غيّرت الأزمة الأوكرانية كثيرا من المعادلات والتوازنات الإقليمية الدولية، ودفع تطور الأوضاع في أوكرانيا الأنظار من جديد نحو الدول السوفياتية السابقة؛ في الجوار الأفغاني القريب في آسيا الوسطى، لا سيما بعد مضي أشهر قليلة على الانسحاب الأميركي من أفغانستان.

وتنظر واشنطن اليوم إلى دول آسيا الوسطى على أنها يمكن أن تساعد روسيا في موضوع الالتفاف على العقوبات الغربية. ومن خلال تصريحات وتحركات مسؤولين أميركيين في الأيام الأخيرة بشأن عواصم آسيا الوسطى، وتقديم عروض لتعاون أمني وعسكري وإغراءات اقتصادية، تحاول الولايات المتحدة توجيه ضربة مزدوجة لموسكو وبكين معًا، ولكن في جميع الأحوال من المبكر تحديد وجهة التفاعلات الجديدة، فشق كبير منها مرتبط بالنتائج النهائية لأزمة أوكرانيا.

فقد زارت عزرا زيا نائبة وزير الخارجية الأميركي للأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان العاصمة القيرغيزية (بشكيك) في منتصف أبريل/نيسان الماضي، والتقت عددا من المسؤولين هناك، وأشارت إلى استعداد الجانب الأميركي لتوقيع اتفاقية تعاون جديدة مع قرغيزستان.

وتواصل الولايات المتحدة تمويل تعزيز الحدود الطاجيكية الأفغانية، ويبدو أن هناك سباقا بين موسكو وواشنطن لمعرفة من سيخصص مزيدا من الأموال لطاجيكستان، حيث ستقدم روسيا منحة لدوشنبه لبناء موقع أمامي على الحدود الطاجيكية الأفغانية، حسب ما ذكرت “آسيا بلس”، والولايات المتحدة مستعدة أيضًا لبناء موقع حدودي خاص بها على الحدود الطاجيكية الأفغانية، وقال السفير الأميركي في طاجيكستان جون مارك بوميرسهايم إن واشنطن ستنفق أكثر من 60 مليون دولار على أمن طاجيكستان في العامين المقبلين، وكجزء من هذه المساعدة ستزود الحكومة الأميركية طاجيكستان بطائرات استطلاع من دون طيار لمراقبة المجال الجوي للبلاد في المناطق الحدودية. ووفقا للدبلوماسي الأميركي، فإن الولايات المتحدة خصصت في 30 عامًا -من التعاون- مئات الملايين من الدولارات لطاجيكستان، وقال بوميرسهايم “في عام 2022 ستصبح واشنطن المانح الأول لطاجيكستان”.

تتحول آسيا الوسطى على نحو متزايد إلى ساحة للمنافسة بين الصين جارتها العملاقة، والولايات المتحدة الأميركية التي أرادت تعزيز هيمنتها بعد الانتصار في الحرب الباردة وإضعاف روسيا مع انهيار الاتحاد السوفياتي.

3 من أصل 5 دول في آسيا الوسطى تحدّ أفغانستان، إذ يبلغ طول حدود أفغانستان مع طاجكستان 1200 كيلومتر، ومع تركمانستان 744 كيلومترًا، وأوزبكستان 137 كيلومترًا، ولا حدود لقرغيزستان مع أفغانستان، وتقع طاجيكستان بينهما؛ ومع ذلك فإن المسافة بين إقليم بدخشان الأفغاني ومنطقتي باتكين وتشون ألاي في قرغيزستان هي 300 كيلومتر فقط.

الهدف المُعلن لتحرك الولايات المتحدة تجاه آسيا الوسطى هو مكافحة الإرهاب والخطر الذي قد يأتي من أفغانستان، ولكن بين سطوره محاولة إبعاد روسيا عمّا كان يُعرف بحدائقها الخلفية، وخلق بؤرة قلق جديدة لموسكو عند حدودها الجنوبية بعد كسر عقود من حياد الدول المطلة على بحر البلطيق فنلندا والسويد وتقديمهما طلب انضمام إلى حلف الناتو.

وتخشى روسيا الآثار والارتدادات السلبية بسبب الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وتحول هذا البلد غير المستقر إلى بؤرة استنزاف لجوارها في آسيا الوسطى على تخوم روسيا الجنوبية، حيث لا تريد موسكو أن تتذرع واشنطن بذلك لإقامة قواعد أميركية في تلك الدول، وسبق أن أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عدم استعداد بلاده لرؤية عسكريين أميركيين في دول آسيا الوسطى بعد انسحابهم من أفغانستان.

احتفظت روسيا بدورها ضامنا رئيسا للأمن في المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، حتى عندما قبل الكرملين بالتفوق الاقتصادي للصين في آسيا الوسطى، إذ استفادت بكين من الصدام السياسي والاقتصادي بين روسيا والغرب، والعقوبات المتبادلة بين الطرفين، وزحفت بكل قوة إلى مناطق النفوذ التقليدية لموسكو، لكن يوحد الصين وروسيا تنافسهما مع الولايات المتحدة، وكلا البلدين يهدف إلى تقليص نفوذ واشنطن في المنطقة.

تتحول آسيا الوسطى على نحو متزايد إلى ساحة للمنافسة بين الصين جارتها العملاقة، والولايات المتحدة الأميركية التي أرادت تعزيز هيمنتها بعد الانتصار في الحرب الباردة وإضعاف روسيا مع انهيار الاتحاد السوفياتي.

وفسرت نخب دول آسيا الوسطى استقلالها مع انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه استقلال عن موسكو، وهو ما جعلهم يعتمدون على مراكز القوى الأخرى، بكين وواشنطن وتركيا جزئيا، إلا أنها تناشد وتلجأ إلى روسيا عند التهديدات القصوى، كما حدث مع كازاخستان مطلع العام الجاري 2022، ومع طاجيكستان في الحرب الأهلية أوائل التسعينيات.

ويرى البعض أن الرعونة في السياسة الخارجية الروسية لإدارة ملف دول الاتحاد السوفياتي السابق، مع قصر النظر الإستراتيجي لقيادة الجمهوريات المستقلة، أدت إلى جعل تلك الدول مسرحا للتنافس بين اللاعبين الدوليين، وإلى خسارة كبيرة للنفوذ الروسي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.

اعتادت الدول السوفياتية السابقة ورأت أن من الطبيعي أن تقدم روسيا لهم المزايا السياسية والتفضيلات الاقتصادية مقابل المشاركة في هياكل الاندماج التي أنشئت تحت رعاية روسيا، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. وفي الواقع، فإن أي منصة تكامل في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي تُستخدم من قبل الدول الأعضاء للترويج وتقديم مصالحها الوطنية التي تتغير اعتمادًا على المعادلات الإقليمية-الدولية سواء المعلن منها أو ما يجري وراء الكواليس.

ويعدّ السلوك الصريح لرئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، أثناء زيارته روسيا قبل أيام، مثالًا واضحًا على الاعتبارات السابقة، من خلال تصريحه المتعلق بالتزام بلاده بسياسة العقوبات المناهضة لموسكو، والذي يضع كازاخستان رسميا وبالفعل في موقف دولة غير صديقة لروسيا. ومع أنه وفقًا للتصريحات الرسمية الروسية، فإن أي دولة تدعم الحرب المختلطة التي شنّها الغرب على روسيا تصبح غير صديقة، إلا أن من غير المتوقع الاعتراف بذلك علنًا حيال كازاخستان من قبل المسؤولين الروس الذين اعتادوا التحدث عن ذلك بوضوح، وحتى تركيا الدولة العضو في الناتو، التي تتخذ موقفًا مؤيدًا لكييف في العلن، لم تعلن دعمها لنظام العقوبات الغربية على روسيا.

ويأتي موقف رئيس كازاخستان هذا بعد أشهر قليلة على طلبه المساعدة الأمنية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا والتزمت بسهولة بإرسالها قوات، مع انتشار الاحتجاجات ووصولها إلى ألماتا، أكبر مدن كازاخستان.

المصدر: وكالات + الجزيرة نت

Share.

صحفية عراقية من اربيل خريجة وزارة الاعلام في اربيل سنة 2004

Comments are closed.