قد يصاب المشاهد بالحيرة إذا أراد أن يستعيد قصة فيلم “خيال رخيص” (1994) أو”Pulp Fiction” بعد مشاهدته، وقد يشعربالغيظ من صناع الفيلم أثناء المشاهدة، لكنه بالتأكيد لن يشعر بالرغبة في الانصراف حتى ينتهي هذا العمل، وقد مثل في حينه ثورة في عالم السرد السينمائي، وبقدر ما أثار من الإعجاب، فقد دشن لمرحلة جديدة من السرد السينمائي الجديد، وألهم صناع الأفلام طرقا في الحكي تتسم بالجرأة والمغامرة.

جاء فيلم “خيال رخيص” عام 1994 أو “Pulp Fiction” ليؤكد شائعة جنون مخرجه، ويعتمده كأكثر المجانين قدرة على الإبداع والتغيير، فقد استطاع تارانتينو بهذا العمل الملتبس أن يجسد قيم “ما بعد الحداثة” وأن يجمع -ربما للمرة الأولى- بين الرعب من عالمه والإعجاب به في آن واحد أثناء مشاهدة فيلم حتى وهو يقتل التاريخ ويمزق السينما والدراما وأساليب السرد.

رشح الفيلم الذي فاجأ الجميع لـ7 جوائز أوسكار، وفاز من بينها بجائز أفضل سيناريو أصلي، كما فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان، وأخيرا الترتيب الثامن من بين أفضل الأفلام على موقع “آي إم دي بي” IMDB.

تدور أحداث فيلم “خيال رخيص” حول اثنين من صغار المجرمين يؤديان ما يطلبه منهما زعيمهما، يستعيدان حقيبة تخصه من أحد تجار المخدرات، ويشرفان على تنفيذ اتفاق لخسارة أحد الملاكمين مباراة ملاكمة، ويكلف أحدهما باصطحاب زوجة الزعيم إلى الخارج في غيابه، وفي السياق يقرر أحدهما أن ثمة إشارات تخبره أن وقت توبته قد حان وأن عليه أن يتوقف عن الإجرام، وبالفعل ينصرف بعيدا عن العصابة، بينما يموت الآخر بعد رفضه التوبة.

فاجأ تارانتينو السينمائيين قبل الجمهور حين تجاهل التتابع الزمني للأحداث، وتجرأ فقام بتجميد المشهد، ومن ثم انتقل إلى مشهد جديد، ومن ثم إلى مشهد آخر، وأخيرا عاد إلى ما كان يحكيه سابقا، وعلى المشاهد فك وتركيب الحكاية وإعادة ترتيب المشاهد ليصل إلى التتابع الزمني للأحداث.

يقوم المجرمان بيت (صمويل جاكسون) وفنسنت (جون ترافولتا) بمهام لصالح زعيمهما، وفي الفراغات الدرامية بين الأحداث يبدآن حوارات قد تبدو تافهة وغارقة في تفاصيل شديدة المحلية، لكن المشاهد يكتشف عبر البناء الحواري الذكي أن ثمة عمق شديد في تلك الحوارات التي تبدأ من تسمية الهامبورغر في بلاد مختلفة، وحتى استخدام المعايير الواضحة في سياق ثقافي وترك الأمر للتقديرات الفردية في ثقافات أخرى، ورغم الجنون والعبثية الظاهرين في المرئي والمسموع داخل العمل فإن نوعا من الهندسة البنائية الدقيقة تبدو ظاهرة في كل تفصيلة حوارية بشكل خاص.

يعشق المخرج تارانتينو الدماء والعنف، وبقدر ما تبدو الجملة السابقة ملاحظة أخلاقية، فإن ذلك العنف وتلك التفاهة الظاهرة في الحوارات، فإن نوعا من الصدق المتوحش يهاجم المشاهد ويؤكد له أن تلك النسخة السينمائية من الواقع هي أقرب للواقع من ذلك التصور الرقيق في رأسه.

وقد أدى أسلوب الحكي الجديد الذي ألهم عشرات المبدعين من بعده إلى النظر للفيلم على أنه متتالية فيلمية، أكثر من كونها فيلما، لكن هذه المتتالية تنتهي إلى عمل متصل بصلابة مدهشة إذ يستخدم صناع العمل الفكرة الجمالية والفلسفية الأكثر كمالا وهي فكرة الدائرة، حيث يعود تارانتينو بأبطاله إلى نقاط البداية بالمشهد ما قبل الأول (مشهد الأفان تتر) لينهي العمل بنقطة البداية ويغلق محيط الدائرة.

استخدم صناع العمل تقنية صناعة الكتاب في تقسيم العمل إلى فصول، فيما يبدو إشفاقا على المشاهد من الحيرة، فقد بدأ العمل بمشهد ما قبل التترات (أفان تتر) لفتى وفتاة يجلسان في مطعم ويقرران سرقته، ومن ثم تظهر اللافتة الأولى “فينست فيغا وزوجة مارسيلاس والاس” وهكذا يستمر الحكي بالاستعانة بلافتات بدت وكأنها عناوين لفصول كتاب، وقد سبقتها جميعا إشارة مرجعية لما تعنيه كلمة (pulp) في القاموس الثقافي واللغوي.

ولعل أبرز ما في “خيال رخيص” هو تلك النزعة لنحت طرق جديدة للقص بالاقتراب من الواقع والحكي من المسافة صفر تقريبا، مع الحرص على تلك الصلة التي تؤكد أن العمل يحمل تراثا معرفيا ويعترف بكل أساليب السرد والمونتاج، ويحرص على التعلم منها والالتزام بها بينما يحاول تمزيقها.

لعب تارانتينو لعبة “القص واللصق” في قصة العمل ونقل مشاهد لاحقة إلى أماكن مشاهد سابقة والعكس، لكن ثمة مشكلة تتعلق بالطبيعة الإنسانية نفسها، وتنشأ من فكرة تأثير بعض المواقف على البشر، وظهور ذلك التأثير في المواقف التالية.

ولعل دور بيت (صمويل جاكسون) رجل العصابة الذي لا يتردد في سفك الدماء، بل ويقتل بعد تلاوة كلمات من الكتاب المقدس، حتى أنه يبدو حكما إلهيا منه على الضحية بالموت، تلك الشخصية نفسها، هي التي ترى في عدم إصابتها بالرصاص الذي انطلق من خصم يبعد عنه أمتارا قليلة هي معجزة، وإشارة إلى أن عليه أن يتوقف عن الإجرام.

في المقابل، فإن قتل زميله لشخص مخطوف في السيارة لم يزعجه بقدر ما أزعجته فكرة التلوث بالدماء وإمكانية انتباه الشرطة له.

وهنا يتجلى ما مثله ويمثله المخرج كوينتن تارانتينو في السينما وفي العصر الحالي بشكل عام، إذ يقوم الفرد بالاهتمام بما يعنيه فقط.

ورغم ذلك فإن الملاكم “بوتش” الذي يقوم بدوره بروس ويليس، جرى بناء شخصيته بشكل يختلف كليا عن باقي شخصيات العمل القادمة من عشوائيات عالم المهمشين والمجرمين في أميركا، إذا ينتمي بوتش إلى عائلة من المحاربين أورثته “ساعة يد” احتفظ بها الآباء والأجداد وهو يحرص على عدم التفريط فيها.

هذا الملاكم الذي يحاول زعيم العصابة “والاس” الذي قام بدوره الممثل فينغ راميس، إجباره على الهزيمة في مباراة ملاكمة لصالح رهانه على خصمه، فيقبل تحت التهديد، لكنه -أي بوتش- يقتل منافسه في الحلبة ومنذ اللحظة الأولى في المباراة، ويؤكد أن كرامته لا يمكن المساس بها أبدا، وينعكس الأمر في مخاطرته للبحث عن الساعة التي تعد هنا رمزا لميراثه من القيم التي لا ينبغي التخلي عنها.

مرة أخرى يعيد تارانتينو صياغة العلاقة بين العصابات وبين هؤلاء الذين يملكون ميراثا من الكرامة والقيم، حين يبدأ جزءا من القصة بمحاولة بوتش وولاس قتل بعضهما البعض، لكنه ينهيه بإنقاذ بوتش لوالاس من بين أيدي مغتصب، وهنا يحدث اللقاء أو التواطؤ على الكتمان مقابل الغفران، لأن ثمة معطيات منحت العلاقة توازنا جديدا.

فيلم “خيال رخيص” هو القمة التي لم يتجاوزها تارانتينو حتى الآن رغم تقديمه لأعمال رائعة تالية، وهو من تلك الأعمال التي يظل المبدع يدور حولها فإن تجاوزها صنع الأسطورة، وإن لم يفعل فقد اكتفى بعمل عبقري سيبقى في ضمير السينما والسينمائيين حتى يتجاوزه مجنون آخر.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.