تستمر تأثيرات الصدمة التي خلفتها عملية “طوفان الأقصى” التي بدأتها حركة حماس صباح السبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليس فقط في إسرائيل ولكن في جميع أنحاء العالم. وحدات عز الدين القسام التي تسللت إلى داخل إسرائيل من 22 نقطة مختلفة، وفرضت هزيمة لم تشهدها إسرائيل من قبل في تاريخها، جعلت العالم يتحسس أصابعه كما قال المتحدث باسم حماس.

في الواقع، كان التأثير الأولي للحدث على العالم مشابهًا لتأثير رواية “التحول” لكافكا، حيث يستيقظ البطل “غريغور سامسا” ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة. هذه المرة، الأشخاص الذين استفاقوا يجدون أن دولة إسرائيل، التي عُرفت للعالم على مدى سنوات كعملاق في الحروب والتكنولوجيا والاستخبارات والقوة، قد تحولت إلى نمر من ورق.

تدفق الآلاف من جنود القسام

الجدران والأسلاك الشائكة والخنادق التي كانت توصف بأنها لا يمكن تجاوزها، تم تجاوزها في بضع دقائق. وشهدت الأراضي الإسرائيلية، التي لا يمكن دخولها دون إجراءات أمنية صارمة، تَدَفُّق الآلاف من جنود كتائب القسام والمتطوعين الفلسطينيين بسهولة، بينما فر الجنود الإسرائيليون والمستوطنون من أمامهم كجرذان صغيرة. إسرائيل التي استخدمت قوتها واستخباراتها ومهاراتها الحربية كآلة للرعب في المنطقة كلها منذ تأسيسها، خسرت أمام تكنولوجيا تم تطويرها من أنابيب مدخنة.

بالطبع، لم تهزم أنابيب المدخنة التي تم تعديلها إسرائيل، وإنما هزمها الإيمان الذي لم يستسلم لكل قوتها وتكنولوجياتها وظلمها الاستعماري.

إسرائيل، التي أجبرت سكان غزة على العيش تحت الحصار 16 عاما، ولم تسمح بدخول قطعة خبز أو دواء أو أي مواد أخرى دون إذن، وأهانت رجالهم ونساءهم وأطفالهم وكرامتهم وإيمانهم ومقدساتهم، لم تستطع أبدًا تجنب رؤية العزيمة الصامدة في أعين شعب غزة. هذا العزم كان دائمًا كابوسها، واليوم أصبح هذا الكابوس حقيقة.

الاستمرار في المقاومة

الخيار الإستراتيجي السياسي لحماس كان الاستمرار في المقاومة، مسلحةً بالإيمان ولكنها عقلانية في الوقت ذاته، تستخدم ما يتاح لها من قدرات للرد على الصهاينة.. نعم، بدأت انتفاضتها بالحجارة، التي كانت كل ما لديها، لكن ذلك لم يكن يعني أنها ستكتفي بها. عملت حماس جاهدة لتطوير التكنولوجيا والقوة لتصيب إسرائيل في أمّ عينها، كما فعل داود عندما أصاب “جالوت” في وسط عينه.

في عام 2021، أظهرت حماس بوضوح أنها تمتلك القدرة على تحويل القبة الحديدية الإسرائيلية الأسطورية إلى مصفاة. ومنذ ذلك الحين، كانت تحذر إسرائيل من أن هذا التطور الذي حازته حقيقة وليست خدعة، وأنها إن لم تتخذ الحذر، فستذوق كأس المعاناة الذي يتجرعه الفلسطينيون.

قبيل العملية الأخيرة، كانت هجمات حماس “رد فعل غير متكافئ” على هجمات إسرائيل، ولكنها مع “طوفان الأقصى” أخذت زمام المبادرة للمرة الأولى لتهاجم إسرائيل، وجعلتها تعيش الكابوس الذي تعيشه غزة كل ليلة.

هذا هو ملخص الحادث، رغم كل الضجيج الذي يثيره أصدقاء أميركا وإسرائيل الذين تحولوا فجأة إلى وضع “إسرائيل البائسة تواجه هجمات حماس الوحشية”، فجوهر المسألة يكمن في أن إسرائيل تعيش لأول مرة جزءًا مما كانت تفرضه على الشعب الفلسطيني.

شعب غزة الذي عاش تحت الحصار لمدة 16 عامًا دون الحد الأدنى من ظروف الحياة الإنسانية، في حين -على الناحية الأخرى- يتم جلب مستوطنين من أنحاء العالم بوعود كثيرة ليحتلوا منازل وأراضي العائلات الفلسطينية، ويتعرض الفلسطينيون الذين يقاومون هذا لكل أنواع العدوان والإهانة. فبدلاً من بناء جدران حول المستوطنات لحمايتها، تم بناء جدران حول الأحياء الفلسطينية المجاورة، لتجعل الفلسطينيين يعيشون في سجن كبير. يُجبرون على الانتظار لساعات في نقاط التفتيش التي أقيمت بين الشوارع للذهاب من منزل إلى منزل في الحي نفسه.

 

النظام العالمي يثبت لنا كل يوم حقيقة واضحة: ليس كافيا أن يكون لديك الحق في أي قضية، ولن يرفع هذا الحق ظلما ألم بك. وحقك لا تثبته القضايا والملفات والمستندات، وحدها القوة تثبته وتعيده

 

بين الحق والقوة

تقوم إسرائيل بالعمليات التي تريدها ضد الفلسطينيين كلما أرادت. وخلال تلك العمليات، تقتل رصاصات عشوائية فلسطينيًا أو اثنين يوميًا. وفي المواجهات، يتم اعتقال العديد من الفلسطينيين في كل مرة. ثم هناك الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى التي تستبيح مقدسات المسلمين، وجعلته تدريجيا تحت الاحتلال بحكم الأمر الواقع. وبتشجيع من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، تجاهلوا ردود الفعل الإسلامية الغاضبة حيال ذلك.

لم تعترف إسرائيل بأي من قرارات الأمم المتحدة ولم تنفذها، لأنها كانت تعتقد في قوتها وتراها كافية لفرض كل شيء، وأصبحت أكثر غطرسة وجرأة كلما زاد إيمانها أن لا قوة يمكن أن توقفها. والسيئ أن بعض الدول المسلمة كانت أيضًا تعتقد في قوتها. ففي السنوات الأخيرة، كانت اتفاقات “التطبيع” المتتالية بين دول إسلامية وإسرائيل مدفوعة بالإيمان بأسطورة أن إسرائيل قوة لا تقهر، لكنهم لم يدركوا أنهم في الواقع كانوا يغذون هذه الأسطورة بمواقفهم.

النظام العالمي يثبت لنا كل يوم حقيقة واضحة: ليس كافيا أن يكون لديك الحق في أي قضية، حتى لو كنت محقًا تمامًا، فلن يرفع هذا عنك الظلم الذي ألم بك. حقك لا تثبته القضايا والملفات والمستندات. وحدها القوة -إذا امتلكتها واستطعت استخدامها- هي التي تمكنك من استعادة هذا الحق.

في ناغورني قره باغ، انتظرت أذربيجان سنين طوالا عبثًا على أبواب المجتمع الدولي ليقر بحقها في استعادة أراضيها المحتلة، فلم يحدث شيء، ولكنها عندما حشدت قوتها واستخدمتها، نالت حقها، وسلم به العالم.

إسرائيل غزت أراضي فلسطين، ورغم إقرار الأمم المتحدة وأغلب المجتمع الدولي بحقيقة هذا الغزو، لم يجرؤ أحد على مواجهة إسرائيل لاستعادة حقوق الفلسطينيين. واليوم، يضطر الفلسطينيون إلى إظهار قوتهم لينتصروا لقضيتهم العادلة ويأخذوا حقوقهم بأنفسهم، وقد فعلوا.

ليست إسرائيل وحدها التي ستعيش واقعا جديدا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولكن العالم كله سيكون مختلفًا تمامًا، وسيكون لهذا الحدث تأثيرات واسعة، سنستمر في متابعتها.

أما أولئك -في تركيا- الذين يسموننا “محبي العرب”، فهم في الواقع “محبو إسرائيل”، لقد أظهرت الأيام الأخيرة أن أولئك الذين يرفعون لواء كراهية الأجانب في تركيا، ويهاجموننا لرفضنا ذلك، قد تحولوا فجأة إلى “محبي إسرائيل” بعد عملية حماس، ويبدو أن كرههم للسوريين واللاجئين العرب كان نابعا من حبهم لهذا الكيان الصهيوني، وليس من قبيل المصادفة أن المجموعات الكردية والتركية المتعصبة قد اجتمعت في حبها لإسرائيل ومعارضتها لحماس، لقد اتضحت المواقف والانحيازات.

وكما قلنا، سنرى المزيد والمزيد فيما هو قادم، فهذا الحدث هو بالتأكيد بداية لتغييرات كبيرة.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.