جرت العادة بأن يُقابَل كل عمل أو حدث أو أمر فريد بالكثير من الرفض المجتمعي أو الأكاديمي والعلمي، بحسب سياق هذا العمل. هذه هي الحال التي عاشها الرسام الانطباعي الفرنسي كلود مونيه.

ولد مونيه يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1840، وتوفي يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 1926، وما بين هذين العامين تلألأ نجم فريد من نوعه في سماء الفنون التشكيلية والرسم.

رسم مونيه لوحة بعنوان “انطباع شروق الشمس” (Impression, Sunrise) عام 1872، وهي اللوحة التي غيّرت وجه الفن التشكيلي للأبد، وتعتبر اليوم حجر الزاوية لمدارس الفن الحديث على تعددها وثرائها. فما الذي تتميز به تلك اللوحة؟ وما الذي يجعلها على هذا القدر من الأهمية؟

معنى اللوحة

نرى في مقدمة اللوحة زورقين صغيرين ومن فوقهم الشمس التي ينعكس لونها الأحمر على الماء، ويظهر في الوسط المزيد من قوارب الصيد، بينما في الخلفية على الجانب الأيسر من اللوحة توجد سفن طويلة السواري، وخلفها أشكال ضبابية تبدو كأنها مداخن للقوارب البخارية، كما توجد سوارٍ ومداخن أخرى على اليمين. تلك هي إذن العناصر المحورية في العمل.

جدير بالذكر أن الحركة الانطباعية هي الحركة الأم التي فتحت الباب لأكثر مدارس الفن الحديث ثورية وتجددا، مثل التعبيرية والتكعيبية وغير ذلك. أما الانطباعية نفسها فقد سُميت تيمنا بلوحة مونيه “انطباع شروق الشمس” التي عُرضت أول مرة في ما أصبح يُعرف اليوم باسم “معرض الانطباعيين” بباريس في أبريل/نيسان 1874.

الرسام الفرنسي كلود مونيه (مواقع التواصل)

رسم مونيه اللوحة مع عدد آخر من الأعمال في مسقط رأسه بمدينة لوهافر في شمال غرب فرنسا حينما زارها عام  1872، وهي منطقة بحرية ذات ميناء ومناظر طبيعية خلابة. رسمها جميعا عند الفجر وضوء النهار والغسق والظلام، ومن زوايا وجهات مختلفة، بعضها من الميناء نفسه والبعض الآخر من غرفة فندق تطل على الميناء.

عرضت اللوحة ضمن سلسلة لوحات ميناء لوهافر التي رسمها هو، وإلى جانبه ما يقارب 400 لوحة رسمها 30 فنانا شاركوا في ذلك المعرض، منهم على سبيل المثال لا الحصر: إدغار  ديغا، وكاميل بيسارو، وبيير أوغست رينوار، وألفريد سيسلي.

وزار المعرض ما يقارب 4 آلاف شخص وبعض النقاد “غير المتعاطفين”، على حد تعبير المؤرخة الفنية جانيس توملينسون.

كيف قوبلت اللوحة؟

كان فنّ الرسم ما قبل تلك اللوحة -على تعدد مراحله التاريخية وانتماءاته- يعتمد معايير أكاديمية ثابتة في رسم وتمثيل العناصر والمواضيع، ونكاد لا نرى عملا فنيا قبل تلك اللوحة لا يخضع لمعايير الرسم الأكاديمي، من حيث وضوح الأشكال وصحة النسب والمنظور، أما فيما يتعلق بالضبابية التي تكتنف انطباع شروق الشمس، فلا أساس لها في تاريخ الفن الطويل.

وهذا بالتحديد ما دفع النُقّاد الذين حضروا معرض اللوحة إلى النظر نحوها بنوع من الريبة، حيث أوجسوا منها أنها مجرد استسهال وعدم دقة، فقد أثار المنظور الشاعري والرسومات الضبابية غير الواضحة الملامح استياءهم الشديد.

فقد كتب الناقد الفني جولز كاستنياري في جريدة “القرن” (Le Siècle) اليومية آنذاك، ما نصه: “إنهم قدموا الإحساس الذي تثيره المناظر الطبيعية، بدلا من المناظر الطبيعية”.

كما كتب الناقد الفني لويس ليروي في مراجعته لمجلة “لو شاريفاري” (Le Charivari)، أنه مصدوم من أعمال مونيه ورفاقه، ومن هذا المنظور الخيالي القديم الطراز. وقد كانت مراجعة ليروي بمثابة ضربة قاصمة للمعرض، ولتلك اللوحة المؤسسة للمذهب برمته على وجه الخصوص.

لكن الصحفي والناقد الفني تيودور دوريت اختلف معهم وقتذاك، واعتبر أن مونيه ابتكر طريقة جديدة في الرؤية والرسم، قائلا: “لم يعد مونيه يرسم الجانب الثابت والدائم للمناظر الطبيعية، ولكن المظاهر والانطباعات العابرة، فينقل بذلك إحساسًا فريدًا بالحيوية الملفتة للمشهد المرصود”.

قبل مونيه كانت اللوحات تعتمد معايير أكاديمية ثابتة في رسم العناصر والموضوعات وتمثيلها (مواقع التواصل)

كيف تحوّلت إلى أيقونة؟

يمكن فهم ثورية اللوحة التي سُمي على إثرها “المذهب الانطباعي” في سياقها التاريخي، كما الفلسفي أيضا.

ففي السياق التاريخي، كانت اللوحة محض مشهد ضبابي، مبتعدة عن رسم المناظر الطبيعية التقليدية والجمال الكلاسيكي المثالي. فقد أراد مونيه بذلك الأسلوب الجديد أن يقول إن الجودة الفنية لأي عمل -والتي قد تكون مرتبطة برضا الأيديولوجيات السياسية عنها إلى حد بعيد- ليست حكرًا على أسلوب أو طريقة معينة في الرسم.

وقد كانت البرجوازية الفرنسية الناشئة في نظر مونيه هي ما تعزز سلطة المدارس الكلاسيكية في الرسم، والتي كانت تقدم تصورًا أوروبيا للعالم من حيث سمو العرق الأبيض ورفاهية الطبقات الأرستقراطية الثرية، مع التركيز على جمال الجسد الأبيض العاجي والنسب المثالية للجمال الأنثوي التي صارت معيارًا صارمًا فيما بعد.

وفي السياق الفلسفي، اتجهت الحركات الفنية في الرسم والموسيقى والأدب وغير ذلك نحو التحرر من القواعد الأكاديمية الصارمة، بعد الثورة الصناعية ومآلاتها.

وبرزت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فلسفات تشاؤمية، تنظر بعين الريبة نحو الإنسان والغاية من وجوده وتاريخه الثري بالحروب والدماء.

فقد كانت لوحة الصرخة التي رسمها النرويجي إدفارد مونك، إعلانًا واضحًا عن العذاب الوجودي والنفسي الذي غلف عالم الحداثة كله.

لذلك يرى نقاد الفن التشكيلي ومؤرخوه أن لوحة مونيه، التي ضربت بعرض الحائط كافة قواعد الرسم والتشكيل ومعاييره وفتحت الباب لأكثر التوجهات ثورية، لوحة أيقونية غيّرت وجه الفن للأبد.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.