عٌرض مؤخرًا على شاشات السينما بتقنية “ميكس-1” (I-Max) ثالث أفلام المخرج والمؤلف جوردان بيل بعنوان “لا” (Nope) ليكمل مسيرة إخراجية تبدو قصيرة لكنها مليئة بالخطوات الواثقة للمخرج الأميركي ذي الأصول الأفريقية.

وقد حقق الفيلم إيرادات بلغت 160 مليون دولار حتى الآن، مقابل ميزانية بلغت 68 مليونا.

تتميز سينما بيل بسماتها الخاصة، فهو يضفر الأنواع السينمائية الشعبوية والرائجة، مثل الرعب والخيال العلمي، بأفكاره المناهضة للعنصرية ضد السود في الولايات المتحدة، ليصنع نسيجا لا يمكن فصل أجزائه عن بعضها البعض، ويجعل أفلامه مسلية للمتفرج العادي، وفي ذات الوقت تحمل أبعادًا أعمق تستدعي اهتمام لجان الجوائز.

المخرج البالغ من العمر 43 عاماً، فاز بأوسكار أفضل سيناريو عن أول أفلامه “اخرج” (Get Out). فماذا عن أحدث أعماله “لا”؟ وهل يحقق ذات النجاح؟

بين ويسترن والرعب والخيال العلمي

يبدأ فيلم “لا” بمزرعة تقع في لوس أنجلوس الأميركية، وتختص بتدريب الخيول للعمل في السينما. يعمل فيها أب أسمر البشرة، وابنه الشاب أو جي (دانيال كالويا). بعد دقائق من استعراض الفضاء الشاسع لصحراء الغرب الأميركي، يموت الأب بصورة مفاجئة نتيجة لجسم صغير وقع عليه من السماء، يقال لابنه لاحقًا إن السبب قد يكون مروحية أسقطت شيئا بشكل عشوائي.

ينتقل المشهد التالي إلى ما بعد موت الأب وتولي “أو جي” مسؤولية تدريب أحد الخيول للاشتراك في إعلان تلفزيوني برفقة أخته، يتضح التضاد بين شخصيتي كل من “أو جي” وأخته إم (كيكي بالمر) فالأول يتسم بالهدوء الشديد وضعف قدراته الاجتماعية على التواصل مع البشر، بينما الثانية مفعمة بالحيوية، صاخبة ومنفتحة تجاه العالم.

بالعودة إلى المزرعة، يتشارك الأخوان أمسية تنتهي بحادث غريب يفزع بسببها أحد الخيول، وتفقد المزرعة لدقائق كل أنواع الطاقة، وتظللها غيمة من الرعب، لا يعلم ما هي سواء سكان المزرعة آل هايوارد أو المتفرج.

هكذا يهيئ بيل مسرحه السينمائي، فلدينا عائلة تجمع بينها ديناميات حب وعداء نتيجة للاختلاف بين طبيعة الأخوين، وظاهرة خارقة غامضة، والمكان مزرعة نائية على أعتاب هوليود حيث تم تصوير أغلب أفلام الغرب الأميركي القديمة، فماذا سيفعل المخرج بهذا المزيج؟

يدمج بيل بين 3 أنواع سينمائية ببراعة، الخيال العلمي يتمثل في الخطر غير المفهوم الذي يواجهه الأبطال الذي يبدو في البداية كطبق فضائي، لكنه أيضًا يتصرف ككائن متوحش له طقوس افتراس تشبه تلك الخاصة بالحيوانات، والرعب بالطبع، إلى جانب لمسةٍ من الغرب الأميركي الحديث، والذي يستخدم نفس السمات الشائعة لسينما الغرب الأميركي لكن في الزمن الحالي، من الصحراء الشاسعة، والخيول المروضة، ومغامرة البطل الوحيد للحفاظ على حياته وحياة أحبائه.

يحيط الغموض فيلم “لا” فحتى منتصف العمل لا يعلم المشاهد ما هو الخطر الذي يتهدد هذا العالم الفيلمي؟ لكن هذا الشعور بالترقب الفَزِع هو إحدى سمات أفلام المخرج، كما في فيلمه “اخرج” الذي لم يتضح سبب الرعب سوى في الثلث الأخير من العمل، فالرعب هنا ليس غاية في حد ذاتها، لكن وسيلة داعمة وحامل لفكر المخرج نفسه.

سر التميز يكمن في السينما

عندما يصل أبطالنا إلى يقين أنهم يشهدون ظاهرة خارقة طرأ في بالهم أنها قد تكون خلاصهم من أزماتهم المادية، وذلك بتصويرها وبيع الصور، من هنا بدأ الفيلم بشكل حقيقي، مع مغامرة الأخوين للتصوير بالاستعانة في البداية بكاميرات مراقبة احترافية، ثم مخرج سينمائي، محاولين في ذات الوقت الحفاظ على حياتهم.

يجمع فيلم “لا” بين كل من عشق مخرجه للسينما ومناهضته بالعنصرية، فأول كلمات الأخت “أم” هو خطبتها حول أهمية عائلتها، عائلة “هايوارد” التي تتصل تاريخيًا ببدايات السينما، ليس فقط لأنها كانت صاحبة مزرعة التدريب الأهم للخيول في هوليود، لكن كذلك أول ممثل ظهر في تاريخ السينما كان أحد أفرادها.

قبل كاميرا وجهاز عرض الأخوين لومير الشهيرة، كان لإدوارد مويبريدج السبق في تقديم أول صورة متحركة على الإطلاق، في لقطات سريعة لحركة فارس على حصان راكض، ولكن المفارقة التي أشار إليها بيل على لسان بطلته أن الجميع لا يذكر من هو هذا الفارس الذي يعتبر أول ممثل في التاريخ، ليدحض الحقيقة الشائعة أن السينما لم تقم سوى على أكتاف أبناء العرق الأبيض.

وتم تصوير أغلب الفيلم من وجهة نظر الكاميرات المستخدمة في تصوير الظاهرة وليس الشخصيات نفسها التي تقف بلا حول ولا قوة كطعم أو ضحية للقاتل الفضائي، بينما تتحرك الكاميرا سواء الخاصة بالمراقبة، أو كاميرا تصوير الفيلم، في حركة يعيها المشاهد جيدًا وليست سلسة مثل المعتاد في الأفلام السينمائية بل يتماهى معها كدليله في المشاهدة أكثر من تماهيه مع الأبطال.

كاميرات التصوير في فيلم “لا” ذات حضور خاص، تشبه واحدة من الشخصيات، ترافقهم في مسيرتهم، وتتغير تبعًا لمقتضيات الأمور. نبدأ بكاميرات المراقبة، ثم كاميرا التصوير التي استخدمها المخرج المحترف داخل الفيلم في تصوير الظاهرة والتي يستخدم فيها الفيلم الخام، وليس التصوير “الديجيتال” الشائع الآن، ثم الكاميرا اليدوية التي تعمل بالإدارة باليد التي تشبه تلك التي بدأت بها السينما، وينتهي الفيلم بكاميرا تصوير فوتوغرافي التي تمثل أصل الصور المتحركة، ونقطة بداية فن صناعة الأفلام.

ويختتم الفيلم بلقطة للأخ “إم جي” كأنه صورة ثابتة في كادر سينمائي ينتظر الدخول إلى جهاز “مافيولا” للمونتاج، ويشبه جد جده، أول بطل لفيلم سينمائي في التاريخ.

أضاف بيل إلى التصوير السينمائي في فيلم “لا” مهمة جديدة، فهو ليس مجرد وسيلة لرصد الصورة السينمائية، بل هو جزء من الحبكة كذلك.

“لا” من أهم أفلام 2022، من المتوقع أن يحصل على عدة ترشيحات للأوسكار، أقربها السيناريو السينمائي الأصلي، لكن الأهم أنه تكريم لإسهامات السود في السينما العالمية وليس الأميركية فقط، وقصيدة شعر في حب السينما، ودليل على ذكاء مخرج استطاع إرساء قواعد لغته السينمائية في 3 أفلام فقط.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.