|

نشرت مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) الأميركية مقالا لمؤرخة كندية يفيد بأن الحروب تبدأ على أمل أن تنتهي بسرعة، لكنها تستمر طويلا، كما أن نهاية بعض الحروب تعني ببساطة وضع الأساس لحرب أخرى.

وعقدت كاتبة المقال مارغريت أولوين ماكميلان -وهي أستاذة للتاريخ في جامعة أكسفورد وعميدة سابقة لكلية ترينيتي في تورنتو بكندا- كثيرا من المقارنات بين الحرب العالمية الأولى والحرب الأوكرانية الحالية، لتقول إن وضع الحروب لم يتغير كثيرا رغم تغير التكنولوجيا العسكرية والسياقات التي تجري فيها.

وأوضحت أنه قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا افترض كثيرون أن الحروب بين القوى الكبرى في القرن الـ21 إذا حدثت على الإطلاق فلن تكون مثل الحروب السابقة، وتوقعوا أن تتم باستخدام جيل جديد من التقنيات المتقدمة، بما في ذلك أنظمة الأسلحة المستقلة، وستكون ميادينها في الفضاء والفضاء السيبراني، أما القوات على الأرض فقد لا تهم كثيرا.

لكن الكاتبة أكدت أنه لا توجد اختلافات نوعية بين الحربين في ما يتعلق بميادينهما والكادر البشري الكثيف المنخرط فيهما رغم الفارق الزمني الذي زاد على قرن كامل واختلاف التقنيات العسكرية المستخدمة.

وهم الحرب السريعة

وقالت ماكميلان إن الحرب العالمية الأولى أظهرت بشكل لا يُمحى أن الحروب لا تسير كما هو مخطط لها إلا نادرا، فعلى الرغم من أن الحرب الحالية في أوكرانيا في عامها الثاني فقط فإنها تكشفت بعد أشهر عن وضع تصلبت فيه خطوط المواجهة مع تكاليف بشرية باهظة للغاية، ومثل هذا الواقع لا يستبعد إمكانية حدوث عمليات جديدة مهمة من أي من الجانبين وما يترتب على ذلك من تحولات في الزخم.

كذلك يقدم لنا الماضي -كما تقول الكاتبة- تحذيرا قاتما، فعندما تنتهي الحرب في أوكرانيا أخيرا -كما يحدث في جميع الحروب- قد تأمل أوكرانيا وأنصارها تحقيق نصر ساحق وسقوط نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن إذا تُركت روسيا في حالة اضطراب مرير وعزلة حيث يلوم العديد من قادتها وشعبها الآخرين على إخفاقاتها كما فعل الكثير من الألمان في تلك العقود بين الحربين العالميتين فإن نهاية هذه الحرب يمكن ببساطة أن تضع الأساس لحرب أخرى.

قوات أميركية في لندن عام 1917 (غيتي)

وتستمر الكاتبة في مقارناتها بين الحرب العالمية الأولى والحرب الأوكرانية وتقول إنه في عامي 1914 و2022 على حد سواء كان أولئك الذين افترضوا أن الحرب غير ممكنة كانوا مخطئين، ففي عام 1914 كانت هناك توترات خطيرة وغير محسومة بين القوى الأوروبية، فضلا عن سباق تسلح جديد وأزمات إقليمية أدت إلى الحديث عن الحرب، وعلى نفس القدر من الخطورة كان افتراض من بدؤوا الحرب آنذاك أنها ستكون قصيرة وحاسمة مثل افتراض بوتين في 2022.

للعواطف دور كبير في قرار الحرب

وتلفت ماكميلان الانتباه إلى أن العواطف (الاستياء، والفخر، والخوف) ظلت تلعب نفس التأثير على من يتخذون قرار الحرب، مشيرة إلى أن بوتين لو أجرى الحسابات الصحيحة في البداية فمن المحتمل أنه لم يكن قد غزا أوكرانيا، أو على الأقل كان سيحاول إخراج القوات الروسية بمجرد أن يتضح أنه لن يحصل على ما يهدف إليه من غزو سريع وغير مكلف حسب توقعه.

وأضافت أن بوتين مثله مثل سلفه القيصر نيكولاس في 1914 تذكر الإذلال، فعندما كان ضابطا شابا في المخابرات السوفياتية وشهد عن كثب انسحاب الإمبراطورية السوفياتية من ألمانيا الشرقية ثم تفكك الاتحاد السوفياتي نفسه وتوسع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي باتجاه الشرق شعر بالإهانة والتهديد، أما الغرب فقد قلل من شأن مخاوف روسيا وتجاهل إلى حد كبير الضربات التي وجهت إلى كرامتها الوطنية.

فردون بوتين

ومن السمات المميزة للحربين العالميتين الأولى والثانية الأهمية الرمزية الهائلة التي تعطى لمدن أو مناطق معينة حتى لو بدا أن تكاليف الدفاع عنها أو الاستيلاء عليها تتحدى العقل، فقد أهدر هتلر بعضا من أفضل قواته ومعداته في المدينة الروسية الشهيرة ستالينغراد لأنه رفض التراجع.

وكانت هناك قلعة فردون في الحرب العالمية الأولى، لم تكن لتلك القلعة القريبة من حدود فرنسا مع ألمانيا مكانة إستراتيجية مهمة، لكن رمزيتها التاريخية هي ما جعلها مهمة بالنسبة لرئيس الأركان العامة الألمانية إريش فون فالكنهاين الذي رأى أنه إذا كان من الممكن هزيمة الفرنسيين في هذا المكان المتشابك مع التاريخ الفرنسي، فمن الممكن إضعاف إرادتهم في مواصلة القتال، وحتى إذا اختاروا الدفاع عنها فإنهم سيتكبدون مثل هذه الخسائر التي -كما قال فالكنهاين- “ستستنزف فرنسا إلى آخر قطرة دم”، لقد كان تحديا فهمه الفرنسيون وقبلوه.

وبدأت ألمانيا بهجوم ضخم في فبراير/شباط 1916، وعندما فشلت خطة فالكنهاين الأولية للاستيلاء على جميع التلال المحيطة بفردون وجد الألمان أنفسهم ملتزمين بمعركة مدمرة لم يتمكنوا من الفوز بها، وفي الوقت نفسه لم يتمكنوا من الانسحاب من المواقع التي استولوا عليها بالفعل، بما في ذلك القلعة الفرنسية النائية في دوماون، لقد كلفت المكاسب الكثير من الأرواح الألمانية.

وأخبر القادة الألمان الجمهور أن دوماون كانت مفتاح الحملة الكبرى، وانتهت معركة فردون بعد 10 أشهر بقتل نحو 143 ألف ألماني و162 ألف فرنسي، وفي النهاية استعاد الفرنسيون جزءا كبيرا من الأراضي التي تمكن الألمان من الاستيلاء عليها على الرغم من استمرار الحرب نفسها لما يقارب عامين آخرين.

والحرب في أوكرانيا -تقول ماكميلان- أنتجب هي الأخرى معاركها الحمقاء من هذا النوع، فالحصار الروسي لباخموت -وهي بلدة مدمرة إلى حد كبير في الشرق مع القليل من الأهمية الإستراتيجية الواضحة- استمر 8 أشهر، وأنفق فيه الجانبان موارد بشرية وعسكرية أكثر من أي معركة أخرى في الحرب، وأجرى رئيس أركان الجيش الأوكراني أندريه يرماك المقارنة مع فردون.

كلتا الحربين بدأت كمواجهة محلية

لكن احتمال تكرار مثال فردون -تضيف ماكميلان- ليس هو التهديد الوحيد الذي تشكله حرب طويلة الأمد في أوكرانيا، ومما يثير القلق الأكبر هو احتمال أن تجتذب قوى أخرى وتصبح أكثر انتشارا وتدميرا، فالحرب العالمية الأولى بدأت كمواجهة محلية في البلقان بين النمسا من جهة وصربيا والمجر من جهة أخرى، وفي غضون 5 أسابيع كانت قد أصبحت حربا أوروبية عامة، لأن القوى العظمى الأخرى اختارت التدخل والتصرف -حسب اعتقادها- لمصالحها الخاصة، ثم دخلت قوى أخرى بشكل متتالٍ، اليابان في أواخر صيف عام 1914، وبلغاريا وإيطاليا في عام 1915، ورومانيا في عام 1916، والصين واليونان والولايات المتحدة في عام 1917.

وعلى الرغم من أن العديد من أصدقاء أوكرانيا لم يتخطوا الحدود بعد ليتحولوا إلى مقاتلين فعليين فإنهم يشاركون بشكل وثيق أكثر فأكثر ويقدمون -على سبيل المثال- الدعم الاستخباراتي واللوجستي، بالإضافة إلى المزيد من الأسلحة الأكثر فاعلية وتطورا.

ومع زيادة جودة وكمية دعمهم فإن ذلك بدوره يزيد خطر أن تختار روسيا التصعيد وربما مهاجمة الدول المجاورة مثل بولندا أو دول البلطيق، وهناك خطر آخر يتمثل في أن الصين يمكن أن تبدأ في دعم روسيا بشكل أكثر نشاطا وإرسال مساعدات قاتلة، وبالتالي زيادة فرص المواجهة بين بكين وواشنطن وتمدد الحرب وإطالة أمدها.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.