طرابلس (شمال لبنان)- يقف السوري أحمد السبسبي عند بوابة مرفأ طرابلس شمالي لبنان، منتظرا بحرقة عمليات الإجلاء لمفقودين في البحر، وبينهم زوجته وأطفاله الثلاثة الذين يبلغ أكبرهم عمرا 8 أعوام.

على بعد مسافة منه، يفترش الأرض اللبناني عدنان الجمل، ويناجي من حوله للإسراع بعمليات البحث، بعد أن غرق نحو 6 من أقاربه، ولم ينجُ سوى هو مع اثنين آخرين ليل أمس السبت.

وحولهما عشرات اللبنانيين الذين تهافتوا نحو المرفأ، سواء للاطمئنان على مصير أصدقاء وأقارب مفقودين، أو للتعبير عن غضبهم وسخطهم من عودة نشاط الهجرة غير النظامية عبر البحر؛ نتيجة للأزمات المعيشية التي تعصف بلبنان، وتدفع شريحة واسعة لخوض رحلة محفوفة بالمخاطر، لكسب صفة “لاجئين” في أوروبا، بدل البقاء في وطنهم.

أهالي عدد من المفقودين يحتجون أمام بوابة مرفأ طرابلس شمال لبنان (الجزيرة نت)

وقائع الحادث

بعد ساعات من الغروب مساء السبت 23 أبريل/نيسان الجاري، توالت الأخبار عن غرق قارب قبالة السواحل شمالي لبنان، ثم سرعان ما تبين أنه كان ينقل رحلة هروب غير نظامية. وتضاربت الأرقام بشأن أعداد ركابه، وهي تتراوح بين 60 و75 فردا، معظمهم من اللبنانيين، إضافة إلى عائلات سورية وفلسطينية، بينهم نساء وأطفال.

وحتى قرابة الثالثة فجرا، تمكن الجيش من انتشال جثة طفلة لبنانية، وإنقاذ 48 شخصا كانوا على متن مركب تعرّض للغرق أثناء محاولة تهريبهم بطريقة غير نظامية. وذلك “قبالة شاطئ القلمون الشمال، نتيجة تسرب المياه بسبب ارتفاع الموج وحمولة المركب ‏الزائدة”، بحسب البيان الرسمي الصادر عن مديرية التوجيه في الجيش اللبناني.

وإلى صباح اليوم الأحد، تمكّن الجيش من انتشال 6 جثث من بينها جثة الطفلة، في حصيلة مؤقتة غير نهائية، حيث يجري البحث عن مفقودين آخرين.

قصة “قارب الموت”

وبحسب المعطيات التي حصلت عليها الجزيرة نت من شهود عيان وناجين من القارب، فإن الرحلة غير النظامية كانت بتدبير أحد المهربين، وهو من طرابلس، وقد عمل على الهروب أيضا على متنه مع أفراد عائلته وأقاربه، وجهز مع آخرين القارب المؤلف من طابقين، مقابل ألف دولار أميركي عن كل فرد، بالتنسيق مع جهات أخرى من المفترض أن تنتظر القارب لدى وصوله إلى إيطاليا.

وهنا، يروي السوري أحمد السبسبي للجزيرة نت، ما يصفه باللحظات الأخيرة ما قبل الموت، وهو غير مصدّق بقاءه حيا، فيما ينتظر العثور على أطفاله وزوجته.

وقال باكيا “لم أتواصل مع المهرب بطريقة مباشرة، بل عبر أشخاص آخرين، ودفعت 3 آلاف دولار عن عائلتي، إذ قبل بخفض المبلغ عن أطفالي، ووعدوني أن الرحلة ستكون آمنة، وأن القارب أشبه بيخت يتألف من طابقين، وأننا سنصل إلى إيطاليا بأمان”.

ونزح أحمد مع عائلته من سوريا هربا من الحرب منذ عام 2013، لكن أوضاعه الاقتصادية في لبنان لا تقل سوءا، و”بعد أن بلغت مرحلة اليأس الكلي، قررت أن أستدين من شقيقي في تركيا لتسديد كلفة الهرب رغم كل مخاطره”، كما قال.

ويشكو اللبناني عدنان الجمل للجزيرة نت مما آلت إليه الظروف الاقتصادية الصعبة، قائلا إن شباب عائلته الذين قرروا الهرب مع أبنائهم باعوا كل ما يملكون لتوفير ثمن الرحلة، “بعد أن خسرنا عملنا وصرنا عاجزين عن شراء الطعام أو تسديد فاتورة مولد الكهرباء”.

وإلى جانبه، كان يقف شاب فلسطيني هو من الناجين من “رحلة الموت”، وينتظر مصير 5 أفراد من عائلته ما زالوا فقودين في البحر، ويكتفي بالقول مختنقا “نحن نهرب من عجزنا، وليس لأننا نكره أولادنا فنلقيهم في عرض البحر”.

رواية الجيش

وقال بعض الناجين إن خفر السواحل اللبنانية اعترضوا رحلتهم قبل غرق القارب، ويؤكدون أن الرياح لم تكن شديدة والموج لم يكن عاليا.

هذا الأمر تسبب بتوتر أمني في إحدى مناطق طرابلس، حيث تلاسن بعض ذوي الضحايا مع عناصر الجيش، مما دفع الأخير إلى فرض تعزيزات أمنية مكثفة في المدينة، ضبطا لأي توتر نتيجة تضارب الروايات عن ملابسات الحادث.

لاحقا، عقد قائد القوات البحرية في الجيش العقيد الركن هيثم ضناوي مؤتمرا صحفيا ظهر الأحد، وقال إن “المركب الذي غرق هو مركب صغير صنع في العام 1974، طوله 10 أمتار وعرضه 3 أمتار، والحمولة المسموح بها هي 10 أشخاص فقط”.

وأشار إلى أنه “لم يكن هناك سترات إنقاذ ولا أطواق نجاة”. وردا على الاتهامات، أكد أن “الجيش حاول منع المركب من الانطلاق، ولكنه كان أسرع منا”.

وقال “حمولة المركب لم تكن تسمح له أن يبتعد عن الشاطئ، ولم يقتنع من عناصرنا الذين يعانون معاناتهم نفسها، وقائد المركب اتخذ القرار بتنفيذ مناورات للهروب من الخافرة بشكل أدى إلى ارتطامه”.

سيارات إسعاف تدخل إلى حرم المرفأ للمساعدة في انتشال الجثث ونقلها إلى المستشفيات (الجزيرة نت)

موسم الهجرة يتجدد

ومنذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، تنامت ظاهرة الهجرة غير النظامية في لبنان، وتحديدا عند النقاط البحرية شمالا، وبلغت ذروة غير مسبوقة عام 2015، وكانت تنحصر نسبيا في النازحين السوريين. لكن مع دخول لبنان دوامة الانهيار، وتحديدا بعد خريف 2019، تصاعدت الظاهرة مجددا ليتصدرها مواطنون لبنانيون يسعون للهرب عبر البحر إلى قبرص والسواحل الأوروبية.

ومنذ ذلك الحين، تنشط شبكات التهريب على نطاق واسع في لبنان، وامتهنها كثيرون باعتبارها مصدر دخل بآلاف الدولارات عن كل رحلة، وأصبح المهربون أكثر احترافا بتوفير سرية تحركاتهم، إذ لا يتواصلون مباشرة مع طالبي الهروب، بل عبر شبكة موازية من الوسطاء.

وفي عام 2020، وقع حادث مأساوي مماثل قبالة شواطئ شمالي لبنان، إذ غرق قارب أودى بحياة العشرات، دون أن يشكل ذلك رادعا لمئات الأسر الفقيرة التي تسعى لخوض هذه التجربة الخطيرة والمميتة، هربا من أوضاعهم البائسة في لبنان.

وفي حصيلة عام 2021، تمكّن الجيش من منع رحلات مماثلة لـ21 قاربا، كان على متنها 707 أشخاص حاولوا الهرب، بحسب مديرية التوجيه في الجيش.

كما تفيد أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأن ما لا يقل عن 1570 شخصا، بينهم 186 لبنانيا، غادروا لبنان أو حاولوا المغادرة بشكل غير نظامي عن طريق البحر بين يناير/كانون الثاني ونوفمبر/تشرين الثاني 2021.

وتتنامى هذه الظاهرة فيما يغرق لبنان بواحدة من 3 أسوأ أزمات شهدها العالم، ويعاني نحو 85% من سكانه من الفقر ويعجزون عن توفير مستلزمات حياتهم الأساسية بسبب الغلاء وانهيار الليرة. في حين تتحضر البلاد لإجراء الانتخابات البرلمانية في 15 مايو/أيار المقبل، وسط حالة من الاستقطاب الكبير بين القوى السياسية، بينما لم تتمكن الحكومة بعد من التفاهم على برنامج دعم مع صندوق النقد الدولي.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.