابق من هذا العام، وبينما جلس المواطنون حبيسي منازلهم دون طعام كافٍ، فإنهم بدأوا في الاحتجاج بالدقِّ على الأواني والصراخ من نوافذهم. وسرعان ما أثارت مظاهر الغضب العامة الحادة وغير المُعتادة حيال الحكومة وسياساتها ردة فعل قمعية متوقعة من قِبَل نظام استبدادي، إذ حوصرت المباني بأسوار عالية كما لو أن سكان هذه المناطق متمرِّدون على السياسات.

أفصح الرئيس “شي” على مدار عقد من حكمه للبلاد عن تفضيل واضح لتوسيع سيطرة الدولة على المجتمع وترسيخ قبضته الشخصية على الحكومة، ووفَّرت سياسة “صفر-كوفيد” طريقة ناجعة لإنجاز هذين الهدفين. (الأوروبية)

ومع التزام الحزب بسياسته، بدأت سياسة “صفر-كوفيد” تشبه سياسة الصين السابقة بإنجاب طفل واحد. فقد أبقى الحزب الشيوعي لعقود من الزمان على هذه السياسة، وأجبر معظم الأُسَر القاطنة بالمُدن على ألا تنجب سوى طفل واحد، حتى حينما ظهرت بجلاء ملامح الكارثة الديموغرافية في البلاد. وقد ارتبطت السياسة التي فُرضت بلا هوادة ارتباطا وثيقا بأجندة الحزب، حتى بات العدول عنها أمرا مستحيلا في نظره آنذاك. ورغم أن الحكومة ألغت هذه السياسة في نهاية المطاف، فإنها فعلت ذلك تدريجيا حتى لا يتسرَّب أيُّ اعتقاد بأنها اعترفت بخطئها. ويبدو أن سياسة “صفر-كوفيد” تسير اليوم على المنوال نفسه. إن الآمال متزايدة في أن يتراجع الرئيس الصيني عن هذه السياسة بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الشهر القادم، وهو المؤتمر الذي يُتوقَّع فيه حدوث قطيعة مع السوابق الحديثة في قيادة الصين بعد رحيل “ماو زيدونغ”، بحيث يحظى “شي” بفترة رئاسية ثالثة. ويغلب الظن عند البعض بأن “شي” حالما يؤمِّن موقعه السياسي، فستكون لديه مرونة أكبر لتغيير المسار.

من المحتمل أن يحصل هذا. ولكن من المحتمل، وبنسبة الاحتمال الأول نفسها، أن يُبقي “شي” على سياسة “صفر-كوفيد” بشكل أو بآخر. بالنظر إلى توطُّد صلته بتلك السياسة، لربما يُصِر “شي” على التمسُّك بها باعتبارها أمرا مركزيا لسلطته السياسية. لقد أفصح الرئيس “شي” على مدار عقد من حكمه للبلاد عن تفضيل واضح لتوسيع سيطرة الدولة على المجتمع وترسيخ قبضته الشخصية على الحكومة، ووفَّرت سياسة “صفر-كوفيد” طريقة ناجعة لإنجاز هذين الهدفين. ويمكن مثلا استخدام الطبقات المتراكمة من المراقبة عالية التقنية التي تبنَّتها الصين باسم الوقاية من الجائحة لترسيخ ممارسات تتبُّع السكان ومراقبتهم. وقد منحت هذه السياسة القوة أيضا للحراس المحليين في لجان الأحياء -التي كُلِّفت بتطبيق سياسة “صفر-كوفيد” على مستوى الوحدات السكنية-، إذ يستطيع هذا الجيش المدني الصغير أن يصير أداة لفرض مراقبة دولتية كبيرة على مدن الصين الشاسعة.

السيطرة قبل التنمية

رغم أن الحكومة الصينية روَّجت للقاحات، وفاخرت بأن لديها عددا كبيرا من المُطعَّمين في البلاد، فإنها لم تُعدِّل من أساليب مكافحة الفيروس كي تجني فوائدها المُحتملة. (رويترز)

أيًّا كان المسار الذي سينتهجه الرئيس “شي”، ثمَّة خُلاصتان يمكن الخروج بهما من سياسة الصين تجاه فيروس كورونا. الخلاصة الأولى هي أن التنمية الاقتصادية لم تعد على رأس أولويات الحزب الشيوعي. فعلى مدار الثلاثين عاما السالفة، حرص المسؤولون الصينيون على وضع معدلات النمو المرتفعة أولا قبل أي أهداف أخرى. وإصرار الرئيس “شي” على سياسة “صفر-كوفيد”، رغم تكلفتها، يُنبئنا بأن الحزب الشيوعي الآن يُفضِّل الهيمنة السياسية والاجتماعية على التقدم الاقتصادي. أما الخلاصة الثانية فهي أن بكين تُولي السياسةَ مكانة فوق العلم، إذ تنطوي السياسة تحت حكم “شي” على نزعة قومية. فقد اعتمدت السلطات الصينية على اللقاحات المُصنعة محليا، ورفضت أن تستعمل بدائل من اللقاحات أكثر فعالية ونجاعة طوَّرتها الشركات في الغرب. ويُمكِن أن تقدم هذه اللقاحات الغربية لقادة الصين خيارات أكثر لإدارة ملف فيروس كورونا، بيد أنهم لا يرغبون في الظهور بمظهر يوحي بالاتكال والاعتماد على الغرب للحصول على مساعدات في هذا الصدد.

لم تظهر اللقاحات إلا نادرا في إستراتيجة الصين ضد فيروس كورونا. ورغم أن الحكومة روَّجت للقاحات، وفاخرت بأن لديها عددا كبيرا من المُطعَّمين في البلاد، فإنها لم تُعدِّل من أساليب مكافحة الفيروس كي تجني فوائدها المُحتملة. ففي بكين مثلا، يُطلَب من المقيمين أن تكون بحوزتهم نتيجة اختبار سلبية حديثة كي يتناولوا العشاء في مطعم أو يركبوا المترو، في حين لا تُطلب منهم شهادات التطعيم. وبطبيعة الحال، لا تمنع اللقاحات كُل أشكال العدوى، لكنها تقدم حماية جيدة ضد الأعراض الشديدة أو احتمالية الوفاة جراء الفيروس. وإذا كان المقياس الذي تُقاس به الأمور هو تصفير حالات الإصابة، لا يصبح التطعيم ذا أولوية. بيد أن هذا يشي لنا مرة ثانية بأن إدارة صورة الحزب -لا الصحة العامة- باتت الهدف من سياسة “صفر-كوفيد”.

لقد أماطت جائحة كورونا اللثام عن مكامن الضعف السياسية في المجتمعات الحديثة كافة، الديمقراطية منها والاستبدادية. فقد كشف فشل واشنطن في السيطرة على الجائحة عن المشكلات المتجذرة في قلب السياسات الحزبية الاستقطابية في البلاد، أما في الصين، فقد أوضحت لنا الجائحة مخاطر الحكومة السلطوية التي لا يُسائلها الشعب، حيث تفعل الدولة ما تريد في ظل غياب المُساءلة. وفي نظر الرئيس “شي”، فإن هذا النهج هو تماما عين المطلوب.

________________________________

ترجمة: كريم محمد

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.